ينزلُ من على سفح الجبل سيلُ ينبوع ٍ صغير . يغذيّ الزهر الجبليّ و العشب الذي نما من غير هدف ٍ واضح و عصفور ٍ يكاد يحطّ فيطير . يخلل ماءه الصافي العَذب ضوءٌ ذهبي لامع ، ترسله الشمس التي تسلّقتْ كتف السماء مثل الطفل ، كرة من خيوط لا يُعرف لها عدد أو نهاية . و مما يسكن في أذن الطبيعة خريرٌ يتسربلُ في ثنايا الروح باعثاً الهدوء و السَكينة ، يشطفُ جروحاً خلّفها الزمانُ على الحجر و يفيض حينما يهطل المطر . لكنه يبقى قطرات ٍ تتعلقُ بأفواه المغاور و كوى الكهوف ينزّ من على الهوابط و الصواعد .. أسنانُ الكهوف .
تمتدُ الحشائش و تتفرق بينها الأشواك و الأعشاب الطبيّة و المُخدِرّة . خضراء صفراء و بنيّة كامدة . قليلٌ منها له اسم عند الناس و أكثرها بلا اسم أو عنوان . أما الأزهار بسيقانها الضعيفة الرقيقة ، فيشّف عن الدحنون لونٌ أحمر حارق ، و الياسمين البريّ بياض الثلج و عذوبة سماء صافية . فلقد حلّ الربيع و عادتْ أسراب الطيور تُطعِّم طيور الجبل التي لا تُغادِر بخلايا تسري فيها دماء الهِجرة و الغُربة . لكن ثلاثة عصافير ترحل ، رابِعُها يبقى .. و تستمر الحكاية كل ربيع .
تركَ كفّه الكبيرة تنزلق فوق نتوءات الحائط النافرة . ثم استرق السمع مجدداً . كان القمر واقفاً في صعيد الأفق ، أبيضاً مستديراً و لا نور سواه في الظلام المتكاثف . جعل يدوّر على عقبيه بنفاد صبر ، و هو ينظر بتوجّس من طرف عينه إلى الباب المشقوق قليلاً . و خيال يكاد يتلاشى لضوء مصباح واقع على أرض العتبة . أدخل كفّه في جيب صُدّاره باحثاً عن علبة السجائر الخاليّة إلا من سيجارة واحدة ، أشعلها و مضى ينفث دخانها في الهواء شاعراً به حلقات في ثنايا صدره ، و في الهواء يتداخل نثارها الضبابيّ بالألق الشاحب للقمر . ارتدّ بخطاه مجدداً و ظهره إلى ناحية الباب . صرصار الليل لا ينفكّ يأزّ برتابة . سمع صوت شيء يتفتت داس عليه . و فجأة ً . انطلق صراخ من الداخل . راح يعدو على أثره ، دافعاً الباب . و إذا بها أمامه ممددة ً على الشرشف الخفيف ، منفرجة الفخذين ، متدليّة الذراعين بإرهاق ، حاسرة الثوب إلى وسطها . و ركبتيها منثنيتيّن إلى جسدها .
أما شعرها ، فقد تناثر فوق الوسادة ، و إحدى كفيّها تغطيّ وجهها ، راقدة ً دون حِراك . و إلى جانبها ، ألفى الداية العجوز حاملة ً بين يديها الطفل ، تقلّبه ، رافعة ً إياه من قدميه ، رأساً على عقب ، لاطمة ً إياه بالكفّ التي تحمل الخَاتم . كانت تحاول جاهدة ً أن تفتح في جوفه مجرى النَفس . و لذا استمّرت بالضرب على ظهر الطفل الصغير . و الأخير يزفرُ بإنفعال ، كاشفاً عن ظهر كقطعة لحم طريّة ، يتوسطها نتوءات عموده الفقري ، ذكّرته بنتوءات الحائط لأول وهلة . فوق آليّة صغيرة مكوّرة مشطورة إلى نصفين . و قد تلطّخ اللحم الضعيف بالدم . تقدّم من الطفل المعلّق بين ذراعي الدايّة العجوز بصمت ، و قدماه تعبران الشرشف المبسوط فوق الأرض الخشنة . انفتلَ القلق داخله يتلوّى على رنّات إيقاع مجهول ، شاعراً ببرودة تسري في أطرافه ، و عَرقاً تصفّد لكنه لا يجري إلى مستقر . مرقَ ببصره فوق الجسد ، الذي لم تتضح له معالمه المميّزة حينما نظر إليه أول الأمر من الخلف . ظلّ يهتزّ ، يقفل عينيّه و يشدّ أصابعه البراعم .
تمتدُ الحشائش و تتفرق بينها الأشواك و الأعشاب الطبيّة و المُخدِرّة . خضراء صفراء و بنيّة كامدة . قليلٌ منها له اسم عند الناس و أكثرها بلا اسم أو عنوان . أما الأزهار بسيقانها الضعيفة الرقيقة ، فيشّف عن الدحنون لونٌ أحمر حارق ، و الياسمين البريّ بياض الثلج و عذوبة سماء صافية . فلقد حلّ الربيع و عادتْ أسراب الطيور تُطعِّم طيور الجبل التي لا تُغادِر بخلايا تسري فيها دماء الهِجرة و الغُربة . لكن ثلاثة عصافير ترحل ، رابِعُها يبقى .. و تستمر الحكاية كل ربيع .
تركَ كفّه الكبيرة تنزلق فوق نتوءات الحائط النافرة . ثم استرق السمع مجدداً . كان القمر واقفاً في صعيد الأفق ، أبيضاً مستديراً و لا نور سواه في الظلام المتكاثف . جعل يدوّر على عقبيه بنفاد صبر ، و هو ينظر بتوجّس من طرف عينه إلى الباب المشقوق قليلاً . و خيال يكاد يتلاشى لضوء مصباح واقع على أرض العتبة . أدخل كفّه في جيب صُدّاره باحثاً عن علبة السجائر الخاليّة إلا من سيجارة واحدة ، أشعلها و مضى ينفث دخانها في الهواء شاعراً به حلقات في ثنايا صدره ، و في الهواء يتداخل نثارها الضبابيّ بالألق الشاحب للقمر . ارتدّ بخطاه مجدداً و ظهره إلى ناحية الباب . صرصار الليل لا ينفكّ يأزّ برتابة . سمع صوت شيء يتفتت داس عليه . و فجأة ً . انطلق صراخ من الداخل . راح يعدو على أثره ، دافعاً الباب . و إذا بها أمامه ممددة ً على الشرشف الخفيف ، منفرجة الفخذين ، متدليّة الذراعين بإرهاق ، حاسرة الثوب إلى وسطها . و ركبتيها منثنيتيّن إلى جسدها .
أما شعرها ، فقد تناثر فوق الوسادة ، و إحدى كفيّها تغطيّ وجهها ، راقدة ً دون حِراك . و إلى جانبها ، ألفى الداية العجوز حاملة ً بين يديها الطفل ، تقلّبه ، رافعة ً إياه من قدميه ، رأساً على عقب ، لاطمة ً إياه بالكفّ التي تحمل الخَاتم . كانت تحاول جاهدة ً أن تفتح في جوفه مجرى النَفس . و لذا استمّرت بالضرب على ظهر الطفل الصغير . و الأخير يزفرُ بإنفعال ، كاشفاً عن ظهر كقطعة لحم طريّة ، يتوسطها نتوءات عموده الفقري ، ذكّرته بنتوءات الحائط لأول وهلة . فوق آليّة صغيرة مكوّرة مشطورة إلى نصفين . و قد تلطّخ اللحم الضعيف بالدم . تقدّم من الطفل المعلّق بين ذراعي الدايّة العجوز بصمت ، و قدماه تعبران الشرشف المبسوط فوق الأرض الخشنة . انفتلَ القلق داخله يتلوّى على رنّات إيقاع مجهول ، شاعراً ببرودة تسري في أطرافه ، و عَرقاً تصفّد لكنه لا يجري إلى مستقر . مرقَ ببصره فوق الجسد ، الذي لم تتضح له معالمه المميّزة حينما نظر إليه أول الأمر من الخلف . ظلّ يهتزّ ، يقفل عينيّه و يشدّ أصابعه البراعم .
عُقد الأصابع تتشنج و تنعقف إلى الداخل . خطى بقدمه نحو العجوز المتربّعة و اختطف الجسم متلهفاً ، ممرراً ما بين الفخذين على ضوء المصباح الخافت . ظلّ موجهاً الضوء إلى تلك البقعة مدّة من الزمن . كفّ الطفل خلالها عن البكاء . و لمّا لم يعد هنالك مجالٌ للشك و قد اتضحتْ له الصورة أخيراً ، حمله ثانيّة ً إلى العجوز و انحنى بجسده أقرب إلى زوجته ، الراقدة على ظهرها ، و التي لم تُحرّك ساكناً حتى اللحظة . أرجح ساقه و تركها تندفع بمشطها الكبير الذي غطّاه حذاء جلدي سميك ، مرتطمة ً بجنبها المكشوف و ساقيّها المُدمتين . ثم نبح ..
- يا بنت الكلب . أنا أتعب طيلة النهار في الأرض و أنت ِ تأتي لي بالبنات ؟! ما حاجتي إليهن ؟ قلتُ على الأقل .. ولد يستر عليّ في آخر هذا العمر . يفلح معي الأرض و يحرثها . لكن عَبس ! . أمي قالت لي .. شكلها يا عبدْ ولاّدة بنات . أنا لم أصدّق . و هذه آخرتها يا ..
و تراجع بجذعه إلى الوراء ، مطوّحاً بقدمه اليمنى ، مستنداً بالأخرى على أرض الحجرة . لكن العجوز اعترضته ، مرتميّة ً على قدميه ..
- اتق ِ الله يا رجل . يعني لم يخطر ببالك سكونها و صمتها حتى الآن ؟ .. إنها ميتة ، ماتت و هي تضع لك هذه العروس . نزل العرق من وجهها ، و اللعاب من شفّتها و انقطع نَفسها . ضحّتْ بنفسها و رمتْ بروحها في سبيل هذه الصغيرة البائسة يتيمة الأم ..
- هذه بنت ! أنت واعيّة ؟ في المستقبل تكبر و يصير شباب الضيعة يصبحوّا و يمسوّا من أمام بيتي . يا سلام ! جسمها لوحده سوف يتعبها ، و يا خوفي ..
قاطعته و الكلمات تكاد تقفز من على شفتيّها ..
- و افرضْ أنها بنت يا زلمة . عندك أنا مثلاً . صحيح أرملة و عندي كوم لحم في الدار . لكن الله أعلم . أقوم من الصبح مثل القردة و أدور من دار لدار أتشمم الأخبار . فلانة تزوجت يوم ستة الشهر ، أسجّل اسمها في الدفتر . والدي الله يرحمه ، قال هذه البنت تتعلم . كان طيّب و كريم معنا نحن البنات . بالله عليك . عمركْ سمعتْ عني شيء عاطل ؟ بالشيب الذي في رأسك . الشغل الذي أقوم به يقدر عليه خمسة رجال من أهل الضيعة ؟ قل ؟ مالك ساكتْ .. انطق ْ .
- و أنا ما لذي يضمنْ لي أن مكبرها مثلك ؟ هل نسيتي حكاية بنت الخباز الشهر الفائت ؟ خذي امسكي ، الله يقطع هذا الجنس . أنا بحبحتْ الأجرة .
مُريّ على اللحام و خذي لهم لحم . قال عروس قال !
و ضغط كفّها على صرّة صغيرة من المال وضعها في يدها ..
أشاحتْ بيدها راكضة ً نحو العتبة بخطى متعثرة ، و قد اخترقتْ العتمة بجذعها الضعيف . و لمّا خرج يرمي بعقب السيجارة الذي كان لا يزال عالق بين أصبعيه . وجدها تَركي بساعدها على الحائط ، و رأسها الملفوف بشال أبيض قد انحنى . و على ضوء القمر ، رأى في عينيّها احتقان .. و بقايا دمع .
ضربَ بالفأس ضربتيّن قويتيّن . ثم أمرّ بكفّه على جبهته المعرِّقة . أصلح من وضع القمباز و حاول أن يسدّ خياشيم أنفه حيال الغبار المتطاير . كان التابوت المصنوع من خشب الجوز يتوسّد الأحجار و الأعشاب . سيدفن الأم الميتة أولاً ثم يتفرّغ للصغيرة ، التي لا تني تُناغي و تُقلّب رأسها بعينيه المغمضتين ، و شفتيّها حول لسانها ، في لفّة في ظل شجرة قريبة . مساءً ، بعد أن يمرّ آخر العمال من الطريق الترابيّ . يزرعها في الأرض و يهيّل عليها التراب تدريجيّاً . كما فعل أبوه من قبل . كان يفوق عمر أخته الرضيعة بسنوات . و ذات يوم و أمه لا تزال تعاني من أثار المخاض على جسدها . صعد أبوه عالياً و الرضيعة بين كفيّه . راقبه خفيّة ً ، و لم يمض ِ وقتٌ طويل ..
تلافى أرض التينة لأنها تشرّش بجذرها في الأعماق . لذا قرر أن يدفن الزوجة في المنطقة الخاليّة الضيّقة الباقيّة من الأرض . تأرجح الفأس مجدداً فوق ذراعه و على مستوى رأسه . ركّز قدميّه جيداً على الأرض و ضرب . اتسعتْ النقطة لتصيرَ دائرة ، فدائرة أكبر و أخيراً حفرة بيضويّة مُقعّرة . أردفَ في نفسه قائلاً :
" عجباً . الوحيدة التي إذا أخذنا منها زادتْ .. هي الحفرة "
أخرجَ من كيّس خيش جلبه معه طوريّة . أخرج بها التراب مُوسِعاً الحُفرة . و بعد أن طرح الجثّة المكفّنة ، و التي لم يكن هنالك من أحد ٍ غيره ليحضرَ مراسم دفنها .
و بعد أن أهال فوقها التراب . رشّ على القبر الماء و أوسده رخامة كشاهد يدل على فلانة بنت فلان ، في تاريخ كذا ، بلا كنيّة كأم فلانة . و حانتْ منه نظرة إلى اللفة البيضاء أسفل الشجرة ، على بُعد أمتار قليلة . لم يكف منذ البارحة عن التفكيّر بها . برأسها الأقرع و جسدها الذي كالولد . و منظر بيت الأنوثة العاري تحت ضوء المصباح . أطلّ فوقها بإنحناءة ، حجبتْ السماء و احتلّتْ مجال الرؤية ، بعينيّن مُكهفتيّن و فَم ٍ مُزبِدْ . بشفتيّن عريضتيّن مزمومتيّن راجفتيّن و وجه ٍ مُتعب غير حليق ، تهدّلتْ من على استدارته لحيّة قصيرة . كانت الصغيرة تنمنم بشفتيّها الرقيقتيّن مُخرِجة ً لساناً ورديّاً بين الفينة و الأخرى . فرجّح أنها تَنشدُ الرضاع . رفع بصره نحو السماء و جفناه في أزيز ٍ مضطرب . سُمِعَ من بعيد كأنه يتكلم مع أحدهم بصوت ٍ متهدّج ، ارتفعتْ وتيرته شيئاً فشيئاً ، و هو يحمل اللفة فوق ذراعه الأيمن و الكيس الخيش في اليُسرى .. و يهمّ بالوقوف معتدلاً عن انحناءته .
شيئاً فشيئاً تُعتِّم الدنيا ، ليحلّ الظلام النهائي قبل أن يقشعه ضوء نهار اليوم التالي . استدعى الداية ، التي انتحتْ بالرضيعة و قد انشغلتْ بفكّ أزرار ثوبها . خرج ليدخّن عند العتبة . سينتظر كي يبتلع الطريق العجوز ثم يمضيّ باللفة و الكيس مجدداً . سيحدد موضع الدفن و يضرب ضربتين لا أكثر . يجمع حولها التراب بتأن ٍ . لن يُبالي بصراخها ، أو أنه سينهض حالاً ليبحث عن قطن يسدّ به أذنيّه . لكن ماذا عن النظرات ؟ وجهها تحت التراب ؟ . الدايّة قالت .. غداً تكبر و تصير عروس .
" هه . و هذه الأرض ؟ أتركها للغريب يستفيّد منها بعدي ؟ "
رمى بعقب السيجارة و نادى بأعلى صوته :
" شبعتْ الهانم ؟ "
انشقّ الباب عن وجه الدايّة المتألم ..
- المسكينة عضعضتْ صدري من الجوع . الحقّ عليّ . لازم أخذتها معي بمجرد ما وضعتْها أمها ..
قال في نفسه بخبث :
" رح تندفنْ و حليب صدرك عالق في فمها "
- محتاج شيء ثاني يا أخويّ ؟
سها عن وجودها . أخذتْ يداه تعبثان بمحتويّات كيّس الخيش ..
- قلتْ يا أخويّ . أستأذنك و من الصبح ..
- نعم ؟ .. يا أختي الله يسهّل أمرك . الله معك .
و بعد وقفة قصيرة . أعطتْ له فيها العجوز ظهرها ..
- خذي ، أنا أتعبتك معيّ ..
دارتْ على عقبيّها ثم استقرّتْ نظراتها على أصابعه ..
- تريد مني أن أبيع حليبي يا عَبد ؟ ضُبّ فلوسك .. يا عيب على الرجال ! .
¤ ¤ ¤
اللفّة فوق الذراع اليمين . و كيس الخيش ، الذي بدا أثقل الآن ، في اليد اليُسرى . أقنع العجوز بقبول المال . قال لها : " مَن سيحنيّ العروس غيرك ؟ " ، فرِحتْ العجوز . و بعدما غيّبها الطريق . دخل الحجرة ، فأمسكَ بالرضيعة مُيمماً وجهه شطر وجهته . مشى . أحسّ بالنسائم الربيعيّة العَذبة فوق خّدّه . سمع أصوات الطيور و هي تجوب المساء الهادىء . لم يكن الطريق يضيئه إلا القمر . سار في الظلام الدامس . تعثّر ، ترنّح . سقطتْ قدماه في حُفر الطريق . لكنه اعتدل و تمالك نفسه و اتزانه . مال ثانيّة ً تحت وطأة كيس الخيش الثقيل . و على مقربة من قبر الزوجة ، بدا كمن يجرّ نفسه بصعوبة . ضربَ ضربتيّن في الأرض من فأسه . و بطرف عينه ، زوى بنظره إلى اللفة الموضوعة فوق قبر الأم .
فثلّث بضربة فأس ٍ جديدة ، توقّف على أثرها ليأخذ نَفس هواء .
عّبّ بصدره من الهواء الربيعيّ ، و أفلتتْ منه تنهيدة . حمل الرضيعة بين كفيّه بعد أن جردّها من لفّتها . و على ضوء القمر . ركع على ركبتيّه ، و كفّاه تحيطان باللحم الطريّ . كانت لا تزال تحرّك بشفتيّها و رأسها . بكفيّها اللتيّن كورق الكَرمة وعينيّها المُغمضتين . حرّك جسمها فوق التراب ، فازدادتْ حركة يديّها و قدميّها . رفعها بمحاذاة وجهه . كانت الآن بلا ملامح واضحة . و قبل أن يدفعها إلى الحفرة مرة ً و إلى الأبد . طالتْ كفّها لحيته القصيرة المُشعثة . أحسّ بجلده يحكه ، و خدر اللمسات الضئيلة تسريّ إلى ذقنه ، كأنها تريد أن تَنفِض الغبار الذي لوّث شعرها . لم تبك ِ . كان وجهها صافيّاً وضّاءاً مثل القمر . ارتعش فجأة ً ، شادّاً إياها نحو صدره . بلحمها الطريّ المكشوف . و بدأ بالنشيجْ
- يا بنت الكلب . أنا أتعب طيلة النهار في الأرض و أنت ِ تأتي لي بالبنات ؟! ما حاجتي إليهن ؟ قلتُ على الأقل .. ولد يستر عليّ في آخر هذا العمر . يفلح معي الأرض و يحرثها . لكن عَبس ! . أمي قالت لي .. شكلها يا عبدْ ولاّدة بنات . أنا لم أصدّق . و هذه آخرتها يا ..
و تراجع بجذعه إلى الوراء ، مطوّحاً بقدمه اليمنى ، مستنداً بالأخرى على أرض الحجرة . لكن العجوز اعترضته ، مرتميّة ً على قدميه ..
- اتق ِ الله يا رجل . يعني لم يخطر ببالك سكونها و صمتها حتى الآن ؟ .. إنها ميتة ، ماتت و هي تضع لك هذه العروس . نزل العرق من وجهها ، و اللعاب من شفّتها و انقطع نَفسها . ضحّتْ بنفسها و رمتْ بروحها في سبيل هذه الصغيرة البائسة يتيمة الأم ..
- هذه بنت ! أنت واعيّة ؟ في المستقبل تكبر و يصير شباب الضيعة يصبحوّا و يمسوّا من أمام بيتي . يا سلام ! جسمها لوحده سوف يتعبها ، و يا خوفي ..
قاطعته و الكلمات تكاد تقفز من على شفتيّها ..
- و افرضْ أنها بنت يا زلمة . عندك أنا مثلاً . صحيح أرملة و عندي كوم لحم في الدار . لكن الله أعلم . أقوم من الصبح مثل القردة و أدور من دار لدار أتشمم الأخبار . فلانة تزوجت يوم ستة الشهر ، أسجّل اسمها في الدفتر . والدي الله يرحمه ، قال هذه البنت تتعلم . كان طيّب و كريم معنا نحن البنات . بالله عليك . عمركْ سمعتْ عني شيء عاطل ؟ بالشيب الذي في رأسك . الشغل الذي أقوم به يقدر عليه خمسة رجال من أهل الضيعة ؟ قل ؟ مالك ساكتْ .. انطق ْ .
- و أنا ما لذي يضمنْ لي أن مكبرها مثلك ؟ هل نسيتي حكاية بنت الخباز الشهر الفائت ؟ خذي امسكي ، الله يقطع هذا الجنس . أنا بحبحتْ الأجرة .
مُريّ على اللحام و خذي لهم لحم . قال عروس قال !
و ضغط كفّها على صرّة صغيرة من المال وضعها في يدها ..
أشاحتْ بيدها راكضة ً نحو العتبة بخطى متعثرة ، و قد اخترقتْ العتمة بجذعها الضعيف . و لمّا خرج يرمي بعقب السيجارة الذي كان لا يزال عالق بين أصبعيه . وجدها تَركي بساعدها على الحائط ، و رأسها الملفوف بشال أبيض قد انحنى . و على ضوء القمر ، رأى في عينيّها احتقان .. و بقايا دمع .
ضربَ بالفأس ضربتيّن قويتيّن . ثم أمرّ بكفّه على جبهته المعرِّقة . أصلح من وضع القمباز و حاول أن يسدّ خياشيم أنفه حيال الغبار المتطاير . كان التابوت المصنوع من خشب الجوز يتوسّد الأحجار و الأعشاب . سيدفن الأم الميتة أولاً ثم يتفرّغ للصغيرة ، التي لا تني تُناغي و تُقلّب رأسها بعينيه المغمضتين ، و شفتيّها حول لسانها ، في لفّة في ظل شجرة قريبة . مساءً ، بعد أن يمرّ آخر العمال من الطريق الترابيّ . يزرعها في الأرض و يهيّل عليها التراب تدريجيّاً . كما فعل أبوه من قبل . كان يفوق عمر أخته الرضيعة بسنوات . و ذات يوم و أمه لا تزال تعاني من أثار المخاض على جسدها . صعد أبوه عالياً و الرضيعة بين كفيّه . راقبه خفيّة ً ، و لم يمض ِ وقتٌ طويل ..
تلافى أرض التينة لأنها تشرّش بجذرها في الأعماق . لذا قرر أن يدفن الزوجة في المنطقة الخاليّة الضيّقة الباقيّة من الأرض . تأرجح الفأس مجدداً فوق ذراعه و على مستوى رأسه . ركّز قدميّه جيداً على الأرض و ضرب . اتسعتْ النقطة لتصيرَ دائرة ، فدائرة أكبر و أخيراً حفرة بيضويّة مُقعّرة . أردفَ في نفسه قائلاً :
" عجباً . الوحيدة التي إذا أخذنا منها زادتْ .. هي الحفرة "
أخرجَ من كيّس خيش جلبه معه طوريّة . أخرج بها التراب مُوسِعاً الحُفرة . و بعد أن طرح الجثّة المكفّنة ، و التي لم يكن هنالك من أحد ٍ غيره ليحضرَ مراسم دفنها .
و بعد أن أهال فوقها التراب . رشّ على القبر الماء و أوسده رخامة كشاهد يدل على فلانة بنت فلان ، في تاريخ كذا ، بلا كنيّة كأم فلانة . و حانتْ منه نظرة إلى اللفة البيضاء أسفل الشجرة ، على بُعد أمتار قليلة . لم يكف منذ البارحة عن التفكيّر بها . برأسها الأقرع و جسدها الذي كالولد . و منظر بيت الأنوثة العاري تحت ضوء المصباح . أطلّ فوقها بإنحناءة ، حجبتْ السماء و احتلّتْ مجال الرؤية ، بعينيّن مُكهفتيّن و فَم ٍ مُزبِدْ . بشفتيّن عريضتيّن مزمومتيّن راجفتيّن و وجه ٍ مُتعب غير حليق ، تهدّلتْ من على استدارته لحيّة قصيرة . كانت الصغيرة تنمنم بشفتيّها الرقيقتيّن مُخرِجة ً لساناً ورديّاً بين الفينة و الأخرى . فرجّح أنها تَنشدُ الرضاع . رفع بصره نحو السماء و جفناه في أزيز ٍ مضطرب . سُمِعَ من بعيد كأنه يتكلم مع أحدهم بصوت ٍ متهدّج ، ارتفعتْ وتيرته شيئاً فشيئاً ، و هو يحمل اللفة فوق ذراعه الأيمن و الكيس الخيش في اليُسرى .. و يهمّ بالوقوف معتدلاً عن انحناءته .
شيئاً فشيئاً تُعتِّم الدنيا ، ليحلّ الظلام النهائي قبل أن يقشعه ضوء نهار اليوم التالي . استدعى الداية ، التي انتحتْ بالرضيعة و قد انشغلتْ بفكّ أزرار ثوبها . خرج ليدخّن عند العتبة . سينتظر كي يبتلع الطريق العجوز ثم يمضيّ باللفة و الكيس مجدداً . سيحدد موضع الدفن و يضرب ضربتين لا أكثر . يجمع حولها التراب بتأن ٍ . لن يُبالي بصراخها ، أو أنه سينهض حالاً ليبحث عن قطن يسدّ به أذنيّه . لكن ماذا عن النظرات ؟ وجهها تحت التراب ؟ . الدايّة قالت .. غداً تكبر و تصير عروس .
" هه . و هذه الأرض ؟ أتركها للغريب يستفيّد منها بعدي ؟ "
رمى بعقب السيجارة و نادى بأعلى صوته :
" شبعتْ الهانم ؟ "
انشقّ الباب عن وجه الدايّة المتألم ..
- المسكينة عضعضتْ صدري من الجوع . الحقّ عليّ . لازم أخذتها معي بمجرد ما وضعتْها أمها ..
قال في نفسه بخبث :
" رح تندفنْ و حليب صدرك عالق في فمها "
- محتاج شيء ثاني يا أخويّ ؟
سها عن وجودها . أخذتْ يداه تعبثان بمحتويّات كيّس الخيش ..
- قلتْ يا أخويّ . أستأذنك و من الصبح ..
- نعم ؟ .. يا أختي الله يسهّل أمرك . الله معك .
و بعد وقفة قصيرة . أعطتْ له فيها العجوز ظهرها ..
- خذي ، أنا أتعبتك معيّ ..
دارتْ على عقبيّها ثم استقرّتْ نظراتها على أصابعه ..
- تريد مني أن أبيع حليبي يا عَبد ؟ ضُبّ فلوسك .. يا عيب على الرجال ! .
¤ ¤ ¤
اللفّة فوق الذراع اليمين . و كيس الخيش ، الذي بدا أثقل الآن ، في اليد اليُسرى . أقنع العجوز بقبول المال . قال لها : " مَن سيحنيّ العروس غيرك ؟ " ، فرِحتْ العجوز . و بعدما غيّبها الطريق . دخل الحجرة ، فأمسكَ بالرضيعة مُيمماً وجهه شطر وجهته . مشى . أحسّ بالنسائم الربيعيّة العَذبة فوق خّدّه . سمع أصوات الطيور و هي تجوب المساء الهادىء . لم يكن الطريق يضيئه إلا القمر . سار في الظلام الدامس . تعثّر ، ترنّح . سقطتْ قدماه في حُفر الطريق . لكنه اعتدل و تمالك نفسه و اتزانه . مال ثانيّة ً تحت وطأة كيس الخيش الثقيل . و على مقربة من قبر الزوجة ، بدا كمن يجرّ نفسه بصعوبة . ضربَ ضربتيّن في الأرض من فأسه . و بطرف عينه ، زوى بنظره إلى اللفة الموضوعة فوق قبر الأم .
فثلّث بضربة فأس ٍ جديدة ، توقّف على أثرها ليأخذ نَفس هواء .
عّبّ بصدره من الهواء الربيعيّ ، و أفلتتْ منه تنهيدة . حمل الرضيعة بين كفيّه بعد أن جردّها من لفّتها . و على ضوء القمر . ركع على ركبتيّه ، و كفّاه تحيطان باللحم الطريّ . كانت لا تزال تحرّك بشفتيّها و رأسها . بكفيّها اللتيّن كورق الكَرمة وعينيّها المُغمضتين . حرّك جسمها فوق التراب ، فازدادتْ حركة يديّها و قدميّها . رفعها بمحاذاة وجهه . كانت الآن بلا ملامح واضحة . و قبل أن يدفعها إلى الحفرة مرة ً و إلى الأبد . طالتْ كفّها لحيته القصيرة المُشعثة . أحسّ بجلده يحكه ، و خدر اللمسات الضئيلة تسريّ إلى ذقنه ، كأنها تريد أن تَنفِض الغبار الذي لوّث شعرها . لم تبك ِ . كان وجهها صافيّاً وضّاءاً مثل القمر . ارتعش فجأة ً ، شادّاً إياها نحو صدره . بلحمها الطريّ المكشوف . و بدأ بالنشيجْ