هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شراع الصداقة
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد!يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى
بكل عباراتـ التهانيـ... بكل الحب
والامانيـ...بكل احساس ووجدانيـ...كل عام وانتمـ بخيرالثلج هدية الشتاء ... والشمس هدية الصيف .... والزهور هدية الربيع .. وأنت يا منتدانا هدية العمر
و أنا على وشك الخروج للعمل صباحا تلقيتُ اتصالاً من رقم هاتفٍ غريب، و عرفتُ بعدها أنه صديقي وليد شاكر! أخبرني وليد بأنّ قريبته قد أُصيبتْ إصابة بالغة في رِجلها و يدها و أنّه تمّ إدخالها إلى المستشفى و إجراء عمليّة طارئة لها آخر الليل... و رجاني أن أصطحِب زوجته و والدتها إلى المستشفى...
صديقي وليد كان منهاراً و هو يتحدّث إليّ عبر الهاتف وكان صوته حزيناً و أقرب إلى النحيب. و لأنني صديقه الأوّل فقد كان وليد يلجأ إليّ كلما ألمّتْ به ضائقة أو أصابته كربة... و كان يضعف قليلا لكنّه سرعان ما يستعيد قواه و يقف صامداً دون انحناء... أمّا هذه الأزمة فقد دهورتْ نفسيته بشكل سريع و شديد للغاية، ممّا أدى إلى انحدار صحّته و قدرته على العمل تباعا. يعاني وليد من قرحة مزمنة في المعدة و هي تنشط و تتفاقم مع الضغوط النفسية. و قد كان الأطباء ينصحونه بالاسترخاء و النقاهة كلما تهيّجتْ و بالإقلاع عن التدخين، و أظنّه أقلع عن السجائر و لكنّه أهمل علاج قرحته في هذه الفترة إلى أن تطوّر وضعها للأسوأ كما ستعرفون لاحقاً.
وليد متعلّق بشدّة بابنة عمّه المصابة هذهِ و أخالهُ يخبل لو ألّم بها شيء! و قد كانت ابنة عمّه ترافقه كالظلّ عندما كنّا صغارا في سني المدارس و كان يحبّها جدا و كثيرا ما اصطحبها معه في زياراته لي و في تجوالنا سوياً... و قد افترق عنها سنوات حبسه في السجن... و رحلتْ مع عائلته بعيدا عن المدينة... ثمّ دارتْ الأيام لتعيد جمعه بها من جديد... و تجعله وصياً شرعيا عليها و مسؤولا أولا عن رعايتها...
عندما وصلنا دخلت ْ السيدتان إلى غرفة المريضة و رأيتُ وليد يخرج إليّ بعد ذلك...
و كما توقـّعت ُ بدا الرجل متعباً جداً... و كأنّه قضى الليلة الماضية في عملٍ بدني شاق... سألته عن أحواله و أحوال قريبته فردّ ببعض الجمل المبتورة و تمتم بعبارات الشكر
" لا داعي لهذا يا عزيزي ! إننا أخوَان و صديقان منذ الطفولة ! "
ابتسم وليد ابتسامة شاحبةً جداً ثم قال:
" عليّ أن أسرع "
قلتُ مقاطعا :
" لا تبدو بحالةٍ جيدةٍ يا وليد ! دعني أقلّك بسيارتي... ذهاباً و عودةً "
و أعاد الابتسام و لكن هذه المرة بامتنان... أوصلتُ وليد إلى منزله حيث قضى حوالي العشرين دقيقة رتّب خلالها أموره و شربنا سوية بعض الشاي على عجل... الرجل كان مشغول البال جداً و مخطوف الفكر... و قد حاولتُ مواساته و تشجيعه لكنه كان قد تعدّى مستوى المساواة بكثير، و بما أنني أعرفه فأنا لا استغرب حالته هذه... إنه مهووس بقريبته و قد باح لي برغبته في الزواج منها رغم أي ظروف ! و قبل أن أركن السيارة في مواقف المستشفى الخاصة رأيته يفتح الباب و يكاد يقفز خارجاً
" على مهلكَ يا رجل ! هوّن عليك ! "
قال و هو يمسك بالباب المفتوح قليلا :
" أخشى أن تستفيق ثم لا تجدني و تصاب بالفزع... إنها متعبة للغاية يا سيف و إن أصابها شيء بها فسأجن "
ألم أقل لكم ؟؟
رددتُ عليه بتهوّر :
" أنت مجنون مسبقاً يا وليد "
و انتبهتُ لجملتي الحمقاء بعد فوات الأوان. التفتَ وليد إليّ و قد تجلّى الانزعاج على وجهه ممزوجاً بالأسى...فاعتذرتُ منه مباشرةً :
" آسِف يا وليد ! لم أقصد شيئاً "
تنهّد وليد و لم يعلّق... ثم شكرني و غادر السيارة... هتفتُ و أنا ألوّح له من النافذة و هو يهرول مبتعداً :
" اتصل بي و طمئني إن جدّ شيء "
و توليتُ بنفسي إبلاغ السيّد أسامة المنذر- نائب المدير- أن وليد سيتغيب عن العمل و أوجزتُ له الأسباب.
السيّد أسامة كان نائباً للمدير السابق عاطف - أبي عمّار - البحري رحمهما الله، و كان على علاقة وطيدة بآل بحري، و على معرفة جيّدة بنا أنا و والدي و فور اكتشافه بأن وليد هو ذاته قاتل عمّار، قدّم استقالته و رفض التعاون مع وليد و العمل تحت إدارته. و لكن... بتوصية منّي و من والدي، و بعد محاولات متكررة نجحنا في تحسين صورة وليد في نظره و أفلحنا في إقناعه بالعودة للعمل خصوصا و أن وجوده كان ضروريّا جدا بحكم خبرته الطويلة و أمانته. و مع الأيام توطّدتْ العلاقة بين وليد و السيّد أسامة الذي عرف حقيقة وليد و أخلاقه و استقامته. و صار يقدّره و يتعامل معه بكل الاحترام و المحبّة. أما بقيّة موظفي المصنع و الشركة، فكانتْ مواقفهم تجاه وليد متباينة و كنتُ في خشية على وليد من ألسنتهم. غير أن وليد تصرّفَ بشجاعةٍ و لم يعرْ كلامهم اهتماماً حقيقياً و أثبتَ للجميع قدرته على الصمود و تحمُّل مسؤولية العمل مهما كانتْ الأوضاع.
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
لوّحتُ لسيف بيدي و أسرعتُ نحو غرفة رغد. وجدتُها لا تزال نائمةً... و إلى جوارها تجلسُ أروى و الخالة. سألتهما عما إذا كانت قد استيقظتْ فأجابتا بالنفي... اقتربتُ منها فإذا بأروى تمدّ يدها إليّ بهاتفي المحمول و تقول:
" تفضّل.. جلبته معي لكَ "
تناولتُ الهاتف و جلستُ على مقربة أتأمل وجه رغد... و ألقي نظرةً بين الفينة و الأخرى على شاشةِ جهاز النبض الموصول بأحد أصابعها...
بعد قليل مرّتْ الممرّضة لتفقّد أحوال رغد و نزعتْ الجهاز عنها. خاطبتها :
" كيف هي ؟ "
أجابتْ :
" مستقرة "
قلتُ :
" و لماذا لا تزال نائمة ؟ "
قالتْ :
" يمكنكم إيقاظها إن شئتم "
و بعد أن غادرتْ بقينا صامتين لوهلة... ثم التفتُّ نحو أروى و سألتها:
" كيف وقعتما ؟ "
ظهر التردد على وجه أروى و اكتسى ببعض الحمرة... ما أثار قلقي... ثم تبادلتْ نظرة سريعة مع خالتي و نطقتْ أخيرا :
" كنا... واقفتين على الدرجات... و... تشاجرنا... ثمّ..."
قاطعتها و سألتُ باهتمام :
" تشاجرتما ؟؟ "
أومأتْ أروى إيجابا... و سمعتُ خالتي تُتمتم:
" يهديكما الله "
قلتُ بشغف :
" في ذلك الوقت المتأخر من الليل؟؟ و على عتبات السلم؟؟ "
و تابعتُ :
" لأجل ماذا؟؟ و كيف وقعتما هكذا؟؟ "
قالتْ أروى مباشرةً و باختصار:
" كان حادثاً... عفوياً "
انتظرتُ أن تفصّل أكثر غير أنها لاذتْ بالصمت و هربتْ بعينيها منّي... قلتُ مستدرّاً توضيحها:
" و بعد؟ "
فرمقتني بنظرة عاجلة و قالتْ :
" مجرّد حادثٍ عفوي"
انفعلتُ و أنا ألاحظ تهربّها من التفصيل فقلتُ بصوت ٍ قوي :
" مجرد حادثٍ عفوي؟؟ اُنظري ما حلّ بالصغيرة... ألم تجدي وصفاً أفظع من (حادث عفوي)؟؟ "
نطقتْ أروى في وجس :
" وليد ! "
فرددتُ بانفعال :
" أريد التفاصيل يا أروى؟ ما الذي يجعلكِ تتشاجرين مع رغد في منتصف الليل و على عتبات السلم ؟؟ أخبريني دون مراوغة فأنا رأسي بالكاد يقف على عنقي الآن "
هنا أحسسنا بحركةٍ صدرتْ عن رغد فتوجهتْ أنظارنا جميعا إليها... فتحتْ رغد عينيها فتشدّقتُ بهما بلهفة... و اقتربتُ منها أكثر و ناديتُ بلطف :
" رغد ... صغيرتي ... "
الفتاة نظرتْ إليّ أولا ثم راحتْ تجوبُ بأنظارها فيما حولها و حين وقعتْ على أروى و القابعة على مقربة فجأة... تغيّر لونها و احتقنتْ الدماء في وجهها وصاحتْ :
" لا... أبْعِدْها عني... أبْعِدْها عنّي... "
أروى قفزتْ واقفةً بذعر... و الخالة مدّتْ يديها إلى رغد تتلو البسملة و تذكر أسماء الله محاولة تهدئتها...
أمسكتُ بيد رغد غير المصابة و أنا أكرر :
" بسم الله عليك ِ ... بسم الله عليك ِ ... اهدئي رغد أرجوك ِ ... "
رغد نظرتْ إليّ و صاحتْ بقوة:
" أبْعِدْها عني... لا أريد أن أراها... أبعدها... أبعدها ... أبعدها "
التفتُ إلى أروى و صرختُ:
" ما الذي فعلتِه بالفتاة يا أروى؟؟ أُخرجي الآن "
أم أروى قالتْ معترضةً :
" وليد ! "
فقلتُ غاضباً :
" ألا ترين حال الصغيرة ؟؟ "
و أتممتُ موجهاً الكلام إلى أروى :
" أُخرُجي يا أروى... أنا ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ قليلا... ابقي في الخارج هيّا "
و أروى سرعان ما أذعنتْ للأمر و هرولتْ إلى الخارج... حينها التفتُ إلى رغد و أنا أحاول تهدئتها :
" ها قد ذهبتْ ... أرجوك اهدئي يا صغيرتي... بسم الله عليكِ و يحفظكِ ... "
لكنها قالتْ و هي لا تتمالك نفسها:
" لا أريد أن أراها... أبْعِدْها عني... أتتْ تشمتُ بي... إنها السبب... أنا لا أطيقها...قلتُ لك لا أريد أن أراها... لماذا سمحتَ لها بالمجيء؟؟ هل تريد قتلي؟ أنتَ تريد لي الموت... لماذا تفعل هذا بي يا وليد ؟؟ ألا يكفي ما أنا فيه؟؟ لماذا قـُل لماذا... لماذا ؟؟ "
جمّدني الذهول حتّى عن استيعاب ما أسمعه... لا أدري إن كان هذا ما قالته بالفعل أو إن كانت رغد هي التي تتكلّم الآن... أنا لن أؤكد لكم بسماعي شيء... إن أذنيّ فقدتا حاسة السمع و دماغي فقد القدرة على الفهم و ذاكرتي أُتْلفتْ من كميّة الفزع المهولة التي اجتاحتني منذ البارحة و لا تزال تدكّ عظامي دكا ً...
ثوان ٍ و إذا بالممرضة تدخل الغرفة و تسأل:
" ما الذي حدث ؟؟ "
ترددتُ ببصري بين رغد الثائرة و الممرضة... ثم هتفتُ منفعلاً و موجهاً كلامي لها :
" أين هو طبيبكم دعوهُ يرى ما الذي حدث للفتاة إنها ليستْ بخير... ليستْ بخير..."
و بعدها جاء الطبيب - و هو غير الجراح الذي أجرى لرغد العملية - و لم تسمح له رغد بفحصها بل صرختْ :
" أخرجوا جميعكم... لا أريدكم... ابتعدوا عني... أيها المتوحشون "
جنّ جنون الفتاة... و تصرّفتْ بشكل أقرب للهستيريا... نعتتنا بالوحوش و الأوغاد... و حاولتْ النهوض عن السرير... و نزعتْ أنبوب المصل الوريدي من ذراعها فتدفقتْ الدماء الحمراء ملوّنة الألحفة البيضاء... و سال المصل مبللاً ما حوله... و عندما حاولتْ الممرضة السيطرة على النزيف زجرتها رغد بعنفٍ و رمتها بالوسادة التي كانتْ تنام عليها...
" ابتعدوا عنّي... أيها الأوغاد... أخرجوا من هنا... لا أريد أحداً معي... أكرهكم جميعاً... أكرهكم جميعاً..."
لدى رؤيتي الحالة المهولة لصغيرتي أصابني انهيار لا يضاهيه انهيار... و تفاقمتْ شكوكي بأنها جنّتْ... لا قدّر الله... و بنبرةٍ عنيفةٍ طلبتُ من... لا بل أمرتُ كلاً من الخالة و الطبيب و الممرضة بالمغادرة فوراً... علّي أفلح في تهدئة صغيرتي بمفردي... لقد كنتُ مذهول العقل عليها و أريد أن أطمئن إلى أنها بالفعل لم تُجن !
أذعنوا لأمري و طيور القلق محلّقة فوق رؤوسهم... و بعد أن خرجوا التفتُ إلى صغيرتي و التي كانت لا تزال تردد بانفعال:
" اخرجوا جميعكم ابتعدوا عنّي... "
قلتُ و أنا أسير عكس اتجاه أمرها و أراقب ثورتها و بالكاد تحملني مفاصلي من فزعي على حالها:
" لقد خرجوا يا رغد... إنه أنا وليد... "
و ازدردتُ ريقي :
" هل تريدينني أن أخرج أنا أيضا ؟ "
هذا أنا وليد... هل ترينني؟ هل تميزينني...؟ هل تعين ما تفعلين يا رغد؟ بالله عليك لا تجننيني معك...
رغد نظرتْ إليّ و هي لا تزال على انفعالها و قالتْ :
طار طائر عقلي... انفصمتْ مفاصلي... هويتُ على السرير قربها... مددتُ يديّ بضعف شديد إلى كتفيها و نطقتُ :
" رغد... ما الذي تهذين به؟؟ ماذا أصاب عقلك أنبئيني بربّك؟؟ آه يا إلهي هل ارتطم رأسكِ بالسلّم ؟؟ هذا أنا وليد... وليد يا رغد... وليد... هل تعين ما تقولين؟؟ ردي عليّ قبل أن أفقد عقلي ؟ "
و إذا بي أشعر بحرارة في جفوني... و بشيء ما يتحرّك على عينيّ...
رغد حملقتْ بي برهة و قد توقـّفتْ عن الصراخ... ثمّ أخذتْ تئِنّ أنين المرضى أو المحتضرين... و هي تنظر إليّ... و أنا أكاد أفقد وعيي من شدّة الذهول و الهلع... اقتربتُ منها أكثر... أسحب ثقل جسدي سحباً... حتّى صرتُ أمامها مباشرة. حركتُ يديّ من على كتفيها و شددتُ على يدها السليمة إن لأدعمها أو لأستمد بعض الدعم منها... لكنها سحبتْ يدها من قبضتي... ثم رفعتها نحو صدري و راحتْ تضربني... بكلتا يديها ضرباتها كانتْ ضعيفة قويّة... مواسية و طاعنة... غاضبة و خائفة... في آن واحد... و فوق فظاعة من أنا فيه رمتني في زوبعة الذكريات الماضية... الماضي الجميل... حيث كانتْ قبضة صغيرتي تصفع صدري عندما يشتدّ بها الغضب منّي...
استفقتُ من الشلل الذي ألمّ بحواسي و إدراكي على صوتها تقول بانهيار:
" لماذا أحضرتها إلى هنا ؟ تودّون السخرية منّي؟؟ أنتم وحوش... أكرهكم جميعاً "
صحتُ منكسرا:
" لا ! كلا... أنتِ لا تعنين ما تقولين يا رغد ! أنتِ تهذين... أنتِ غير واعية... لا ترين من أمامكِ... أنا وليد... انظري إليّ جيدا... أرجوك يا رغد... سيزول عقلي بسببكِ... آه يا رب... إلا هذا يا رب... أرجوك... أرجوك يا رب... إلا صغيرتي... لا احتمل هذا... لا احتمل هذا... "
أمسكتُ بيديها محاولاً إعاقتها عن الاستمرار في ضربي و لكن بلطفٍ خشية أن أوجعها...
" توقـّفي يا رغد أرجوكِ ستؤذين يدكِ... أرجوكِ كفى... أنتِ لا تدركين ما تفعلين..."
لكنها استمرّتْ تحركهما بعشوائية يمينا و يسارا و هما قيد قبضتَيّ ، ثم نظرتْ إلى الجبيرة و امتقع وجهها و صاحتْ بألم:
" آه يدي..."
تمزّقتُ لتألمها... أطلقتُ صراح يديها ثم حرّكتُهما بحذرٍ و لطفٍ دون أن تقاومني، و أرخيتهما على السرير إلى جانبيها و سحبتُ اللحاف و غطيتهما... و قلتُ :
" سلامتكِ يا رغد... أرجوكِ ابقي هادئة... لا تحرّكيها... أرجوكِ... عودي للنوم صغيرتي... أنتِ بحاجة للراحة... نامي قليلا بعد "
فأخذتْ تنظر إليّ و في عينيها خوفٌ و اتهامٌ... و عتابٌ قاسٍ... و أنظر إليها و في عينيّ رجاءٌ و توسّلٌ و هلعٌ كبير... كانت أعيننا قريبةً من بعضها ما جعل النظرات تصطدم ببعضها بشدّة...
قلتُ و أنا أرى كلّ المعاني في عينيها... و أشعر بها تحدّق بي بقوّة :
" أرجوكِ صغيرتي اهدئي... لن يحدث شيءٌ لا تريدينه... لن أدعها تأتي ثانيةً لكن سألتكِ بالله أن تسترخي و تهدّئي من روعكِ... أرجوكِ... "
رغد بعد هذه الحصّة الطويلة من النظرات القوية... هدأتْ و سكنتْ و أغمضتْ عينيها و أخذتْ تتنفس بعمق... مرّتْ لحظة صامتة ما كان أطولها و أقصرها... بعدها سمعتُ رغد تقول للغرابة:
" هل سأستطيع رسم اللوحة ؟ "
نظرتُ إلى وجهها بتشتتٍ... و هو مغمض العينين و كأحجية غامضة و مقفلة الحلول...
أي لوحة بعد ؟؟
قلتُ :
" أي لوحة ؟ "
رغد حرّكتْ يدها المجبّرة ثم قالتْ:
" لكنني رسمتها في قلبي... حيث أعيد رسمها كل يوم... و حتى لو لم أستطع المشي... احملني على كتفيك... أريد أن أطير إلى أمي"
ثم اكفهرّ وجهها و قالتْ :
" آه... أمّي..."
و صمتتْ فجأة... بعد كل ذلك الجنون... و الهذيان... صمتتْ الصغيرة فجأة و لم تعد تتحرّك... حملقتُ في وجهها فرأيتُ قطرة يتيمة من الدموع الحزينة... تسيل راحلة على جانب وجهها ثم تسقط على الوسادة ... فتشربها بشراهة... و تختفي... ناديتُها و لم ترد... ربّتُ عليها بلطفٍ فلم تُحس... هززتها بخفة ثم ببعض القوة فلم تستجب... خشيتُ أن يكون شيئا قد أصابها فجأة... فقد كانتْ قبل ثوانٍ تصرخ ثائرة و الآن لا تتحرّك... و لا تستجيب... ناديتُ بصوتٍ عالٍ:
" أيها الطبيب... أيتها الممرّضة..."
و كان الاثنان يقفان خلف الباب و سرعان ما دخلا و أقبلا نحونا
قلتُ هلِعاً :
" أنظرا ماذا حدث لها... إنها لا تردّ عليّ... "
الطبيب و الممرّضة اقتربا لفحصها فابتعدتُ لأفسح لهما المجال... أوصل الطبيب جهاز قياس النبض بإصبع رغد و تفحّصها ثم أمر الممرّضة بإعادة غرس أنبوب المصل في أحد عروقها فباشرتْ الممرضة بفعل ذلك دون أي مقاومة أو ردّة فعل من رغد... الأمر الذي ضاعف خوفي أكثر فأكثر... جلبتْ الممرضة عبوة مصل أخرى و جعلتْ السائل يتدفق بسرعة إلى جسد رغد ثم أعادتْ فحصها و قياس ضغط دمها... و خاطبتْ رغد سائلةً:
" هل أنتِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟؟ "
رغد عند هذا فتحتْ عينيها و نظرتْ إلى الاثنين و كأنها للتو تدرك وجودهما فعبستْ و قالتْ زاجرة:
استدرتُ إلى الطبيب و الذي كان يتحسّس نبض رسغها الأيسر و سألتُ:
" ما حلّ بها؟؟... طمئنّي؟؟ "
أجاب :
" ضغطها انخفض... لكن لا تقلق سيتحسّن بعد قليل "
سألتُ مفزوعاً :
" ضغطها ماذا ؟؟ انخفض؟؟ لماذا ؟ طمئنّي أرجوك هل هي بخير ؟؟ "
نظر إليّ نظرة تعاطف و طمأنة و قال :
" اطمئن. سيتحسّن بسرعة. إنها نزعتْ الأنبوب من يدها فجأة... و كان المصل يحتوي مسكنا للألم يجب أن يُخفّف بالتدريج كي لا يسبّب هبوطاً مفاجئاً في ضغط الدم. الوضع تحت السيطرة فلا تقلق "
و كيف لا أقلق و أنا أرى من أمر صغيرتي العجب ؟؟
قلتُ مستميتاً إلى المزيد من الطمأنة :
" كانتْ غير طبيعية البتة... ألا تظن أنه ربّما أُصيب رأسها بشيء؟؟... إنّها تهذي و تتصرّف على غير سجيتها... أرجوك تأكّد من أن دماغها بخير "
قال الطبيب :
" نحن متأكدون من عدم إصابة الرأس بشيء و الحمد لله. لكن الواضح أنّ نفسيّتها متعبة من جرّاء الحادث، و هذا أمرٌ ليس مستبعداً و يحدث لدى الكثيرين.. تحتاج إلى الدعم المعنوي و أن تكونوا إلى جانبها "
قلتُ متفاعلاً مع جملته الأخيرة:
" إنها لا تريد منّا الاقتراب منها "
و كأنّ رغد لم تسمع غير تعقيبي هذا فالتفتتْ إلينا و قالتْ :
" دعوني و شأني "
ثمّ سحبتْ يدها من يد الطبيب و أمسكتْ باللحاف و خبأتْ رأسها تحته كلياً... و طلبتْ منّا أن نخرج جميعا و هذتْ بكلمات جنونية لم أفهم لها معنى...
" كلا كلا... لا سمح الله. كما قلتُ نفسيتها متعبة... سأعطيها منوماً خفيفاً "
و بقيتْ رغد على حالها و سمعتها تقول و وجهها مغمور تحت اللحاف:
" لا تُعِدها إلى بيتنا ثانية... لا أريد أن أراها ... أبدا "
و كررتْ و هي تشدّ على صوتها :
" أبدا... هل تسمعني ؟ أبدا "
و لمّا لم تسمع ردا قالتْ :
" هل تسمعني؟؟ وليد إلى أين ذهبت ؟ "
لقد كانتْ تخاطبني من تحت اللحاف... و أنا لا أعرف إن كانت تعني ما تقول... قلتُ و أنا أقترب لأُشعرها بوجودي فيما صوتي منكسر و موهون :
" أنا هنا... نعم أسمع... حاضر... سأفعل ما تطلبين... لكن أرجوك اهدئي الآن صغيرتي... أرجوكِ فما عاد بي طاقة بعد"
قالتْ:
" إنها السبب "
أثار كلامها اهتمامي... سألتُها :
" ماذا تعنين؟؟ "
و لم ترد...
فقلتُ :
" أ تعنين أنّ أروى... "
و لم أتمّ جملتي، إذ أنها صرختْ فجأة :
" لا تذكر اسمها أمامي "
قلتُ بسرعة و توتّر:
" حسناً حسناً... أرجوكِ لا تضطربي "
فسكنتْ و صمتتْ قليلا... ثم سمعتها و للذهول تقول :
" أريد أمّي "
شقّت كلمتها قلبي إلى نصفين... الممرضة سألتني :
" أين والدتها؟ "
فعضضتُ على أسناني ألماً و أجبتُ بصوتٍ خافتٍ :
" متوفّاة "
حرّكتْ رغد رأسها من تحت اللحاف و راحتْ تنادي باكية :
" آه... أمي... أبي... عودا إليّ... لقد كسروا عظامي... هل تسمحان بهذا؟ أنا مدللتكما الغالية... كيف تتركاني هكذا... لا استطيع النهوض... آه... يدي تؤلمني... ساعداني... أرجوكما... لا تتركاني وحدي... من لي بعدكما... عودا إليّ... أرجوكما... عودا... "
الغرفة تشبعتْ ببخار الدموع المغلية التي لم تكد تنسكب على وجنتيّ حتى تبخّرتْ ... والتنفس أصبح صعبا داخل الغرفة المغمورة بالدموع...
طلبتُ بنفسي من الطبيب إعطاءها المنوّم الجديد في الحال... حتّى تنام و تكفّ عن النحيب الذي أفجع كلّ ذرّات جسمي... و قطّع نياط قلبي... و أثار حزن و شفقة حتّى الجدران و الأسقف... و بعد أمره أعطتها الممرضة جرعة من المنوم الذي سرعان ما أرسل رغد في دقائق إلى عالم النوم...
و كم تمنيتُ لو أن جرعة أخرى قد حُقنتْ في أوردتي أنا أيضا...
قالت الممرضة :
" ها قد نامتْ "
ثمّ أعادتْ قياس ضغط دمها مجددا و طمأنتني إلى أنه تحسّن... كما أن الطبيب أعاد فحص نبضها و أخبرني بأنه على ما يرام...
بقي الاثنان ملازمين الغرفة إلى أن استقرّ وضع رغد تماما ثم خرج الطبيب و ظلّتْ الممرّضة تسجّل ملاحظاتها في ملف رغد... وجه رغد كان لا يزال مغمورا تحت اللحاف و خشيت أن يصعب تنفّسها فسحبته حتى بان وجهها كاملاً... و مخسوفاً
كان... كتلةً من البؤس و اليتم... يصيب الناظر إليه بالعمى و يشيب شعره... و آثار واهية من الكدمات تلوّن شحوب وجنتيه الهزيلتين...
قالتْ الممرضة و هي ترى التوتر يجتاحني و أنا أتأمّل وجه الفتاة:
" تبدو محبطةً جدا... من المستحسن أن تأتي شقيقاتها أو المقرّبات لديها لتشجيعها. الفتيات في مثل هذا السن مفرطات الإحساس و يتأثرن بسرعة حتى من أتفه الأمور فما بالكَ بإصابة بالغة..! "
أي شقيقات و أي قريبات ! أنتِ لا تدركين شيئاً...
ثم تابعتْ تكتب في الملف و أنا قابع إلى جوار رغد أتأمل كآبتها و أتألّم...
خاطبتني الممرضة :
" عفوا يا سيّد و لكنّي لاحظتُ شيئا... أريد التأكّد... إذ يبدو أنّ هناك خطأ في معلومات الكمبيوتر... هل اسم والدكما هو شاكر أم ياسر ؟؟ "
التفتُ إليها و قلتُ :
" رغد ياسر جليل آل شاكر... و أنا وليد شاكر جليل آل شاكر "
نظرتْ إليّ الممرضة بتعجّب و علقتْ :
" لستما شقيقين؟!"
قلتُ :
" إنها ابنة عمّي، و ابنتي بالوصاية "
زاد العجب على تعبيراتها و أوشكتْ على قول شيء لكنها سكتت و اكتفت بهز رأسها.
أثناء نوم رغد... أعدتُ استعراض شريط ما حصل منذ أفاقتْ قبل قليل إلى أن عادتْ للنوم محاولا تذكّر ما قالته و استيعاب تصرّفاتها... و تذكّرتُ جملتها ( إنها السبب ) و التي أشارتْ بها إلى أروى... تباً لكِ يا أروى... كبرتْ الفكرة في رأسي و تلاعبتْ بها الشياطين و لم أعد بقادر على حملها... و أردتُ التحدّث مع أروى حالاً...
طمأنتُ قلبي قليلا على سلامة الصغيرة و تأكدتُ من نومها، ثم طلبتُ من الممرّضة أن تبقى ملازمةً معها لحين عودتي، و خرجتُ من الغرفة بحثاً عن أروى و الخالة فوجدتهما تجلسان على مقربةٍ... وقفتْ الاثنتان بقلقٍ لدى رؤيتي... أنظاري انصبّتْ على أروى و بدأتْ عيناي تتقدان احمرارا...
الخالة سألتْ :
" كيف هي الآن ؟ "
لم أجبها... إنما اتجهتُ مباشرة إلى أروى و قلتُ بحدة :
" ما الذي فعلتِه برغد ؟ "
التعجّب و الذعر ارتسما على وجه أروى... و لم تتحدّث... يدي تحرّكتْ نحو ذراعها فأطبقتُ عليه بقسوة و كررتُ بحدّة أكبر :
" أجيبي ... ما الذي فعلتِه برغد ؟؟ "
الخالة تدخّلتْ قائلة :
" ماذا عساها تكون قد فعلتْ ؟ لقد وقعتا سويةً "
ضغطتُ بقوّة أكبر على ذراع أروى و صحتُ بوجهها :
" تكلّمي "
أروى حاولتْ التملّص من قبضتي عبثا... ثم استسلمتْ و قالتْ :
" كان حادثا... هل تظنّ أنني دفعتُ بها ؟ هل أنا مجنونة لأفعل ذلك؟؟ "
بخشونةٍ دفعتُ بأروى حتى صدمتها بالجدار الذي كانت تقف أمامه و قلتُ ثائراً :
" بل أنا المجنون ... لأفعل أي شيء... انتقاماً لها... "
الخالة اقتربتْ منا و قالتْ :
" وليد ! ماذا دهاك ؟؟ الناس يمرون من حولنا "
أخفضتُ صوتي و أنا أضغط على كتفَي أروى الملصقتين بالجدار أكاد أسحقهما به :
" الفتاة بحالةٍ سيئةٍ... أسوأ من سيّئةٍ... إصابتها بالغةٌ و نفسيّتها منهارةٌ... تتصرّف بغرابة... و تقول أنّكِ السبب... و تنفر منكِ بشدّة... لا تقولي أنّك لم تفعلي شيئاً... أخبريني ما الذي فعلتِه بها يا أروى تكلّمي ؟؟ "
" وليد ! "
صاحتْ أروى و حاولتْ التحرّر لكنني حشرتها بيني و بين الجدار و صحتُ :
" قلتُ لك ِ مراراً... لا تقتربي منها... إلاّ رغد يا أروى...إلاّ رغد... أي شيءٍ في هذا الكون إلاّ رغد... أنا لا أقبل أن يصيب خدش ٌ أظافرها... و لا يكفيني فيها غير إزهاق الأرواح... و أقسم يا أروى... أقسم بالله العظيم... إن أصاب الفتاة شيءٌ... في عقلها أو جسمها... و كنتِ أنتِ السبب بشكلٍ أو بآخر... فسترين منّي شيئاً لم تريه في حياتك قط... أقسم أنني سأعاقبكِ بأبشع طريقةٍ... و إن اضطررتُ لكسر عظامك كلّها و سحقها بيدي ّ هاتين "
و جذبتُ أروى قليلاً ثم ضربتها بالجدار بعنفٍ مرة أخرى...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
و بعد نحو الساعة اصطحبني إلى المنزل، و تركنا أمّي مع رغد... و التي كانت تغط في نومٍ عميقٍ بعد جرعةٍ من المخدّر... وليد لم يتحدّث معي طوال الوقت... بل كان ذهنه شارداً لأبعد حدود... و فور وصولي للمنزل ذهبتُ إلى غرفتي مباشرة و أخذتُ أبكي إلى أن تصدّع رأسي فأويتُ إلى الفراش... عندما استيقظتُ لم أكن بحالة أفضل إلا قليلاً و قرّرتُ أن أخبر وليد بتفاصيل ما حصل البارحة... حتى تتضح له الحقيقة و يتوقـّف عن توجيه الاتهام الفظيع لي.
لم أكن قد نمتُ غير ساعةٍ أو نحو ذلك... و توقّعتُ أن أجد وليد مستلق ٍ على سريره في غرفته و لكنني لم أجد له أثراً في المنزل... و استنتجتُ أنه عاد إلى المستشفى... أنا لا أدري ما القصّة التي قصّتها رغد عليه للحادث بيد أنني لا استبعد أن تكون قد أوهمته بأنني دفعتُ بها عمداً من أعلى الدرج...
لكن.. و الله يشهد على قولي... كان ذلك حادثاً غير مقصودٍ إطلاقا... و لو كنتُ أتوقّع أن ينتهي بها الأمر إلى غرفة العمليات لما كنتُ اعترضتُ طريقها و لتركتها تحمل هاتف زوجي إليه و أنا أتفرّج...
(زوجي) كلمة لم أعرف معناها... كما لا أعرف حقيقة الوجه الآخر لوليد فالنظرات و التهديدات و الطريقة الفظّة العنيفة التي عاملني بها هذا الصباح تكشف لي جوانب مرعبة من وليد لم أكن لأتوقّعها أو لأصدّق وجودها فيه... و قد بدأتْ بالظهور الآن... هذا الرجل قتل شخصاً عندما كان في قمّة الغضب... و مهما كان السبب فإن الخلاصة هي أن الغضب قد يصل بوليد إلى حد القتل !
اقشعرّ بدني من الفكرة البشعة فأزحتها بعيداً عن تفكيري هذه الساعة و حاولتُ شغل نفسي بأشياء أخرى... كترتيب و تنظيم أثاث المنزل و ما إلى ذلك...
كنتُ قد رأيتُ فراش وليد مبعثراً حين دخلتُ غرفته بحثاً عنه... و الآن عدتُ إليها لأرتّب الفراش و أعيد تنظيم الغرفة... كالمعتاد و أثناء ذلك، و فيما أنا أرفع إحدى الوسائد رأيتُ شيئاً غريباً ! كانت ورقة فوتوغرافية ممزّقـَة... و أجزاؤها موضوعة تحت الوسادة بفضولٍ جمعتُ الأجزاء و شرعتُ بإعادة تركيبها إلى أن اكتملتْ الصورة الفوتوغرافية فظهرتْ صورةٌ لطفلةٍ تبتسم و بيدها دفتر رسم للأطفال و أقلام تلوين... و من التاريخ اتّضح لي أنها التُقِطتْ قبل نحو 13 عاماً...
الأمر أثار فضولي الشديد و تعجّبي... لـِمَ يضعُ وليد صورة قديمة و ممزّقة لطفلةٍ ما تحت وسادته ؟؟ لكن لحظة ! دقّقتُ النظر إلى ملامح تلك الطفلة... و إذا لم تكن استنتاجاتي خاطئةً فأعتقد أنني عرفتُ من تكون.... !
دعوني وحدي رجاء ً !
أنا في حالة ذهول ... و لا أريد قول المزيد !
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...
كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...
تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...
و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:
" صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "
هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...
هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.
على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...
بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :
" صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "
كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك... حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :
" أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."
كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:
" كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "
نطقتْ رغد أخيرا :
" وليد "
شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :
" نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "
قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :
" الحمد لله "
كررتُ بامتنان :
" الحمدُ لله... الحمدُ لله "
و عقّبتْ الخالة :
" الحمد لله "
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :
" كم ستظلّ هذه ؟ "
كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :
" ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"
و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :
" و الجامعة ؟ "
قلتُ :
" سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "
قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :
" و السفر ؟؟ "
فأجابتْ الخالة :
" نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "
فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…
مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:
" اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "
قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :
" هل سأستطيع المشي؟ "
قلتُ بسرعة:
" طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "
فقالتْ متشكّكة :
" ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "
أجبتُ مؤكداً :
" أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "
و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :
" أنت أدرى "
ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…
الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :
" أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "
و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :
" الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "
و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....
قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً
و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...
في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً ... و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما... بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد...
"و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ "
سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه... و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي...
أجبتُ :
" عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم... طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل... و أبقى أنا طوال النهار "
سألني سيف :
" و ماذا عن زوجتك ؟ "
تنهّدتُ بمرارة ثم قلتُ :
" آه... اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى... لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها... آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً... جُنّ جنونها حين رأتها.... تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف... يبدو أنها من تسبّب في الحادث... بشكلٍ أو بآخر... و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ ... "
و صمتُ... إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف... لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء...
قلتُ :
" ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً... و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة... لكن... إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق "
بعد صمت ٍ قصير سألني :
" كيف وقعتْ ؟ "
أجبتُ :
" لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى... هما و منذ أيام متخاصمتان... تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم... و وقعتا سويةً... لكنّ الإصابة اختارتْ رغد "
و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :
" لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن... يبدو أن هذا ما حصل على السلّم... فوقعتا... و أصيبتْ رغد "
تنهدتُ و واصلتُ :
" أنا خائفٌ عليها يا سيف... خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة... أو يدها"
قال سيف مباشرة:
" لا قدّر الله... تفاءل بالخير يا رجل "
تنهدتُ مجددا و قلتُ :
" الأمر بالنسبة لي... قضاء أحمد الله على لطفه فيه... و الطبيب طمأننا جداً... لكن... يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها... إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا... لن تحتمل شيئاً كهذا... بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم... الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم... منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني... اليتم... و عمّار القذر... و فقد والديّ... و الحرب... و التشرّد و الغربة و الوحدة... كل هذا... على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ... قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز... و إعاقة... إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف... بل إنه قد بدأ يزول فعلاً "
وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير... سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه...
" أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "
و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي... و تمنيتُ لو أنه تحطّم... أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد... سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية... التي ما كان أحوجني إليها آنذاك...
بعد ذلك سألني :
" هل... عرف أقاربها بالأمر ؟ "
فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط... فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :
" كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها... كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم... "
و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء... و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام...!
و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي...
قال سيف:
" لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد... فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً "
ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة...
بعدها قال :
" بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل... و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً "
الساعة الثامنة مساء... انتهى وقتُ الزيارة... و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك... و أنا واقفٌ إلى جوار رغد... و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.
نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :
" ستبقى الخالة برفقتكِ... اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال "
ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :
" إلى أين ستذهب ؟ "
أجبتُ بلطف :
" إلى البيت... إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر "
و هنا رأينا رغد تستوي جالسة... و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :
" هل ستتركني وحدي ؟ "
تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :
" لا ... ستبقى خالتي معك "
و إذا برغد تهتف :
" أخرجني من هنا "
وضعها ينذر بأنها على وشك الثوران... لم استطع قول شيء فقالتْ الخالة :
" يهديك الله يا بنيّتي كيف يُخرجكِ هكذا ؟ "
لكنّ رغد لم تكن تمزح... بل أبعدتْ اللحاف و أرادتْ النهوض فأسرعتُ باعتراضها و أنا أقول:
" أوه كلا... أرجوكِ لا تتحرّكي "
فصاحتْ مرتاعة:
" كيف تذهب و تتركني؟ ألا ترى ما أنا فيه يا وليد؟ ألا ترى هذا ؟؟ "
قلتُ بهلع:
" حسناً حسناً ... سوف لن أذهب لكن أرجوك لا تنفعلي مجدداً... ابقـَي مكانك "
و أنا أعيد إسنادها إلى الوسادة... و أتنهد ثم أمسح زخات العرق التي نبتتْ على جبيني و أضغط على صدغي لأخفـّف الصداع الذي تفاقم لحظتها... ثمّ أجلس على طرف السرير باستسلام...
لابد أن التوتر و الضيق كانا فاضحين جداً على وجهي... للدرجة التي صعقتني رغد عندها بقول :
" ماذا ؟ هل ضقتَ ذرعاً بي ؟ إذن ارم ِ بي من هذه النافذة و أرح نفسك "
لا ! ليس من جديد... توقــّـفي عن جنونك يا رغد أرجوكِ كفى... كفى...
زحفتُ نحوها و قلتُ بألم و ما بي من بقايا طاقة تحتمل المزيد:
" ما الذي تقولينه يا رغد؟؟ أرجوك هذا يكفي "
قالتْ صارخةً :
" ألا ترى حالتي هذه؟؟ كيف تفكّر في الذهاب و تركي؟ ألا تشعر بما أنا فيه ؟ "
إنّكِ أنتِ من لا يشعر بما أنا فيه يا رغد...
قلتُ :
" لا لم أفكّر في ترككِ ، و لكن نظام المستشفى لا يسمح ببقاء رجل برفقةِ مريضة في قسم السيدات. حتّى لو كان أباها. لذلك طلبتُ من الخالة مرافقتك"
لكن رغد لم يعجبها هذا و أصرّتْ على أن أبقى معها تلك الليلة، و لم تكن حالتها تسمح بأن أتجاهل إصرارها...
و رغم الحرج الشديد الذي واجهته و أنا أطلب من المسؤولين السماح لي بالبقاء هذه الليلة مع المريضة و المرافقة... تعاطفا ً مع حالتها النفسية، رضختُ لرغبة رغد و تكبّلتُ العناء و قضيتُ الليلة الثانية ساهراً إلى جوار صغيرتي... تاركاً أروى تبات وحيدة في المنزل الكبير...
لم تكن ليلتي ليلة ً و لم يكن حالي حالاً... لا أنا و لا صغيرتي عرفنا للراحة طعماً... كنتُ أجلس على مقعد تحجبه عن سريرها الستارة... و لكنّي كنتُ أسمع كل حركاتها و تقلباتها و تأوّهاتها طوال الليل... كانتْ نوبات الألم تكرّ و تفرّ على عظام الصغيرة المكسورة و أنسجتها الممزقة... و الممرضة تأتي بين فترة وأخرى لإعطائها المسكّن...
في صباح اليوم التالي سمحتْ لي رغد بالخروج على أن أعود عصرا ... و ما كادتْ تفعل.
كان الإرهاق قد أخذ منّي ما أخذ و لم أكن قد نمتُ البارحة أبدا... غير غفوة قصيرة تملكتني بعد شروق الشمس. و يبدو أن الخالة قد نجحتْ في إقناعها بتركي أذهب أثناء غفوتي القصيرة أول الصباح.
وقفتُ قرب رغد أسألها عن أي شيء أخير تريده قبل مغادرتي...
" سآوي إلى فراشي مباشرةً ... و سأترك هاتفي عند وسادتي... اتصلا إن احتجتما أي شيء في أي وقت و بدون تردد"
قلتُ و أنا أنقل بصري بين رغد و الخالة... رغد أومأتْ موافِقة، و الخالة قالتْ مطمئِنة:
" لا تقلق يا بني. سنتصل عند الضرورة. اذهب و نم مطمئنا مسترخيا "
التفتُ إلى رغد و أطلتُ النظر... لم يكن قلبي بقادر على المغادرة لكن و لم أثق في موافقتها هذه... لكنّي كنت في غاية الإرهاق و بحاجة ماسة للنوم...
مددتُ يدي إليها و ربتُ على يدها و قلت ُ بصوت هادئ و حنون :
" حسنا صغيرتي... أتركك ِ في رعاية الله... ابقي هادئة رجاءً ... سوف لن أطيل الغياب "
الصغيرة شدّتْ على يدي و حملقتْ بي و ربما كان لسان حالها يقول (لا تذهب) لكنها أجبرتْ فمها على التقوس في شبه ابتسامة مترددة...
و ما كان منّي إلا أن شددتُ على يدها و قلتُ أخيرا بأحن صوت:
" أراكِ على خير و عافية... يا صغيرتي "
و هكذا تركتها أخيرا و عدتُ إلى البيت مثقلا بالتعب و الهموم... في المنزل سرتُ ببطءٍ شديد حتى بلغتُ أسفل الدرج... و تذكرتُ صراخ رغد ليلة الحادثة فقرصني الألم في قلبي... صعدتُه خطوةً خطوة... و أنا مستمر في إنعاش صدى صرخاتها... و انعكاس صورة وجهها المتألم... و قادتني قدماي بشعور أو بغير شعور... ليس إلى غرفتي... بل إلى غرفتها...
دخلتُ الغرفة متجاوزاً كل اعتبار... و أخذتُ أحلّق بأنظاري في أرجائها... و أعانق بيدي جدرانها...
على الجدار الكائن خلف سرير رغد... كانتْ الورقة القديمة... للصورة التي رسمتها رغد لي... بشاربي الطويل... لا تزال تقف و منذ سنين... بكل بشموخ...
لم تحتمل عيناي رؤيتها... وسرعان ما خرّتْ دموعي صريعة الأسى... جلستُ على حافة السرير... و مسّدتُ على الوسادة كما لو كانت هي صغيرتي... بكل عطف و حنان... فإذا بي أشعر بحبيبات رمل تعلق بكفي... و ألقي عليها نظرة فإذا بها ذرات السكر... جذبتها إليّ و ضممتها إلى صدري... و هو أمر لم استطع أن أقدّمه لفتاتي المرعوبة... عوضا عن وسادتها... و كلّما تذكّرتُ كيف كانت مرحة و سعيدة جدا و نحنُ في النزهة أوّل الليل... ثم كيف صارتْ كومة من البؤس و الألم و الصراخ... ملقاة على السرير الأبيض التعيس آخره... عصرتها أكثر بين ذراعي...
انتابني شعور بنيران تحرق معدتي... و كأنها تنعصر قهراً مع الوسادة و تأوهتُ بألم...
" آه يا رغد... "
رفعتُ يدي من على الوسادة إلى السماء و زفرتُ الآهة مصحوبة باستغاثة يا رب...
" يا رب... يا رب... أنت تعرف أنني لا أعزّ شيئا في هذه الدنيا مثل رغد... يا رب... أنا أتحمّل أيّ بلا ٍ ... إلا فيها... أتوسّل إليك يا رب... ألطـُف بحالي و حالها... أتوسّل إليك... اشفِها و أخرجها سالمةً... و أعدها كما كانتً... يا رب... خـُذ من صحّـتي و أعطِها... و خـُذ من عمري و هبها... خـُذ منّي أي شيء... كل شيء... و احفظها لي سالمة... هي فقط... أنا لا أتحمّل أن يصيبها أيّ شيء... يا رب... أيّ شيء.... إلاّ رغد يا رب... أرجوك... لا تفجعني فيها... أنا أختنق يا رب... إلهي... أرجوك... اجعل لي من لطفكِ فرجاً عاجلاً... عاجلاً يا رب... عاجلاً يا رب... يا رب... "
و لو بقيتُ ها هنا لزهقتْ روحي من فرط المرارة ... غادرتُ غرفة رغد و أنا شاعرٌ بها تملأ رئتي... أزفرها و أستنشقها مع كل أنفاسي و أناتي...
ذهبتُ إلى غرفتي و قضيتُ زمنا أناجي الله و أدعوه و أصلّي له... حتى سكنتْ نفسي و اطمأنّ قلبي و ارتاح بالي... و فوّضتُ أمري إلى الله اللطيف الرحيم...
أخيرا ... رميتُ برأسي المثقل على الوسادة... و نشرتُ أطرافي على فراشي بعشوائية... أخيرا سأستسلم للنوم...
أغمضتُ عينيّ بسلام... فإذا بي أتخيّل رغد من جديد... فتحتهما فرأيتها أمامي... لففتُ رأسي ذات اليمين ثم ذات الشمال... وكانت هي هناك... في كل مكان...
رفعتُ وسادتي و وضعتها على وجهي لأحول دون صورة رغد التي لم ترحم بحالتي تلك الساعة...
أرجوك ِ كفى! لماذا عدت ِ؟ دعيني أنام و لو لساعة! أرجوكِ يا رغد... رأفة ً بي... لكنني رأيتها تحت الوسادة و لو قلبتُ وجهي على السرير لرأيتها فوقه أيضا تحاصرني كالهواء من كل الجهات
فجأة... تذكرتُ شيئا... لم يكن ينقصني تذكّره في تلك الساعة التعيسة...
رفعتُ الوسادة عن رأسي و جلستُ و بحثتُ بعيني تحت موضعها... قلبتُ بقية الوسائد... أزحتُ البطانية و فتـّشتُ هنا و هناك و لم أعثر على رغد !
" ربّاه ! أين اختفيت ِ فجأة ؟؟ "
ذهبتُ فورا إلى محفظتي و شرّحتها تشريحا دون جدوى !
فتشتُ أسفل السرير... و المنضدتين الجانبيتين و الأدراج... و كل مكان لم أكن لأترك فيه (رغد) ... ورغم أنها كانت موجودة في كلّ مكان، لم أجدها في أي مكان!
" أروى ! لابد أنها هي ! "
استنتجتُ فجأة... فخرجتُ من غرفتي و توجهتُ إلى غرفة أروى... و التي لم أكن قد رأيتها مذ تشاحنتُ معها صباحاً و نحن في المستشفى...
لم أتردّد غير برهةٍ واحدةٍ بعدها طرقتُ الباب و ناديتُ :
" أروى... هل أنتِ نائمة ؟؟ "
الوقت كان مبكراً و خشيتُ أن تكون نائمةً، لكنني أعلم أنّ من عادتها النهوض باكراً كل صباح... أعدتُ الطرق فرأيتُ الباب يُـفتح بعد ثوان و تطلّ منه أروى بوجه قلِق.
اللحظة الأولى مرّتْ صامتة ساكنة حتى عن الأنفاس... و باردة كليلة شتاء...
الساعة الثالثة إلا عشر دقائق عصراً أفقتُ مِنْ النوم مفزوعاً على صوت رنين هاتفي. تناولتُ الهاتف بسرعة و أنا استرجع وعيي فجأة و أتذكَّر رغد و ما ألمَّ بها. أجبتُ بقلق:
" نعم هذا أنا "
و سمعتُ صوت رغد يحدّثني مِنْ الطرف الآخر:
" مرحباً وليد. هل كنتَ نائماً ؟ "
" نعم رغد. هل أنتِ بخير ؟ "
" أجل. اتّصلتُ مرَّتين و لمْ ترد ! كنتُ أريد أنْ أطلب مِنْك جلب بعض حاجياتي معكَ. متى ستأتي؟ "
ألقيتُ نظرة على ساعة الحائط ثمَّ قلتُ:
" بعد ساعة مِنْ الآن. لقد استغرقتُ في النوم و لمْ أحس بشيء. أنا آسف. ماذا أجلبُ معي؟ "
و ذكرتْ لي عدّة أشياء تلزمها... كان (الحذاء) مِنْ بينها !
لمْ ألتقِ بأروى خلال تلك الساعة و لمْ أسمعْ رداً حين طرقتُ باب غرفتها لأعلِمها بانصرافي... و ذهبتُ إلى المستشفى و أنا أحمل باقةً مِنْ الزهور الجميلة و علبة شيكولا كبيرة بالإضافة إلى حاجيات رغد.
عندما وقعتْ أنظاري عليها للوهلة الأولى شعرتُ براحة... إذ أنها بدتْ بحالة أفضل و عاد لون الحياة إلى وجهها بعد الشحوب. كما أنها سُرَّتْ بباقة الزهور و شكرتْني عليها. أقللتُ خالتي إلى المنزل و عدتُ سريعاً إلى رغد حيث قضيتُ معها ساعات الزيارة...
تخلّل تلك الساعات فترة العشاء و قد قمتُ بنفسي بتشجيع و مساعدة رغد على تناول الطعام. تجاوبها معي طمأنني إلى أنها تجاوزتْ مرحلة الانهيار النفسي و تقبّلتْ لحدٍ ما وضعها الحالي. هذا إضافة إلى أنَّ كلام الطبيب منحني المزيد مِنْ الطمأنة على وضعها هذا اليوم.
بعد أنْ أنهتْ عشاءها بدا عليها بعض الشرود و التوتر... و أنا أعرف صغيرتي حين يشغل بالها شيء... سألتُها:
" أهناك شيءٌ رغد ؟ "
نظرتْ إليَّ و في عينيها التردد و لمحتُ أصابع يدها السليمة تتحرّك باضطراب. و كأنّها تودّ قول شيء و تخشاه.
قلتُ مشجعاً:
" خير صغيرتي؟؟ ماذا يزعجكِ؟ "
قالتْ بعد لحظة تردد:
" ماذا قالتْ لكَ؟ "
نظرتُ إليها مستنتجاً ما تعنيه. كانتْ الإشارة إلى أروى طبعاً. الاهتمام كان جلياً على وجهها. رددتُ عليها:
" لا شيء "
فسألتْ:
" لا شيء؟؟ "
فوضّحتُ:
" أعني أنني لمْ أتحدّث معها بعد. لمْ أجدْ الوقتَ لذلك. كنتُ نائماً طوال الساعات "
تلاشى جزءٌ مِنْ توتّر رغد و سكنتْ أصابعها و لكنها لمْ تزل مشغولة البال. قلتُ:
" أهناك شيء تودّين قوله لي يا رغد ؟ "
اضطربتْ و أجابتْ:
" لا. لكن..."
" لكن ماذا ؟ "
" لا تصْغِ لما تدّعيه هي عليَّ... إنها تكرهني "
و قد قالتْها بانفعالٍ فقلتُ:
" لا أحد يكرهكِ يا رغد "
فردّتْ بانفعالٍ أكثر:
" بل تكرهني... و تعتبرني عالةً عليكَ و على ثروتها.. بل و حتّى على منزلنا "
قلتُ نافياً:
" غير صحيح يا رغد... أروى ليستْ مِنْ هذا النوع "
قالتْ بعصبية:
"قلتُ لكَ لا أريد سماع اسمها... لماذا تدافع عنها؟ ألمْ ترَ ما فعلتْ بي؟؟ أنتَ لمْ تسمعْ ما قالتْه لي"
أحسستُ بأنّ أي شرارة قد تُشعِل حريقاً فظيعاً... فأردتُ تدارك الأمر و قلتُ:
" لا تلقي بالاً لشيءٍ الآن. سنناقش المشكلة بعد خروجكِ سالمةً إنْ شاء الله "
هدأتْ رغد و قرأتُ الرضا و الامتنان على قسمات وجهها، ألحقتْهما بابتسامةٍ بسيطةٍ و بكلمة:
" شكراً على تفهّمكَ "
ابتسامتها السطحية هذه أدّتْ مفعولها و أشعرتي بتيارٍ مِنْ الراحة... أما جملتها التالية فأطلقتُ قلبي محلقاً في السماء...
" أنتَ طيّبٌ جداً... أثقُ بكَ كثيراً وليد "
غمرتْني نشوى دخيلةٌ على الظرفِ و الحالِ اللذين نمرّ بهما... و أطلقتُ زفرة ارتياحٍ و سرورٍ مِنْ أعماقِ صدري...
و انقضتْ ساعات الزيارة و ذهبتُ إلى المنزل مرتاحَ البالِ و متهلِّل الوجه لحدٍ ملحوظ... ثمَّ اصطحبتُ الخالة ليندا إلى المستشفى لتبقى مع رغد طوال الليل...
عندما وصلنا إلى المستشفى، و بعد أنْ ركنتُ السيارة في أحد المواقف الخاصة، خاطبتْني الخالة قائلة:
" وليد يا بنيّ... عُد إلى أروى و تحدَّث معها "
كانتْ نبرتها مزيجاً مِنْ الجديّة و الحزن... أيقظتْني مِنْ نشوة السرور التي كنتُ أغط ّ فيها... شعرتُ بالحرج و قلّة الحيلة و لمْ أجرؤ على النظر إلى عينيها... الخالة تابعتْ:
" إنها ليستْ على ما يُرام يا بُني... أنتَ منشغلٌ هنا مع رغد و إصابتها... لكنّ أروى أيضاً في حالةٍ سيئةٍ و بحاجةٍ إليكَ بارككَ الله "
بخجلٍ رفعتُ بصري إليها و أطرقتُ برأسي مؤيّداً...
حين وصلتُ إلى البيت وقفتُ أمام غرفة أروى في حيرة... لمْ تكن لدي الأفكار الحاضرة لطرحها في الحديث... و أحاديثنا في الأيام الأخيرة كانتْ مشحونةً جداً... و مؤخَّراً تصرّفتُ معها بخشونةٍ بالغةٍ... مددتُ يدي أخيراً و طرقتُ الباب...
" هذا أنا... أيمكنني الدخول ؟؟ "
فلمْ ترد. فقلتُ:
" أروى... هل أنتِ نائمة ؟؟ "
فلمْ ترد. كرّرتُ مناداتها إلى أنْ سمعتُها تجيب أخيراً و بنبرةٍ غاضبةٍ:
" نعم ؟ ماذا تريد "
" لِمَ لا تردّين عليَّ ؟؟ أقلقتِني عليكِ "
فسمعتها ترد بأسلوبٍ لمْ يعجبني:
" أحقاً ؟؟ لا داع ٍ لأنْ تقلق بشأني. يكفيك ما أنتَ فيه و مَنْ تقلق بشأنهم. لا تُتعِب نفسكَ "
وقفتُ برهةً حائراً و مُنزعجاً في مكاني.. فأنا لمْ اعتدْ الصدود مِنْ أروى بل رحابة الصدر و طول البال و حرارة الترحيب.... ثمَّ ناديتُها مرّتين و طلبتُ منها الإذن لي بالدخول لنتحدّث... و لمّا تجاهلتْ نداءاتي تجرّأتُ و فتحتُ الباب !
دخلتُ الغرفة فرأيتُ أروى تهبُّ واقفةً مفاجَأة مِنْ دخولي... و رأيتُ الاحمرار يطلي وجهها بسرعة... و أروى مِنْ النوع الذي يتغيّر لون وجهه بسرعة مع تغيرات انفعالاته...
قلتُ و أنا أراها تضطرب و ترتدّ خطوةً للوراء:
" أنا... أنا آسِف و لكنّني... "
و تنحنحتُ لأزيل الحروف التي تعثّرتْ في حنجرتي... ثمَّ تابعتُ بصوتٍ خافتٍ و حنونٍ:
" قلقٌ بشأنكِ "
حلّ صمتٌ عميقٌ فيما بيننا فلا أنا قدرتُ على مواصلة الكلام و لا هي تكلّمتْ لتشجِّعني... بل تراجعتْ خطوةً أخرى للوراء و أدارتْ وجهها و أبعدتْ عينيها عنّي...
هل سنقف هكذا طويلاً !؟؟ يجب أنْ أفعل شيئاً !
تجرّأتُ و خطوتُ بضع خطوات مقترباً مِنْ أروى... و هي لا تزال مديرةً وجهها عنّي متحاشيةً النظر إليَّ...
" أروى "
ناديتُها بصوتٍ حنون... و إنْ لمْ تنظر إليَّ أو لمْ ترد عليَّ... فهي على الأقل تسمعني. قلتُ:
" أروى... أنا آسفٌ لما بدر منِّي... أعرف أنني... أنني كنتُ فظاً... لكن... اعذريني فأنا أمرُّ بظروفٍ يُفقِد المرء اتزانه "
و أضفتُ:
" و الأجدر بكِ كزوجةٍ مساندتي و ليس مؤاخذتي... "
هنا التفتتْ أروى إليَّ و رفعتْ بصرها نحوي... فقرأتُ في عينيها كلمات غاضبة...
ثمَّ علَّقتْ:
" و الأجدر بكَ كزوج... ملاطفتي و ليس الصراخ في وجهي و سحق عظامي في الجدران "
لمْ أعرف بِمَ أعقّب ! ألجمني تعقيب أروى و أشعرني بذنبٍ مؤلم... أنا و أروى و منذ ليلة شجارها مع رغد... على خصام و تشاحن... أحدث شجارهما بيننا فجوةً آخذةً في الاتساع...
أولتْني أروى ظهرها لتبعد عينيها و تعبيرات وجهها عن مرآي. مرَّتْ اللحظة خلف اللحظة و نحن واقفان على هذا الوضع... أردتُ أنْ أشعِرها بندمي و بأنني راغبٌ في أنْ نتفاهم و نتصالح... مددتُ يدي و وضعتُها على كتفها برفق... ثمَّ أدرتْها لتواجهني... و عندما التقتْ نظراتنا شاهدتُ بريق الدموع في عينيها...
" أروى... "
قلتُ هامِساً...
" دعينا نتفاهم... أرجوكِ "
رفعتْ أروى يدها و مسحتْ الدمعة العالقة في رموشها قبل أنْ تهطل... و أظهرتْ تعبيرات التماسك و قالتْ:
و هي إجابةٌ لمْ أتوقعها مِنْ أروى... و لمْ أستسغها... ثمَّ أبعدتْ يدي عنْ كتفها إشارةً إلى أنها غاضبة منّي... قلتُ محاولاً استرضاءها:
" أروى... أنا آسف... آسفٌ لأنني قصّرتُ معكِ و أسأتُ التصرُّف... أرجوكِ أنْ تعذريني... إنني لا أعرف ما حصل و لكنني كنتُ مأخوذاً بإصابة رغد البالغة و لمْ أستطع التفكير في شيءٍ آخر وقتها... أردتُ أنْ أسألكِ لتتَّضِح الأمور... و لكن... تعرفين... كنتُ مضطراً لملازمة رغد في المستشفى بالتالي لمْ تسنح الفرصة "
قالتْ أروى و هي تعبّر عن استيائها:
" مضطر ؟؟ "
" أعني... أنَّه لا بد مِنْ ذلك... لمْ يمكنني تركها وحيدةً آنذاكَ لأنها تفزع مِنْ الوحدة و الغربة... إنَّه فزعٌ مرضي كما أعلمتُكِ مسبقاً... "
قالتْ أروى بشيء مِنْ السخرية:
" و ما الذي جعلكَ تتركها الآن ؟ هل تخلّصتْ مِنْ مرضها أم ماذا ؟ "
لمْ أعلِّق على سؤالها، ثمَّ قلتُ:
" لندعْ رغد لما بعد و لنتحدّث عنكِ أنتِ الآن "
و لمْ أفهم سرَّ التعبيرات التي طلعتْ على وجه أروى لحظتها. بعدها قالتْ:
" بالنسبة لي أنا... فأنا أريد العودة إلى المزرعة "
فوجئتُ مِنْ كلامها و ارتسمتْ على وجهي تعبيرات عدم التصديق... فنحن في ظروفٍ ليستْ بحاجة للشرح و لا يمكن لفكرة السفر أنْ تبقى في رأس أيٍ منَّا...
قلتُ مستغرباً:
" المزرعة ؟؟!! "
" نعم المزرعة. أريد العودة إلى المزرعة... إلى خالي... و في أقرب فرصة "
أتعني ما تقول؟؟ ألا ترى وضعنا الحالي؟؟ أهي جادة في كلامها هذا ؟؟. قلتُ:
" كيف يا أروى؟ عجباً! كيف تفكِّرين في هذا الآن ؟؟ لا نستطيع السفر و تدركين لماذا "
قالتْ موضّحةً:
" أنا لمْ أقل نريد العودة... قلتُ أنّني أنا أريد العودة... و إذا احتجتم لوالدتي فلا أظنّها تمانع البقاء معكم... لكنِّي أريد السفر و بسرعة... و لا تحاول ثنيي لأنني لنْ أغيِّر موقفي"
و كان على وجهها الحزم و الجدّ... فأدركتُ مدى الإصرار الذي تحمله. رفعتُ يديَّ الاثنتين إلى كتفيها مِنْ جديد و قلتُ بصوت راجٍ:
" لماذا يا أروى؟ ألا تقدِّرين ما نحن فيه؟ "
أجابتْ بصوتٍ غاضب، أفلتَ مِنْ مكابحه فجأةً و فجَّر نافورةً مِنْ الدماء في وجنتيها:
" لماذا ؟ أَوَ تسألني؟؟ لأنّني تعبتُ يا وليد... أكاد أنفجر... ألا تشعر بما أعانيه؟؟ ألا تحسّ بي يا وليد ؟؟ ألا تحس؟؟ "
و قبل أنْ تتمَّ جملتها كانتْ الدموع قد فرَّتْ مِنْ عينيها... فرفعتْ كفّيها و خبّأتْ وجهها و بكتْ بصوتٍ عال...
كانتْ يداي لا تزالان قابعتين على كتفيها بحنان... ربَّما لتطبطبان على موضع القسوة التي عاملتُها بها صباحاً... بكتْ أروى بمرارة... فرققتُ لحالها و قلتُ:
" أرجوكِ... لا تبكي... "
لكنَّها استمرتْ في إطلاق الزفرات الباكية الحارة. قلتُ بلطف:
" اهدئي رجاءاً..."
أروى أزاحتْ كفَّيها عن وجهها و نظرتْ إليَّ مِنْ بين الدموع...
" ألا تحسُّ بي يا وليد ؟؟ "
أجبتُ بعطف:
" مَنْ قال ذلك ؟! "
أروى عصرتْ عينيها مِنْ الدموع و هي تحرّك رأسها نفياً و تقول:
" لا... لا تحسُّ بي ! إنّكَ لا تشعر بما أشعر به... و لا بما أعانيه "
مُدهَشاً مِنْ كلامها وقفتُ أحدّق في عينيها و أصغي باهتمام، و إذا بها تمدُّ إحدى يديها إلى إحدى ذراعيَّ الممدودتين إلى كتفيها فتشدُّ عليها و تقول:
" وليد... وليد... أنا أحبُّكَ ! "
شعرتُ بشيءٍ يقف في حلقي فجأةً و يسدّ مجرى هوائي! فتوقّفتُ عن الحركة و عن التنفّس. أما هي فتابعتْ:
" أتدركَ ذلكَ ؟؟ "
و لمّا رأتْ سكوني هزّتْ ذراعي و كرّرتْ:
" أتدركَ ذلك يا وليد؟ أتحسّ بي ؟؟ "
أطلقتُ زفرة أخيره مصحوبة بإجابة متوترة:
" آه... أجل... طبعاً "
" و أنتَ؟ هل تحبّني؟ "
ازداد توتُّري و استغرابي... ازدردتُ ريقي ثمَّ قلتُ:
" ماذا دهاكِ يا أروى "
قاطعتْني سائلةً و هي تضغط على ذراعي:
" هل تحبّني؟ "
" أروى !!؟ "
فضغطتْ أكثر على ذراعي و قالتْ:
" أجِبْ يا وليد..."
احتقنتْ الدماء في وجهي و اشتعل احمراراً... و خرجتْ أنفاسي حارّةً لفحتْ وجه أروى و أوشكتْ أنْ تحرقه...
" بالطبع... ما هذا السؤال؟! "
و كأنّ الإجابة قد فجّرتْ بركاناً مملوءاً بالحمم في عينيها... نظرتْ إليَّ نظرة تشكُّك... و حرَّكتْ رأسها نفياً... ثمَّ دفنتْ كل تلك الحرائق في صدري...
" لماذا تفعل هذا بي يا وليد ؟؟ أنا لا أتحمَّل... لا أتحمَّل... لا أتحمَّل "
انهارتْ أروى باكيةً على صدري بعمق... فما كان منِّي إلا أنْ أحطتُها بذراعي بعطف... و طبطبتُ عليها...
كنتُ أرغب في أنْ نتحدَّث معاً و نستوضح الأمور... و نصلح الخصام القائم بيننا غير أنَّ بكاءها و انهيارها بهذا الشكل جعلني أرجئ بعيداً الأفكار المبعثرة التي كنتُ أحاول تجميعها قبل دخولي الغرفة...
تركتُها تبكي على صدري و أخذتُ أمسح على شعرها الناعم... حتّى هدأتْ قليلاً... فقلتُ مشجِّعاً:
" يكفي أروى...أرجوكِ "
و أمسكتُ برأسها و أبعدتْه عنِّي قليلاً... حتى التقتْ نظراتنا... و كم كانتْ عميقة و مكتظَّة بالمعاني... همستُ بعطف و قلق:
" ماذا حلَّ بكِ... أروى؟ "
فردّت ْ للعجب رداً لا يمُتُّ لسؤالي بصلة !
" إنكّ حتَّى... لمْ تفكِّر في الاحتفاظ بصورةٍ لي ! أنا خطيبتك... و زوجتك شرعاً "
نظرتُ إليها و الدهشة تملأ وجهي... و بدأ سباق نبضات قلبي و انتهى بتوقّف مفاجئ حين سمعتُها تتابع قائلة:
" لكنّكَ تحتفظ بصورتها هي ! "
جفلتُ... تيبستْ ذراعاي و تصلّبتْ رجلاي... حملقتُ في أروى في عجزٍ عن تحرير أنظاري مِن أسرها... و إذا بها تقول:
" لا يحتفظ الرجل بصورة فتاةٍ تحت وسادته... إلا إذا كان يحبّها.... لا يحتاج المرء لذكاء خارقٍ حتى يستنتج هذا "
هنا انكتمتْ أنفاسي كلياً و وقف شعر جسدي مذهولاً... حدّقتْ عيناي في عيني أروى و استقبل وجهي كلماتها القوية... كصفعةٍ مباغتةٍ اصطدمتْ به حتى كادتْ تمحي ملامحه...
و بالتأكيد... فإنَّ ملامح وجهي بالفعل قد اختفتْ... لأنني رأيتُ عينَي أروى تدوران فيه... تفتّشان عن شيءٍ لمْ تعثرا عليه...
متسمراً في مكاني... و ساكناً عن أي حركةٍ أو نَفَسٍ أو نبض، وقفتُ أمام أروى أتلقَّى سهام النظرات الثاقبة... ذات المعاني المستهدِفة...
لمَّا رأتْ أروى سكوني المهول... حرّكتْ يديها نحو كتفيَّ و ضغطتْ عليهما... و سألتْ:
" هل تحبّها ؟ "
السؤال المفاجئ المهول... أجبر فمي على الانفغار... لكنّ نفساً لمْ يخرج منه... و نفساً لمْ يدخل إليه...
شعرتُ بيدَيْ أروى تشدّان أكثر على كتفيَّ... و كانتْ تركِّز في عينَيَّ كمسمارٍ دُقَّ على بصري فثبّته و منعه مِنْ الهروب...
كرّرتْ:
" أنتَ تحبها... أليس كذلك ؟؟ "
لمْ أتحرّك !. قالتْ و وجهها يشتعل احمراراً:
" أجِب يا وليد ؟؟ "
حاولتُ أنْ أبلع ريقي لكن الشلل أصاب حلقي... كما أنَّ الجفاف الشديد صيّر لساني إلى قطعة خشب مهترئةٍ عاجزةٍ عن الحراك...
" أجبني "
ألحّتْ أروى... و بصعوبةٍ عصرتُ هذه الكلمات مِنْ لساني عصراً:
" بـ... بالطبع...... أليستْ ابنة عمي؟ "
أروى هزّتْ رأسها استنكاراً و قالتْ:
" لا يا وليد ! أنتَ تدرِك ما أعني... أنتَ تحبها أكثر مِنْ ذلك... لا تحاول... إنَّك... أنتَ...آه... "
و لمْ تكمل جملتها... بل سحبتْ يديها و أخفتْ وجهها بهما و ابتعدتْ عنّي... و ربما كان هذا أفضل ما فعلتْهُ... لتطلق سراح عينيَّ...
ترنّحتْ عيناي في اللاشيء... و اللاهدف... و تأرجحتْ ذراعاي على جانبي كبندول الساعة... و تراقصتْ كلمات أروى الأخيرة بين طبلتي أذني حتى مزّقتهما...
العرق كان يتصبّب مِنْ جسمي... و الدماء تغلي في عروقي... و أشعر ببخارها يخترق جلدي و يطير إلى السقف...
لم أتوقع أنْ تأتيَ هذه اللحظة ذات يوم... و لمْ أفكّر بها... و بقيتُ متجاهلاً لاحتمالها و هارباً منه... حتى جاءتْ بغتةً... فلمْ تجد لديَّ أي استعداد لاستقبالها...
كانتْ لحظة مِنْ أصعب لحظات المواجهة... بيني و بين أروى... كان... موقفاً لا أُحسد عليه... و رغم أنَّه فاجأني لحد الذهول... لحدِّ الذوبان و التيه و التلاشي... لمْ تصدر عنِّي أية ردّة فعل تجاهه... كنتُ مشلولاً تماماً... و ما كان أسرع ما استسلمتُ لحصوله... و انسقتُ لما فرضه عليَّ... فلا يوجد ما يمكنني أنْ أنفيه أو أدّعيه أو أشكِّك فيه...
عرفتِ يا أروى؟؟ لابد أنكِ كنتِ ستعرفين ذات يوم...
أنا...لا استطيع بأي حالٍ أنْ أفلحَ في إنكار حقيقةٍ بهذا الحجم... بحجم السماء في سعتها... و بوضوح الشمسِ في سطوعها... و بعمق البحر في جوفه...
إنها الحقيقة التي تحتل تسعاً و تسعين جزءاً مِنْ المائة... مِنْ حياتي كلّها... و لساني يبقى عاجزاً تماماً عن نفيها أو تحويرها... و أفكاري منقادةٌ لأوامر القلب الذي يستحيل عصيانه... و جنوني يدفعني لأن... أحتفظ بصورتها القديمة الممزَّقة كل تلك السنين... كل تلك السنين... مخبّأةً عندي... نعم... فهي فقط... كل ما استطيع الاحتفاظ به... قريباً مِنْ قلبي... هي فقط... ما استطيع أنْ أتحسّسه بيديَّ... و أتأمَّله بعينيَّ... و أضمُّه إلى صدري... و خلال العشر سنوات الماضية... أو ما يزيد... لمْ تفارقني هذه الصورة الغالية... كنزي الثمين... و لا ليلةٍ واحدةٍ...
بعد مرور بضع دقائقٍ أو شهورٍ أو حتَّى سنين... أصابني الإعياء فسرتُ حتى جلستُ على طرف السرير... التقطتُ أنفاسي كعجوزٍ طاعنٍ... أتعبه الوقوف على رجليه لبعض الوقت... و بقيتُ على صمتي لدهر... كنتُ أسمع صوت بكاء أروى و لا أرفع نظري إليها... حتى إذا ما توقَّفتْ، تسلَّلتْ عيناي إليها بحذر...
كانتْ موليةً ظهرها إليَّ و لكنها استدارتْ بعد قليل و لما التقتْ نظراتنا أسرعتُ بالانسحاب عن عينيها...
سمعتها بعد ذلك تقول:
" أريد أنْ ترتّب أمر سفري بأسرع ما يمكن..."
و خرجتْ الجملة متحشرجةً هزيلة... وجّهتُ إليها بصري فوجدتُ الدموع و قد جفَّتْ عن عينيها و الجفون و قد تورّمتْ و الخدين وقد توهّجا مِنْ أثر الملوحة... قالتْها و انتظرتْ ردَّة فعلي...
و لأنني ساعتها لمْ أكنْ بقادرٍ على الرد فقد اكتفيتُ بالتنهُّد و إمالة رأسي نحو الأرض... و حينما رفعتُه مجدداً رأيتُها تخرج مِنْ الغرفة و تتّجه إلى درة المياه. حاولتُ أنْ أناديها لكن الضعف الذي ألمّ بي حال دون حراكي...
انتظرتُها حتّى تعود... و أنا ألملم بعض أشلاء شجاعتي... و أعيد ترتيب كلماتي... لكن الانتظار طال و لمْ تعد. قمتُ و توجّهتُ نحو دورة المياه و طرقتُ الباب:
" أروى... ألنْ تخرجي الآن ؟ "
" كلاّ... لا تنتظرني "
و أدركتُ أنها لا تريد مواصلة الحديث... فما كان منّي إلا أنْ انسحبتُ.
و في غرفتي أعدتُ عرض حوارنا القصير... و تقليب الجُمَل التي قالتْها أروى في رأسي مراراً... فيما كانتْ الصورة الممزّقة تعبث بأصابعي.
(لا يحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته... إلا إذا كان يحبّها)
آه يا صغيرتي الممزّقة... ألمْ تكوني نائمةً بأمان في محفظتي؟؟ لماذا أخرجتكِ تلك الليلة !؟ لماذا تخلَّيتُ عن حذري هكذا؟؟ لقد... كنتِ دائماً لي وحدي و لا يراكِ إلا عيناي... لماذا ظهرتِ لها و كشفتِ السرّ الدفين... و في هذا الوقت بالذات؟؟
و تذكّرتُ... أنّه في منزلنا المحروق... في غرفة سامر... في إحدى المرّات... تركتُ صورة رغد الممزقة قرب وسادتي و نمتُ... ثمَّ جاءتْ والدتي رحمها الله توقظني لتأدية الصلاة... و رأتْها...
ظننتُ حينها... أنَّ الموقف قد انتهى في ساعته... و لو تعلمون... إلى أي مدى امتدَّ... و ماذا فعل... ...
طافتْ على مسمعي... ذكريات الكلمات الغامضة التي قالتْها لي والدتي في لقائي الأخير لها قبل سفرها مع أبي إلى بيت الله... إلى حيث لا رجعة... عندما كانتْ توصيني برغد...
("انتبه لرغد جيداً يا بنيَّ")
("بالطبع أمِّي !")
أمي بدا المزيد مِنْ القلق جليّا على وجهها و قالتْ:
("كنا سنؤجّل حجَّنا للعام التالي لكن... كتبه الله لنا هذا العام... هكذا قضتْ الظروف يا بنيّ")
و هذا زادني حيرة ! قالتْ:
("لو أنَّ الظروف سارتْ على غير ذلك... لكانتْ الأوضاع مختلفة الآن... لكنّه قضاء الله يا ولدي... سأدعوه في بيته العظيم بأنْ يعوّضك خيراً مما فاتكَ... فلنحمده على ما قسم و أعطى")
و سألتُها:
(" أنتِ تلمحين لشيءٍ معيَّن ؟؟ ")
فردَّتْ:
("لمْ تتغيَّر هي عمّا تركتَها عليه قبل سنين... كما لمْ تتغيّر أنتَ، إلا أنَّ الظروف هي التي تغيّرتْ، و أصبح لكلٍ منكما طريقه")
و قد توهّج وجهي منفعلاً مع كلمات أمِّي و الحقيقة الصارخة أمامي آنذاك، و لمْ أستطع البنس ببنت شفة أمام نظراتها التي كشفتْ بواطن نفسي... أوصتْني:
("اعتنِ بها كما يعتني أي شقيقٍ بشقيقته... كما تعتني بدانة، و ادعُ معي الله أنْ يسعدهم هم الثلاثة، و أنتَ معهم")
آه يا أمّاه... إنّكِ لا تعلمين ما حصل بعد رحيلكِ... لو تعلمين... ... !
في صباح اليوم التالي و قبل ذهابي إلى المستشفى التقيتُ بأروى صدفةً في المطبخ. كانتْ هادئةً جداً... و تحضِّر بعض الطعام... و كانتْ بعض الأطباق موضوعةً على المائدة... و رائحة الخبز المحمّص و القهوة تملآن المكان. وقفتُ أراقبها خلسةً عند الباب و أنا حائرٌ... أأدخل، أم أنصرف؟؟ هل سيزعجها مروري أمْ سترحِّب بي ؟؟
بأيّ وجهٍ أقابلها و أي كلامٍ سأقول...؟ و أيّ موقفٍ ستتّخذ منّي؟؟ و فيما أنا في حيرتي لمحتْني أروى فجأةً فارتاعتْ و أوقعتْ ما كان في يدها... باشرتُ بالدخول و سرتُ نحوها و التقطتُ معها حبّات الزيتون المبعثرة على الأرض و أنا أقول:
" أنا آسف... هل أفزعتكِ ؟ "
و هي تردّ:
" فاجأتني "
و بعد فراغنا مِنْ جمع الحبّات، التهمتُ إحداها...
" طيّبة المذاق "
قلتُ معلقاً... متحاشياً إطالة النظر في عينيها قدر الإمكان... و محاولاً خلق جوٍ جديدٍ يمحي آثار جو البارحة الممطر... أو يلطّفه. قالتْ و هي تشير إلى مائدة الطعام، و التي وضعتْ عليها صحن الزيتون و بعض أطباق الفطور الأخرى:
" تفضّل "
بدا الطعام شهياً... و ذا رائحة طيّبة... تُسيل اللعاب... و ارتحتُ لتجاوبها مع الجو الجديد... و قد أتناول شيئاً مِنْ الفطور معها لإخماد الحريق... و لو مؤقتاً. نظرتُ بشكل عفوي إلى ساعةِ يدي... لمعرفة الوقت تحديداً فما كان مِنْ أروى إلا أنْ علّقتْ بطريقةٍ فاجأتني:
" أمْ... أنَّ المدلَّلة الحبيبة تنتظركَ ؟ "
اصطدمتْ نظراتنا و تعاركتْ معاً... ثمَّ عادتْ نظراتي تجرُّ أذيال الهزيمة إليَّ. إذن... النار مضرمةٌ و مستمرةٌ و لا سبيل لإطفائها بوجبةِ فطور. و مع ردّ أروى الحاد، لمْ أجرؤ على قول أكثر مِنْ:
أخبرتني (مَرَح) أنها ستأتي مع والدها لزيارتي عصرَ هذا اليوم. (مرح) هي صديقتي و زميلتي في الجامعة، و هي ابنة السيد (أسامة المنذر)... مساعد (وليد) الأول في العمل... و شقيق المحامي (يونس المنذر) الرجل الذي أتى إلى مزرعة الشقراء يخبرها عن إرث عمّها قبل شهور... و الذي يعمل كذلك مع (وليد)...
و (مرح) رسّامة بارعة... و هي شقيقة و تلميذة لأحد الفنانين الأساتذة المعروفين و الذائعي الصيت على مستوى البلد.
كنتُ بطبيعة الحال لا أزال محبوسةً على السرير الأبيض، معتمدة على الممرضات و السيدة (ليندا) في كل شيء.
كانتْ أعصابي منهارةً تماماً في اليومين السابقين... و لكنني اليوم أفضل بكثير و الحمد لله. إنّها فترة الزيارة و (وليد) يقضيها كلّها إلى جانبي... بينما تعود السيدة (ليندا) فيها إلى البيت. (وليد) ذهب إلى عمله هذا الصباح و أتى إليَّ مباشرةً بعد العمل... و ها هو يجلس بقربي و يطالع إحدى الجرائد و على وجهه اهتمامٍ ملحوظ... يبدو أنَّه يقرأ أخباراً مزعجةً، و أظنّها عن الحرب... فهو مهووسٌ بمتابعة تطوّراتها و ما يحدث في البلد أولاً بأوّل.
على المنضدة المجاورة كان (وليد) قد وضع باقةً رائعةً مِنْ الورود الخلابة التي تُبهج النفوس... و علبةً كبيرة مِنْ الشوكولا الفاخرة التي وزّع شيئاً مِنْ محتواها على الأطباء و الممرضات الذين يرعونني...
و ألاحظ أنَّ الرعاية في هذه المستشفى دقيقةٌ جداً.! الأطباء و الممرضات يأتون لتفقّدي بتكرار... حتى في أوقات الزيارة !
ها هو وليد يتثاءب مِنْ جديد ! بين الفينة و أختها أراه يتثاءب أو يفرك عينيه... لاشكَّ أنَّه لمْ ينم جيداً... و ربّما هو مُتعبٌ و يريد أنْ يقيل... لكنّه لمْ يعد للبيت بل أتى ليبقى معي... هذا يشعرني بالذنب!
إنَّه حنونٌ جداً... أغدق عليَّ عطفه و عاملني بمنتهى اللطف و الاهتمام و رحابة الصدر في أزمتي هذه... حتّى أنّه... يساعدني في تناول الطعام !
بين لحظةٍ و أخرى... أجرُّ نظراتي و أحبسها بعيداً عنه، فتغافلني و تتسلّل خلسةً إليه... مخترقة أسوار اللياقة و الخجل !
إنه يرتدي زي العمل... بذلة زرقاء اللون... أنيقة جداً... أراها للمرة الأولى... و قد صفّف شعره بمستحضر يُظهر الشعر و كأنّه مبلل و تدلّتْ خصلة طويلة لحدٍ ما على جبينه العريض... فوق أنفه المعقوف مباشرة !
أرجو أنْ يكون منهمكاً في القراءة و أنْ لا يلاحظ نظراتي الحمقاء !
طُرِق الباب...
" لابد أنها مرح "
قلتُ و أنا أنظر إلى الباب ثمَّ إلى وليد، فوضع وليد الصحيفة جانباً و قام إلى الباب و فتحه و خرج... و سمعتُ صوت رجل يحييه... ثمَّ رأيتُ صديقتي مرح تطلُّ مِنْ الباب، و تحمل باقةً كبيرة مذهلة مِنْ الزهور البديعة.
أخذتْني بالأحضان و أمطرتْني بالقبل و كلمات المواساة و التشجيع... و لا أخفي عليكم أنها رفعتْ مِنْ معنوياتي بقدرٍ كبير...
و بدأتْ بعد ذلك تتحدَّث و بشكلٍ مستمر... نسيتُ أنْ أخبركم أنّ مَرَح ثرثارةٌ و مرحةٌ جداً كاسمها... حلوة المعشر و طيّبة القلب... تحبُّ الحياة و تنفق على متعها بسخاء...! إنها موهوبة في الرسم مثلي و أخوتها الرسامون يقيمون معارض فنيّة دورية، و قد أخبرتْني بأنَّ معرضهم التالي سيُقام عمّا قريب و أنّها ستشارك فيه و دعتْني أيضاً للمشاركة...
الفكرة أبهرتْني...! مرح فتاةٌ رائعة... و أفكارها رائعةٌ أيضاً...
وجود مرح معي في الجامعة في الواقع أبهج حياتي كثيراً... و ساعدني على تطوير علاقاتي بالزميلات... و زيارتها هذه لي فجّرتْ ينبوعاً مِنْ الأمل و التفاؤل في صدري و أزاحتْ جزءاً كبيراً مِنْ حزني و كآبتي... الحمدُ لله.
فيما نحن نتجاذب أطراف الحديث حول المعرض الفني المرتقب طُرِق الباب ثمَّ فُتِح ببطءٍ و سمعتُ صوت وليد يتنحنح مستأذناً الدخول..
قلتُ:
" تفضّل وليد "
و لمّا أذنتُ له بالدخول دخلَ و قال:
" المعذرة... سآخذ هذهِ "
و توجّه نحو الصحيفة التي كان يطالعها قبل قليل فأخذها ثمَّ قال موجِّهاً الكلام إليَّ و عيناه مركزتان على الصحيفة:
" أبو عارف يبلّغكِ السلام و يحمد الله على سلامتكِ يا رغد "
قلتُ:
" سلّمه الله. اشكره نيابةً عنّي "
و همّ وليد بالمغادرة فقلتُ:
" و على الورد كذلك وليد "
" بالطبع "
ثمَّ غادر. كنتُ لا أزال أنظر إلى الباب حين سمعتُ مرح تقول:
" أوه ! أ هذا هو السيد وليد شاكر ؟؟!! "
تعجّبتُ و التفتُ إليها فوجدتُ الدهشة تعلو وجهها فسألتُ مستغربةً:
" نعم، و لكن كيف تعرفينه ؟ "
ابتسمتْ مرح و قالتْ و هي لا تزال ترفع حاجبيها مِنْ الدهشة:
" الجميع يتحدّث عنه ! والدي و عمّي و أخوتي! كلّهم يتحدثون عنه! هذا هو إذن !! "
سألتُها متعجّبة:
" يتحدَّثون عنه ؟ "
ردّتْ:
" نعم ! كمدير لمصنع مواد البناء ! السيد وليد شاكر قال، و السيد وليد شاكر فعل، و السيد وليد شاكر ذهب، و السيد وليد شاكر عاد !! هذا هو السيّد وليد شاكر !! "
و كان التعجّب طاغ ٍ على تعبيرات وجهها! قلتُ:
" و لِمَ أنتِ مستغربةٌ هكذا ؟؟ "
مرح أطلقتْ ضحكةً خفيفة و قالتْ:
" لمْ أتوقّعه أبداً شاباً صغيراً ! أوه إنّه في مقتبل العمر! أهلي دائماً يصفونه بالسيد النبيل ! يقولون أنَّه ذكي و جدّي و مهذَّب، و مُهاب... و لا يضحك أبداً ! تخيلتُه رجلاً صارماً منغلقاً في منتصف العمر أو حتى بعمر والدي! "
ثم أشارتْ إليَّ و أضافتْ:
" و أنتِ أخبرتِني أنّه أبوكِ بالوصاية ! حسبتُه أكبر بكثير ! "
قلتُ و أنا ابتسم عفوياً:
" إنه يكبرني بنحو عشر سنين فقط ! "
قالتْ و الضحك يمتزج بكلامها:
" و كيف تنادينه في البيت؟ أبي؟؟ أو ابن عمّي؟ أو يا سيّد وليد شاكر؟؟ "
ضحكتُ بخفة لتعليق مرح... و عقّبتُ:
" وليد فقط ! كما اعتدتُ أنْ أناديه منذ الطفولة... لقد ربيتُ معه في بيت واحد... بعد فقد والديّ... و كثيراً ما كنّا نلعب سوياً... و قد كنتُ أعتبره مثل أمّي و أنا صغيرة! و الآن صار مثل أبي! "
و يا للأيام...!
سرحتُ برهة لألقي نظرة استرجاعية على الماضي البعيد... حيثُ كنتُ طفلةً صغيرةً غضَّة... عَنَى لها وليد الدنيا بأسرها !
و حقيقةً... لا يزال !
انتبهتُ على صوت مرح تتابع حديثها و قد لمعتْ نظرةٌ ماكرةٌ في عينيها:
" أبٌ شاب... ثري و قوي و ذكي... و مهذب... و... "
و هنا طُرق الباب ثانيةً... و سمعتُ وليد ينادي باسمي فأذنتُ له بالدخول...
" أرجو المعذرة.... الحلوى للزوار "
قال و هو يسير نحو المنضدة المجاورة لسريري حيث علبة الشوكولا...
قلتُ:
" و لصديقتي أيضاً مِنْ فضلكَ "
إذ أنّه يشقُّ عليَّ تحريكها مِنْ موضعي، خصوصاً مع إصابة يمناي. فحمل وليد العلبة و اقترب منا و مدّها إلى مرح:
" تفضلي آنستي "
مرح أخذتْ تقلّب عينيها بين أنواع الشوكولا في حيرةٍ أيها تختار ! و أخيراً اختارتْ إحدى القطع و هي تقول:
" قريباً عاجلاً بحول الله... الحلوى و العشاء أيضاً "
و استأذن و انصرف حاملاً العلبة إلى والد مرح. هذه المرة كانتْ أعيننا نحن الاثنتان تنظر إلى الباب، ثمَّ إلى بعضها البعض في الوقت ذاته. ثمَّ إذا بي أسمع مَرَح تقول:
" إنّه عطر (عمق المحيط) الرجالي! "
نظرتُ إليها باستغراب و قلتُ:
" عفواً !؟ "
ابتسمتْ و قالتْ:
" أهديتُ زجاجةً مماثلة لشقيقي عارف قبل أيّام ! شذى قوي و راقٍ... و باهظ الثمن ! "
يا لهذهِ الـ (مَرَح) ! عقدتُ حاجبيّ و ضيّقتُ عينيّ و نظرتُ إليها باستنكار... ثمَّ قلتُ:
" ماذا كنَّا نقول ؟ "
قبل أنْ يقطع حديثنا دخول وليد. أجابتْ مرح:
" شاب... ثري... وقوي... و ذكي... و راق..."
و توقَّفتْ برهة ثمَّ برقتْ عيناها و أضافتْ:
" و جذاّاااب ! "
أوه يا إلهي !
و قبل أنْ أنطق بأي تعليقٍ طُرق الباب مجدَّداً و التفتَ رأسانا بسرعةٍ نحوه... لكن الطارق هذه المرّة كان السيدة أم فادي... زوجة السيد سيف صديق وليد المقرّب...
~~~~~~~~~~~
-وليد-
بعد أنْ رحل الزوّار عُدتُ إلى غرفةِ رغد فوجدتها بوجهٍ مبتسم... تهللتْ أسارير وجهي... لابد أنَّ زيارة صديقتها و السيدة أم فادي لها قد رفعتْ معنوياتها... و رغم أنّهما لمْ تبقيا غير دقائق، إلا أنّها كانتْ كافية لتشجيع رغد و تحسين مزاجها... و لاحظتُ بعد ذلك أنّها أيضاً تناولتْ وجبة العشاء بشهية جيّدة...
الحمد لله...
كان الطبيب قد أخبرني بأنّه باستطاعة رغد مغادرة المستشفى بعد بضعة أيام، كي تشعر بارتياح أكثر في بيتها و بين أهلها و يزول عنها الإحباط... و لكنني... و لعلمي بأنّه لا أهل لها و لا عائلة تنتظرها... غير أروى التي لا تطيقها رغد... طلبتُ منه إبقاءَها في المستشفى لفترة أطول ريثما تسترد عافيتها و أتدبّر أمرها مع أروى بشكل أو بآخر...
و بعد العشاء شكرتْني رغد على المساعدة و ابتسمتْ ابتسامة خجلة. إنها ليستْ ابتسامة عادية... و توقيتها غريب جداً... فما معناها يا ترى ؟؟!
تأمّلتُها منتظراً التفسير... ثمَّ سمعتها تسألني:
" وليد... هل تعرف ماذا يقول عنك (آل المنذر)؟ "
السؤال كان غريباً ! لكن الأغرب هي هذه الابتسامة الحمراء المتفتحة على وجهها... كأنها وردة بين الثلوج... و لكن... ما بال آل منذر هم الآخرين ؟؟
قلتُ:
" ماذا ؟ "
رغد بعثرتْ نظرها عني و أجابتْ:
" أنكَ... المدير الجدي... الذي لا يضحك أبداً ! "
ارتفع حاجباي تعجُّباً و قلتُ:
" أنا ؟ "
" نعم "
" مَنْ يقول ذلك ؟ "
رغد و هي لا تزال مبتسمة أجابتْ:
" جميعهم... ربَّما يهابونك! إنهم يعتقدون بأنكَ صارمٌ جداً و لا تعرف المزاح ولا الضحك... "
و حدّقتْ بي في ابتسام. عفوياً ضحكتُ ضحكةً خفيفةً و قلتُ:
" و هل تصدّقين؟؟ "
رغد ألقتْ عليّ نظرة متأمّلة و خجلة ثمَّ قالتْ:
" لا يبدو ! "
الذي يبدو هو أنَّ صديقة رغد قد نقلتْ إليها انطباع والدها و شقيقها و عمها عنّي. لديَّ ثلاثة موظفين مِنْ آل منذر يعملون معي... يونس و أسامة و ابنه زياد... صحيح أنّني جادٌ و دقيقٌ في العمل، و لكنني لستُ ثقيل الظل.... هل أنا كذلك ؟؟
رغد نقلتْ نظرها إلى الورود التي إلى جوارها و تابعتْ:
" عندما يعرفونك عنْ قرب... سيكتشفون كم أنتَ طيّب... و حنون... "
لحظتها... شعرتُ بروحي تحلّق في السماء. تأمَّلتُ رغد فوجدتُها تحدِّق في الورود و هي شبه مبتسمة... آه يا رغد... هل احتجتِ لكل ذلك الزمن... لتصفيني و لو بكلمةٍ واحدةٍ تشعِرني بأنّني... شيءٌ في حياتك يستحقُّ الوصف ؟؟
و ليلتها تجاذبنا أطراف حديثٍ ممتع... أخبرتْني رغد فيه عن معرض فنِّي للرسامين سيُقام قريباً و أنَّ صديقتها و شقيقها الفنان عارف سيشاركان فيه... و أنّها تتمنَّى لو تعرض إحدى لوحاتها فيه أيضاً...
قالتْ ذلك ثمَّ نظرتْ إلى يدها المجبّرة و علاها بعض الحزن الذي سرعان ما تبدّد حين قلتُ مشجِّعاً:
" سنرى ما يمكن فعله "
ابتسمتْ رغد ابتسامة رضا و امتنان... و فارقتُها تلك الليلة و البسمة ملتصقة بوجهها...
ذهبتُ إلى البيت ليلاً... و كان أمامي فتاة أخرى انتظر أنْ تلتصق ابتسامةٌ ما بوجهها هي الأخرى!
بعد أنْ أوصلتُ الخالة إلى المستشفى دخلتُ إلى مكتبي، فإذا بأروى توافيني بعد دقيقة... كان جلياً على وجهها أنها ترغب في الحديث معي... طلبتُ منها أنْ تجلس... و جلستُ على المقعد المجاور لها... انتظرتُ حديثها... و مرّتْ بضع ثوانٍ و بعض التردد مسيطرٌ عليها ثمَّ نطقتْ أخيراً:
" هل اشتريتَ التذاكر ؟ "
تنهّدتُ باستياء... فقد كانتْ فكرة السفر هي آخر ما انتظر الحديث عنه... و نحن في مثل هذه الظروف... ثمَّ قلتُ:
" ليسَ بعْد "
فقالت أروى متشكّكة:
" لكنّكَ لمْ تنسَ أمرها أليس كذلك ؟ "
نظرتُ إليَّ نظرةً مركّزة فأجبتُها:
" لا لمْ أنسَ... و لكن... دعي رغد تخرج مِنْ المستشفى أولاً على الأقل "
و مرّرتُ أصابعي في شعري و زفرتُ بضيق... إشارة منّي إلى أنّه ليس بالوقت المناسب لحديثٍ كهذا... راقبتْني أروى قليلاً و ربّما لمْ تفهم إشارتي و سألتْني:
" تبدو قلقاً جداً... هل ابنة عمّكَ بخير؟ "
انقبضتْ عضلات فكّي لدى سماع سؤالها ثمَّ أرخيتُها و أجبتُ:
" نعم "
فإذا بأروى تقول مدافعةً:
" وليد... اسمعني... أنا لمْ أدفع بها مِنْ أعلى السلّم "
حدّقتُ بها مستغرباً... ثمَّ أطلقتُ بصري للفراغ و قلتُ:
" أعرف "
فصمتتْ أروى ثمَّ قالتْ:
" كنتُ أظنّ أنكَ فهمتَ شيئاً خطأ ً... ما حَصَلَ هو أنّنا تشاجرنا و انثنينا لالتقاط شيءٍ مِنْ على العتبات فانزلقتْ قدم رغد و أمسكتْ بي فوقعنا سويةً "
أثارتْ جملتها اهتمامي... فأنا حتى الآن لا أعرف تفاصيل ما حصل و تحاشيتُ سؤال رغد و لمْ أتمكّن مِنْ سؤال أروى... التفتّ إليها و قلتُ باهتمام:
" و لأجل ماذا تشاجرتما ؟؟ "
التزمتْ أروى جانب الصمت ثمَّ سألتْني:
" ألمْ تخبركَ ؟ "
" لمْ أسألها... و لنْ أفعل على الأقل في الوقت الراهن... لا أريد أنْ تنفعل... أريد أنْ تتحسّن نفسيتها قبل أي شيء... لكن أخبريني أنتِ ؟ "
ترددتْ أروى ثمَّ عقدتْ العزم و قالتْ:
" إنه هاتفكَ "
استغربتُ:
" عفوا ً ؟؟! "
فتابعتْ أروى:
" أنتَ نسيتَه في مكتبكَ... و كان يرنُّ... و أرادتْ هي حمله إليكَ فطلبتُ منها إعطائي إيّاه فرفضتْ و أصرّتْ على حملِه إليكَ بنفسها... كنّا على الدرجِ... و حينما حاولتُ أخذه منها وقع على العتبات... "
و توقّفتْ. صمتُّ لحظةً أستوعبُ فيها ما قيل... ثمَّ سألتُ:
" ثمَّ ماذا ؟؟ "
فتابعتْ:
" أردنا التقاطه فوقعنا... "
قلتُ:
" أهذا كل شيء !؟ "
غير مصدّق... أنْ يكون سبب حادثٍ فظيعٍ و مؤلمٍ هو شيء بهذه التفاهة... و لمّا رأيتُ أروى تومئ برأسها (نعم) تملّكني الغضب...
" أنا لمْ أنسه في المكتبِ أصلا ً... بل أنا مَنْ أعطاها إيّاه تلك الليلة و لمْ يكن هناك داعٍ لأنْ تتدخَّلي لاستعادته "
عبسَ وجه أروى وقالتْ مستنكرة ً:
" وليد! لقد كنتَ نائماً في غرفتكَ... منتصف الليل... أردتُ إعادته إليكَ ليوقظكَ وقت الصلاة كالمعتاد... و هي أرادتْ أنْ تفعل هذا بنفسها "
قلتُ بشيءٍ مِنْ العصبية:
" و لماذا اعترضتِها ؟؟ أمِنْ أجل شيءٍ بهذه التفاهة تتسبَّبان بحادثٍ بهذا الحجم؟؟ لقد تكسَّرتْ عظامها و ها هي طريحة الفراش كالمعاقة... كنتُ اعتقد أنَّ شجاركما قام على أمرٍ أعظم شأناً... تقولين مِنْ أجل هاتف ؟؟! ألا تُخفين عنّي شيئاً أكبر يا أروى؟؟ "
هنا وقفتْ أروى بانفعالٍ و هتفتْ بغضبٍ:
" ليس مِنْ أجل الهاتف... و أنا ليس لديَّ ما أخفيه عنكَ، مثلما تفعل أنتَ... و لا أسمح بأنْ تتجاوز هي حدودها... كيف كنتَ تتوقَّع منّي أنْ أتصرّف؟؟ أأتركُها تذهب إليكَ وأنا واقفةٌ أتفرّج ؟؟ هل نسيتَ إنني أنا زوجتكَ يا وليد؟؟ أنا زوجتكَ و أقرب الناس إليكَ و ليستْ هي "
اندهشتُ... فتحتُ فمي لأنطق مُستنكرا ً:
" أروى... ... "
غير أنها لمْ تدعني أتمُّ جملتي بل قاطعتني مباشرة و بانفعال:
" ماذا يا وليد؟ ماذا ؟؟ ما الذي ستجرؤ على قوله الآن؟؟ إنني أنا زوجتكَ لا هي... و أنا مَنْ يحقُّ لها الاقتراب منكَ و مِنْ خصوصياتك... لا هي... أنا مَنْ يجب أنْ تضعها في اعتباركَ الأوَّل... و مَنْ يجب أنْ تصْرف عليها عواطفكَ و حبّكَ... لا هِيَ... وليد ... إنني لا أحظى بعلاقةٍ أكثر دفئاً و حرارة مِنْها... و طوال تلك الشهور و أنا أفسِّر مواقفك بأنها مِنْ باب المسؤولية و الأمانة... و أتقبّلها و بسعة صدر بل و بإعجاب و فخر... و الآن... أكتشفُ أنَّ الحقيقة قد تخطَّتْ ذلك... أنَّكَ تحبُّها هي... لا أنا !! "
حملقتُ في أروى في دهشةٍ مِنْ كلامها... و عجزٍ عن الردَّ... و إذا بها تهتف في وجهي مستمرّةً بانفعال:
" لماذا لا تتكلّم؟ أي حقائق تخفي عنِّي بعد يا وليد؟؟ ماذا سأكتشف عنكَ أيضاً؟؟ لماذا أتيتَ إلى مزرعتي أصلاً؟؟ لماذا ظهرتَ في حياتي؟؟ لماذا تزوجتني؟؟ "
صعقني كلام أروى فانفضتْ يداي ثمَّ إذا بهما تطبقان على ذراعيها و إذا بي أهتف بعصبية:
" أروى... هل فقدتِ صوابكِ ؟؟ "
أروى دفعتْ بيديَّ بعيدا عنها و هي تقول:
" اتركني... لماذا تزوّجتَني إنْ كنتَ تحبُّها هي؟؟ ماذا تخفي عنِّي بعد؟؟ ما الذي تخطِّطان له مِنْ خلف ظهري؟؟... ماذا....ماذا كنتما تفعلان عند النافذة؟؟ قُلْ "
" أي نافذة و أي هذيان ؟؟ "
قالتْ مندفعةً و هي تشير بيدها إلى نافذة الغرفة:
" هنا... ضحكاتكَ كانتْ تخترق الأبواب... و أراكما واقفين جنباً إلى جنب عند النافذة و الأضواء مُطفأة... هل كنتما تتبادلان كلمات الحبِّ و تضحكان عليَّ ؟؟ "
و فهمتُ أنها تعني يوم الجمعة الماضي... عندما وقفتْ رغد تستمع للأذان عند النافذة في غرفة مكتبي و قدِمْتُ إلى جوارها. لمْ أتحمَّل جنونها الفظيع هذا... فقبضتُ على يدها بشدّة و هتفتُ بوجهها:
" حسبكِ... تماديتِ يا أروى؟؟ هل جننتِ ؟؟! "
" و كيف تريد منِّي ألاَّ أجنُّ و أنا أكتشف أنَّ زوجي خائنٌ...؟؟ يُظهِر النبالة و الشهامة مع ابنة عمِّه بينما في الخفاء يتبادلان الحُبَّ و الصور و يستغفلانني؟؟ "
هنا فقدتُ السيطرة على أعصابي و ضغطتُ على يدها بقوَّة أوشكتُ معها على عصرها في قبضتي... و صرختُ وأنا أعضُّ على أسناني:
" إيّاكِ... إيّاكِ أنْ تكرِّري الكلمة ثانيةً... أتسمعين؟؟ و إيّاكِ... ثمَّ إيّاكِ... أنْ تُقحِمي رغد في هذا... لا علاقة لها بشيء... فهمتِ؟؟ و لا أسمح لكِ بأنْ تتحدَّثي عنها هكذا... و لا تجعلي أفكاركِ تقودكِ إلى الجحيم... "
و تابعتُ:
" أكون خائناً لو كنتُ عرفتُها بعد زواجي منكِ... لكن... لكن حبَّها نشأ في صدري منذ طفولتي... و لا أسمح... بأنْ تصفيه بالخيانة... إنّهُ أكبر مِنْ أنْ... تفهميه... أو يفهمه أي أحد... و سواءاً عرفتِ أو لمْ تعرفي... و أعجبكِ أو لمْ يُعجبكِ... فإنّ شيئاً لنْ يتغيَّر... و ما في قلبي سأحمله معي إلى قبري... و أنا أتحمَّل أي شيء في هذه الدنيا... أي شيء... إلا أنْ يُصيب صغيرتي الأذى أو الإساءة... بأيِّ شكلٍ... و مِنْ أيِّ شخصٍ... مهما كان... أعرفتِ هذا الآن؟؟ "
و أطلقتُ صراح يدها و ابتعدتُ عنها و سددتُ ركلة عشوائية إلى المقعد...
أروى بقيتْ تحملق بي... ثمَّ صمَّتْ أُذُنَيها و كأنها تريد أنْ تحول دون تكرّر صدى كلامي بينهما... ثمّ إذا بها تهتف:
" كيف... أمكنكَ... فعل هذا بي !؟ "
ثم تهرول بسرعةٍ خارجة مِنْ الغرفة. بقيتُ واقفاً على النار و جبتُ في الغرفة بضع خطوات عشوائية حتّى استقررتُ أخيراً على مقعدي خلف المكتب. ركزتُ مرفقيَّ على طاولة المكتب و أسندتُ رأسي على كفيَّ بمرارة...
ما الذي فعلتُه؟؟ ما الذي قلتُه؟؟ ما الذي أصابكَ يا وليد؟؟ و ما الذي ينتظركَ ؟؟
درتُ في دوامة الأفكار حتى داهمني الدوار و الغثيان و شعرتُ بألم حادٍ في معدتي.
رفعتُ رأسي عن كفيَّ و هممتُ بالتفتيش عن أقراص المعدة التي أتناولها عند الحاجة و التي أضع بعضها في أدراج مكتبي. لفتَ انتباهي وجود مجموعة مِنْ الأوراق على المكتب، يعلوها قلم رصاص...
تركتْ يدي الدُّرْج و اتجهتْ إلى الأوراق عفوياً... أزحتُ القلم و رأيتُ الورقة الأولى بيضاء خالية إلا مِن تجعيد خفيف... تصفَّحتُ ما يليها... و دُهِشتُ لما رأيتُ... !!
أتعرفون ماذا رأيتُ ؟؟
شيئاً سيُدهشكم مثلي و يلقي بكم في بئر الحيرة...
على تلك الأوراق كانتْ هناك صُور مرسومة بقلم الرصاص... لوجه شخصٍ مألوفٍ جداً... كان ينظر إلى إحدى النواحي و قد علا وجهه تعبير القلق... ملامحه كانتْ مرسومة بدقةٍ عجيبةٍ و كأنها خرجتْ مِنْ أصل الواقع مباشرة... و أكثر ما يثير الدهشة... هو وجود انكسار بسيط على أنفه الطويل... مشابه تماماً للانكسار الذي يعلو أنفي أنا !
قلّبتُ الورقة بعد الأخرى... و الدماء تتصاعد إلى وجهي... و الدهشة تملأ عينيَّ... كان وجهي أنا... مرسوماً على أكثر مِنْ ورقة... رسماً هيكلياً بسيطاً و غير مكتمل... بقلم الرصاص... هذه رسمات رغد...
تذكّرتُ... إنني في ليلة الحادث، كنتُ قد تركتُها في مكتبي مع هاتفي... لتنقل الصور التي التقطناها في النزهة إلى الحاسوب...
الصور... الهاتف... الحاسوب... ! أخذتُ أفتّش في هاتفي و حاسوبي عن تلك الصور... لمْ أعثر عليها في الهاتف... لكنني وجدتها في الحاسوب...
أتدرون ماذا وجدتُ مِنْ بين الصور ؟؟ صورة لي !
صورة لي و أنا أنظر إلى البحر... و على وجهي أمارات قلق... مطابقة تماماً لتلك التي وجدتها مرسومةً على الورق...
الطبيب و أخصائية العلاج الطبيعي و الممرِّضة و السيِّدة ليندا جميعهم يقفون إلى جانبي و أنا أحاول النهوض مستندة إلى العكاز. أخصائية العلاج الطبيعي أجرتْ لرجلي تمارين تحريك بسيطة قبل قليل، و شرحتْ لي و للسيدة ليندا كيفيتها... كانتْ سهلةً و لكنها هيَّجتْ بعض الألم في قدمي و لذلك أنا متخوّفة مِنْ استخدام العكاز...
الطبيب كان يكرِّر عبارات التشجيع... و يطمئنني بأنَّ رجلي بخير... لكنني قلقة و خاشية أنْ تُصاب رجلي بالعرج... و أنتهي عرجاء... تثير شفقة الآخرين...
و لأنَّ إصابتي شملتْ يدي اليمنى أيضاً فإن استخدام العكاز لمْ يكن بالأمر السهل... و لاقيتُ صعوبةً في تثبيته و الارتكاز عليه...
المحاولات الأولى لمْ تكنْ ناجحةً و لمْ تثر في نفسي إلا القلق و الكآبة... و فيما أنا أخطو خطواتي البطيئة الثقيلة تعثَّرتُ بعباءتي و كدتُ أنزلق لولا أنْ تداركتْني أيدي مَنْ حولي.
" لا أريد أنْ أستخدم هذا "
قلتُ ذلك بغيظ مشيرة إلى العكاز... شاعرةً بنفور منه و رفض كلّي لاستخدامه... أخصائية العلاج الطبيعي حاولتْ تشجيعي و حثِّي على إعادة المحاولة... كانوا جميعاً مسترسلين في تحريضهم لي على السير و تصوير الأمر بالمهمّة السهلة فيما هي شاقة بدَنياً و نفسياً...
" لا أستطيع "
صرّحتُ... فعقَّبوا:
" بلى تستطيعين... هيا حاولي مجدَّداً... ستنجحين هذه المرة "
أخيراً وافقتُ كارهةً على المحاولة و سرتُ خطوتين أجرُّ فيهما رجلي مِنْ خلفي و أكاد أتعثر في ملابسي..
" هيا... أحسنتِ... واصلي... "
يشجعوني و أنا أكاد أنهار مِنْ التوتر... هنا سمعنا طرقاً على الباب و الذي كان نصف مُغلَق و جاء صوت وليد يحيِّي، ثمَّ رأيتُه يدخل الغرفة و ينظر إلينا. كان يحمل حاسوبه المحمول و كيساً ما. عندما نظر إليَّ هتفتُ مستنجدة:
" وليد... "
و ألقيتُ بالعكاز جانباً و مددتُ يدي إليه... طالبةً الدعم... وليد وضع ما كان في يده جانباً و أسرع نحوي و ما إنْ بلغني حتى ألقيتُ بثقل جسدي عليه هو بدلاً مِنْ العكاز و أنا أقول:
" لا استطيع... لا أريد أنْ أمشي بالعكاز... لا أريده أبداً "
ربّتَ وليد على يدي المجبّرة و قال:
" اهدئي رغد... ماذا حصل ؟؟ "
قلتُ مستغيثة:
" قلْ لهم ألاَّ يضغطوا عليَّ... لا أريد هذا العكَّاز... قدمي تؤلمني... لنْ أستخدمه ثانيةً... أرجوكَ أخرجني مِنْ هنا "
تنقّل وليد ببصره على الطاقم الطبي و قال مخاطباً الطبيب:
" ما الأمر يا دكتور ؟ "
الطبيب أجاب:
" لا شيء. إنها خائفةٌ مِنْ استخدام العكّاز و نحن نحاول تشجيعها "
أبدى وليد تعبيرات الضيق على وجهه و قال:
" لكننا لمْ نتّفق على هذا "
استغرب الطبيب و سأل:
" على ماذا ؟ "
ردّ وليد:
" على بدء التمارين... لا أحبُّ أنْ تقرّروا شيئاً دون إبلاغي... و لا أقبل أنْ تضغطوا على الفتاة في شيء "
نظر الطبيب و أخصّائية العلاج الطبيعي إلى بعضهما البعض، نظرات ذات مغزى، ثمَّ التقطتْ الأخيرة العكاز الملقى على الأرض و قالتْ:
" حسناً... سنحاول مع العكاز لاحقاً... لكن يجب الاستمرار على تمارين الرجل "
التفتَ وليد إليَّ و قال:
" سنعود إلى السرير"
و سرتُ معتمدةً عليه إلى أنْ جلستُ باسترخاء على سريري.
" كيف تشعرين؟"
سألني وليد فأجبتُ منفعلة:
" أنا لنْ أمشي بهذا الشيء... إمَّا أنْ أسير على قدمي كالسابق أو سأبقى في سريري للأبد "
وليد رد:
" هوّني عليكِ..."
كتمتُ خوفي و تذمّري و لذتُ بالصمت. غادر الطاقم الطبي فلحق بهم وليد ثمَّ عاد بعد بضع دقائق... ابتسم و قال:
" أحضرتُ لكِ بعض المجلات لتطَّلعي عليها "
و قرّب إليَّ الكيس الذي أحضره معه. نظرتُ إليه بامتنان ثمَّ قلتُ:
" و لكن يا وليد أنا أريد الخروج مِنْ هنا... دعنا نعود للبيت "
وليد ارتسم بعض القلق على وجهه ثمَّ قال:
" مِنْ الأفضل أنْ تبقي لأيام أخرى بعد... ريثما تتحسَّن إصابتكِ و تتدرّبين على السير على العكاز أكثر "
" لنْ أحاول ثانية "
بدأ القلق يتفاقم على وجه وليد فقلتُ:
" أرجوكَ... أنا لا أريد البقاء هنا "
السيدة ليندا تدخّلتْ قائلة:
" شرحتْ لنا أخصائية العلاج الطبيعي كيفية التمارين و سأتولَّى العناية بها في المنزل... فإذا كان الطبيب يوافق فمِنْ الخير لنا المغادرة يا بنيَّ "
وليد لمْ يُظهِر تأييداً و لا أعرف لِمَ يريد لي البقاء في المستشفى أكثر، رغم الإرباك الذي يسبِّبه الأمر في عمله و في وضعنا بشكلٍ عام... إضافةً إلى تكاليف المستشفى الباهظة.
قال:
" لبضعة أيّام أخرى على الأقل "
و كان الإصرار مغلَّفاً بالرجاء ينبع مِنْ عينيه... فقلتُ باستسلام:
" ثلاثة فقط "
ابتسم وليد ثمَّ التفتَ إلى السيدة ليندا و خاطبها:
" هيا بنا الآن إلى المنزل يا خالتي... و كان الله في عونكِ هذه الليالي أيضاً "
و كالعادة بعد اصطحابها للمنزل عاد وليد و بقي برفقتي طوال ساعات الزيارة... و كان يشغل نفسه بإنجاز أعماله في حاسوبه الخاص، بينما كنتُ أتصفَّح المجلات التي جلبها لي و بين لحظة و أخرى ألقي نظرةً على الساعة...
النهار غدا طويلاً... و شعرتُ بالملل... و راودتْني فكرة الاتصال بنهلة و التي لمْ أهاتفها منذ أيام و لمْ أعلِمها عمَّا حصل معي حتى الآن...
" وليد "
ناديتُه و قد كان مركّزاً في الشاشة فالتفتَ إليّ:
" نعم ؟ "
" مِنْ فضلكَ هل لا ناولتَني الهاتف؟ "
و أشرتُ إلى المنضدة المجاورة حيث كان الهاتف موضوعاً و يشق عليَّ الوصول إليه. أقبل وليد و ناولني الهاتف و سألني عفوياً:
" بمَنْ ستتصلين ؟ "
" ببيت خالتي "
وليد أمسك بالهاتف و أبعده عنِّي. نظرتُ إليه باستغراب فردَّ على استغرابي بسؤال:
" هل سبق و أنْ أخبرتِهم ؟ "
أجبتُ:
" لا "
وليد أعاد الهاتف إلى المنضدة و قال:
" جيّد. لا داعي لأنْ تقلقيهم الآن "
تعجّبتُ و سألتُ:
" ألا تريد مني الاتصال بهم ؟ "
" أرجوكِ لا تفعلي رغد "
ازداد عجبي و سألتُ:
" لماذا ؟؟ "
وليد شدّ على قبضتيه و علاه التوتر ثمَّ قال:
" تعرفين... إنَّ ذلك سيسبِّب لهم القلق و أنتِ لا تزالين في المستشفى... الحمد لله أنكِ بخير و لا داعي لإشغال بالهم عليكِ "
إنني أوافي نهلة بتفاصيل سخيفة عن حياتي اليومية فهل يُعقل ألاّ أخبرها عن حادثة كهذه؟
قلتُ:
" سأطمئنهم إلى أنَّني بخير و سأغادر المستشفى قريباً "
وليد حرّك رأسه اعتراضاً. قلتُ:
" لكن... ... "
و تكلّم وليد بنبرةٍ شديدةِ الرجاء:
" أرجوكِ يا رغد... لا تخبريهم بشيء... أرجوكِ "
و رغم أنَّني لمْ أفهم جيّداً موقف وليد، غير أنني أذعنتُ لطلبه و لمْ أتّصل بعائلة خالتي و لمْ أُطلِعهم على شيء مما حصل إلى أنْ التقينا فيما بعد...
و مضتْ الأيّام الأخيرة... و أخيراً غادرتُ المستشفى...
كان وليد قد أعدَّ إحدى غرف الطابق السفلي لأقيم فيها مؤقتاً... و لأنَّ منزلنا كبيرٌ و موحشٌ و مليءٌ بالعتبات و الدرجات، فقد اختار لي أقرب غرفة إلى المطبخ و إلى غرفة المعيشة السفلية و التي استقلّها هو بدوره للمبيت قريباً مني.
كنتُ قد تدرّبتُ على السير بالعكَّاز مضطرَّةً. المهمَّة شاقَّة و تحرّكي بطيء و ثقيل، لكنني عُدِمتُ حلاً آخر... أخذتُ أتنقَّل بالعكاز في غرفة نومي و في الجوار بحذر و مشقّة و غالباً ما اعتمد على الآخرين لجلب الأشياء إليَّ. وليد و السيدة ليندا و الخادمة تناوبوا على رعايتي و ملازمتي معظم الأوقات. أما الدخيلة الشقراء فلمْ أرَ وجهها الملوَّن مُذ زارتْني في المستشفى بعد الحادث، قبل أسابيع.
وليد أصرَّ على إقامة حفلة عشاءٍ صغيرة ندعوا إليها المقربين احتفالاً بخروجي من المستشفى. الفكرة لمْ تعجبني لأنني بالتأكيد سأضطرُّ لمجالسة الشقراء مع الضيوف. لكنني رضختُ للأمر مِنْ أجل وليد.
ما كان أطيبه و أكرمه... طوال فترة بقائي في المستشفى... أكرم به و أنعم...
أوّل ضيفة وصلتْ كانتْ صديقتي مَرَح مع والدتِها و شقيقتيها و قد استقبلتْهنَّ السيدة ليندا و قادتهنَّ إلى غرفةِ الضيوف حيث أجلس.
أمطرتْني الثلاث بالتحيَّات و التهنئات على خروجي مِنْ المستشفى و أهدينني سلّة حلويات رائعة.
" و لكن أين هي السيدة أروى؟ نتوق للتعرّف إليها "
قالتْ ذلك مَرَح بكل عفوية و هي تجهل أنَّ مجرَّد ذكر اسم هذه الدخيلة يثير غيظي. السيدة ليندا ردّتْ مبتسمة:
" إنها في الجوار... سوف استدعيها "
و ذهبتْ لاستدعائها. مرح قالتْ مازحة:
" أتحرّق شوقاً لرؤية مالكة المصنع و صاحبة الملايين ! يقول أبي أنها كانتْ تعيش في مزرعةٍ صغيرة حياةً عادية ! "
أم عارف - والدة مَرَح - زجرتْ مَرَح على تعليقها و لكنّ مَرَح ابتسمتْ و قالتْ:
" هيّا أمّي ! هذه رغد صديقتي المقرّبة و هي تعرف أنني أحبُّ المزاح ! ألا تبدو حكاية السيدة أروى أشبه بالأساطير؟؟ "
لحظات و إذا بالشقراء تهلُّ علينا... قامتْ الثلاث و حيَّينها بحرارة و عبَّرن عن سرورهن الشديد بالتعرُّف إليها و لهفتهنَّ المسبقة للقائها... و كان جلياً عليهنَّ الانبهار بها... نعم فهي جميلةٌ بدرجة آسرة للنظر و قد تزيَّنتْ هذه الأمسية بشكلٍ متقنٍ جداً...
إنني أمهرُ منها في فنِّ المساحيق و الألوان... و ذوقي أجمل مِنْ ذوقها في الملابس و الحلي، لكنِّي الآن قابعةٌ في مكاني بجبيرتي و عكَّازي... و بدون أي زينة و أي ألوان... و لا أُثير سوى شفقة الآخرين...
بمجرّد حلولها، سرقتْ الشقراء كل الأضواء بعيداً عنّي أنا... أنا مَنْ كان يُفترض أنْ تكون هذه الحفلة قد أقيمتْ مِنْ أجلها !
و عندما أتتْ أمّ سيف و أمّ فادي كذلك انضمّتا إليهنَّ.
و حتّى على المائدة، كنَّ يأكلنَ بسرور و عفويّة و يمتدحن الأطباق اللذيذة و اليد الماهرة التي أعدَّتها... فيما كنتُ أنا المُعاقة بالكاد ألمس الطعام بيدي اليسرى...
كل شيءٍ رائع محتكرٌ عند الشقراء... الجمال... و المال... و الأطباق الشهية... و الأهم... وليد قلبي!
و عوضاً عن أنْ تبهجني هذه الحفلة كما يُفترض زادتْني غيظاً و غيرةً و نفوراً مِنْها.
التزمتُ جانب الهدوء طوال الوقت، لشعوري بأنني لا أملِكُ شيئاً أمام ما تملكه الشقراء ممّا يثير اهتمام و إعجاب الآخرين...
و عندما قامتْ الدخيلة و والدتها برفع الأطباق الرئيسية إذا بمَرح و التي كانتْ جالسةً إلى جواري تقترب منّي و تهمس في أذني:
" زوجة أبيكِ مُذهلة ! جذَّاااابة مثله ! كم هما ثنائيٌ رائع "
و لو لمْ أتمالك نفسي لأفرغتُ ما في معدتي مِنْ شدّة الغيظ...
مرح ... أنا أسوأ شخص لتطلقي على مسامعه تعليقاً كهذا !
بعد أنْ خرج الضيوف، أويتُ مباشرةً إلى غرفتي و النار تحرق صدري و تفحّمه... و لمْ أجدْ مِنْ حولي ما أفرغ فيه غضبي و لا مَنْ أبثُّه همّي أو أعبِّر له عمّا يختلج داخلي... فأخذتُ أبكي بحرقة... و أردتُ أنْ أكسِر الجبيرة و أحطِّم العكّاز اللذين لمْ يزيداني إلا بؤساً على بؤس... و مِنْ شدّة غيظي رميتُ بالعكاز بعيداً بقوَّة فارتطم بطاولةٍ على مقربةٍ و أحدَثَ جلبة...
طُرِق الباب و سمعتُ وليد يخاطبني:
" هذا أنا يا رغد... هل أنتِ بخير؟؟ "
قلتُ:
" نعم. لا تقلق "
قال:
" هل تحتاجين إلى شيء؟ "
أجبتُ:
" كلاَّ... شكراً "
فقال:
" إذن تصبحين على خير "
و أحسستُ به يبتعد...
شعرتُ برغبةٍ مفاجئة في التحدُّث معه... في احتكاره معي و لو لبعض الوقت... في جذب اهتمامه و طمأنة نفسي بأنني لستُ نكرةً في هذا المنزل... أردتُ النهوض و لكنَّ عكَّازي كان بعيداً... ناديتُ وليد و لكنَّه لمْ يسمعني... زحفتُ على الأرض إلى أنْ وصلتُ إلى العكاز... ثمَّ ارتديتُ حجابي على عجلٍ و سرتُ نحو الباب...
ذهبتُ إلى غرفة المعيشة المجاورة حيثُ يباتُ هو حالياً... و كان الباب مفتوحاً و يكشِف ما في الداخل...
إلى الجدار المقابل لِفتحة الباب كانتْ أروى تُسنِد ظهرها و قد مدَّتْ إحدى يديها إلى خصرها بينما يقف وليد أمامها مباشرة و ذراعاه ممدودتان إلى الأمام و مسندتان إلى ذات الجدار مشكلتين طوقاً حولها...
حين وقع بصري على منظرهما شعرتُ بالشلل المفاجئ و ترنّحتُ بعكازي...
بسرعة استدرتُ للوراءِ و خطوتُ خطوتين بالعكاز مبتعدةً عن الصدمة... و لأنني شعرتُ بالشلل فقد رميتُ ثقلي كاملاً على العكَّاز الذي انزلق فوق الأرضية الملساء و أوقعني فجأة...
تأوّهتُ ألماً... و لمْ أستطِع النهوض. ليس مِنْ شدّة الإصابة بل مِنْ العشي الذي أصاب عيني مِنْ منظر الاثنين... لا أطيق أنْ أراهما قرب بعضهما البعض... لا أتحمّل...
لمحتُ وليد يُقبل نحوي قلِقاً و يجثو بقربي و هو يقول:
" أأنتِ بخير ؟ "
بخير...؟؟ لا ! أنا لستُ بخير... لستُ بخير... لستُ بخير...
هبَّ وليد لمساعدتي على النهوض فقلتُ زاجرةً:
" دعني مِنْ فضلكَ "
و مددتُ يدي إلى العكاز و أقمتُه عمودياً على الأرض و حاولتُ النهوض، غير أنَّني لمْ استطع... كانتْ أطرافي ترتجِف و أعصابي منهارة و عجزتُ عن شدِّ قبضتي على العكاز فانزلق مجدَّداً...
قال وليد:
" دعيني أساعدكِ "
لكنني رددتُ باقتضاب:
" قلتُ دعني و شأني... سأنهض بمفردي "
و أعدتُ الاستناد إلى العكاز و حاولتُ الوقوف... و لمْ تسعفني عضلاتي و سرعان ما انزلق العكاز و انهرتُ أرضاً...
وليد حينما رأى ذلك مدَّ ذراعيه و رفعني عنْ الأرض...
قلتُ بغضب:
" ماذا تفعل؟ كلاَّ... أنزلني..."
قال وليد بانفعال:
" ستكسرين بقية أطرافك إنْ تركتُكِ هكذا "
و سار بي رغماً عنّي إلى أنْ أوصلني إلى غرفتي و وضعني على السرير.
لكنه اختفى... ثمَّ فجأة ظَهَرَ يحمل العكَّاز و أتى به إلى جانبي. لمَّا رأيتُ العكاز قربي مباشرةً ثارتْ ثورتي... أخذتُ العكاز و رميتُ به بقوةٍ بعيداً فارتطم بنفس الطاولة و أحدث ذات الجلبة... وليد وقف إلى جواري يراقب بصمت...
قلتُ بحدّة:
" لا أريد هذا و لن استخدمه ثانية... هل فهمتَ؟ "
لمْ يتحرّك و لمْ يقل شيئاً... فاشتططتُ غضباً مِنْ بروده و صرختُ:
" لا تعده إليَّ ثانيةً... مفهوم ؟؟ "
و وليد واقفٌ يسمعني و ينظر إليَّ و لا يردّ !. أردتُ منه أنْ يقول شيئاً... أنْ يغضب... أنْ يتشاجر معي أو يواسيني... أنْ يُبدي أيَّ ردَّة فعل تفيد بأنه يحسُّ و لكنّه لمْ يحرّك ساكناً.
قلتُ بتهيّج:
" لماذا لا تردّ ؟ "
وليد حدّق بي لحظةً ثمَّ قال:
" هل انتهيتِ الآن ؟ "
حملقنا ببعضنا لفترة ثمَّ استدار وليد بقصد المغادرة. هتفتُ بسرعة:
" انتظر "
استدار إليَّ بنفاذ صبرٍ و قال بضيقٍ بالغ:
" ماذا بعد ؟ "
و لمَّا أحسستُ بضيقه هدأتُ فجأةً و شعرتُ بالذنب. صمتُّ برهةً متراجعة، و قبضتُ على ما أفلتَ مِنْ أعصابي... ثمَّ قلتُ و قد تحوّل صوتي بغتة إلى السكينة:
" إلى أين تذهب "
ردّ وليد بانفعال:
" إلى قعر الجحيم... هل يعنيكِ هذا ؟ "
و أراد أنْ يخرج فناديتُه مجدداً:
" وليد "
التفتَ إليَّ بطول بالٍ و زفر زفرة قويَّة مِنْ صدره و قال باقتضاب:
" نعم ؟ "
آه يا إلهي!... إنه غاضبٌ بالفعل... يا أنتَ !.. يا مَنْ تقف هناك تشتعِل غضباً... يا مَنْ تدَّعي أنك ذاهبٌ إلى قعر الجحيم... إنكَ أنتَ جحيمي! اقترِب و ابتعِد منِّي و عنّي في آنٍ واحد... فأنا أفقد توازني في كلا الوضعين... و لا شيء يحرقني و يزيدني سعيراً و جنوناً أكثر مِنْ رؤيتكَ إلى جانب الشقراء الدخيلة...
" نعم يا رغد هل هناك شيءٌ آخر ؟؟ "
قال وليد ذلك لمَّا استبطأ ردّي و رأى ترددي...
" رغد ؟؟!! "
قال مستغرباً و مستاءً... فقلتُ منكسِرة:
" أنا... آسِفة "
و مِنْ التعبيرات التي تجلّتْ على وجهه أدركتُ أنَّه لمْ يكن يتوقّع أسفي أو ينتظره. قلتُ:
" لا تغضَب منِّي "
حملق بي وليد في صمت، ثمَّ ضغط بإصبعه على المنطقة بين حاجبيه ثمَّ قال:
" لستُ غاضباً... لكنني تعِبٌ مِنْ تقلبّات مزاجكِ هذه يا رغد..."
ثمَّ تابع بصوتٍ راجٍ:
" أعطيني فترة نقاهة أُرخي فيها أعصابي المشدودة قبل أنْ تنقطع "
فسّرتُ الإرخاء الذي يقصده على أنّه أروى... فهيّجني المعنى و قلتُ منفلتة مِنْ جديد:
" و أعصابكِ هذه لا تسترخي إلا مع الشقراء ؟ "
نظر إليَّ بتعجُّب و تابعتُ:
"أمَّا أنا... فأعصابي لنْ تستريح و مزاجي لنْ يصفوَ إلا إذا أرسلتَها للمزرعة و أبعدتَها عنِّي نهائياً"
مرَّرَ وليد أصابع في شعره كما يفعل عندما يتوتّر... ثمَّ زفر:
" يـــــا صبر أيــّــــوب "
و أحسستُ بالجملة تطعن قلبي... فقلتُ ثائرة:
" يلزمكَ صبرٌ بحجم المحيط إنْ كنتَ ستُبقيها أمام عيني تصول و تجول... و أنا معاقةٌ بهذا الشكل... و بسببها... فلتتحمّل النتائج... قلتُ لكَ أنني أكرهُها و لا أريد رؤية وجهها ثانيةً... إنّها حتَّى لمْ تفكِّر في الاعتذار عمَّا سبّبتْه لي... بل لابد أنّها فرِحَة بإصابتي و تشمُت بي... و أنا أفضِّل الموت حرقاً على أنْ أراها تتجوَّل أمام ناظريَّ بكل حرِّية "
ربَّما بالغتُ في التعبير عن غيظي الشديد أمام وليد... هو وضع يديه على صدغيه ثمَّ هتف بقوة:
" حاضِر... حاضِر يا رغد... حـــــاضـِـر.... سأرسلها إلى المزرعة و أخلُّصكِ مِنْ كل هذا... أفعل أيِّ شيءٍ لأجلكِ... ماذا تأمرين بعد ؟ فقط أريحيني... "
و عدتُ إلى غرفةِ المعيشة و المجاورة لغرفةِ رغد فوجدتُ أروى لا تزال هناك... واقفةً عند البابِ، و تستمع إلى شجارنا.
لمْ تتحدَّث بل ألقتْ عليَّ نظرة خيبةٍ سريعة ثمَّ غادرتْ المكان. قبل قليل كنتُ أحاول مصالحتها و توضيح بعض الأمور العالقة منذ أيام... إننا متخاصمان و الجو بيننا مربوكٌ للغاية و كلَّما حاولتُ التقرُّب منها صدَّتْني بجملة: ("أعدني إلى المزرعة")
أحاول بذل جهودي لإقناعها بالعدول عن الفكرة حالياً و لكن... و إنْ كان هناك شعرة أمل واحدة فإنَّ رغد بكلامها الأخير هذا... قطعتْها.
رغد كانت بصحَّةٍ مقبولة مُذ غادرتْ المستشفى و تقبّلتْ بعد جهد فكرة السير على العكاز... و الأمور سارتْ على نحوٍ مُرْضٍ إلى أنْ انتهتْ حفلة العشاء الصغيرة التي أقمتُها احتفالا بسلامتها.
و اعتقد... بل أنا على يقين مِنْ أنَّ سبب تدهورها المفاجئ هو مقابلة أروى. إنَّ عليَّ ألا أقف مكتوف اليدين و أترك الفتاة تتخبَّط و تنهار مِنْ جديد. في السابق كانت تنشغل في الجامعة و في الدراسة... أما و هي حبيسة الجبيرة و المنزل... فإنَّ اصطدامها بأروى سيسبِّب كارثة نفسية لها... و لأنَّ الوضع لمْ يكن ليُطاق البتّة فقد انتهى قراري إلى أنْ أحجز للسفر عاجلاً...
" لا بأس... خيراً تفعل "
أجابتْني الخالة حين أخبرتُها بعد أنْ عدتُ مِنْ شركة الطيران. قلتُ:
" جيّد. و هل لا ساعدتِ رغد في تجهيز أمتعتها ؟ "
" بكل تأكيد "
سألتُ:
" بالمناسبة هل هي مستيقظة ؟ "
فأنا لمْ أرها أو أعرف عنها شيئاً منذ البارحة... و لا أعرف بأي مزاج استيقظتْ هذا الصباح. ردّتْ الخالة:
" نعم. أنهتْ حمّامها و طعامها قبل قليل فقد رأيتُ الخادمة تخرج بالأطباق مِنْ غرفتها "
" إذن رجاءاً هل لا تعلمينها بأنني أودُّ التحدُّث معها "
و سبقتني الخالة إلى غرفة رغد لتعلمها بقدومي، ثمَّ رأيتُها تخرج و تقول:
" تفضَّل "
البارحة كانتْ فتاتي غير طبيعية و أظنني أنا أيضاً لمْ أسيطر على أعصابي كما ينبغي... لكن أنا حتَّى لو غضبتُ مِنْ رغد و تقلُّبات مزاجها يتغلَّب خوفي عليها و حبِّي لها على أي شعور آخر و يعيدني إليها ملهوفاً... اشتاق و أعود إليها حتّى لو لمْ أكن أجد لديها ما يغذِّي شوقي... إنها المحور التي تدور حوله أحاسيسي و مشاعري و اهتماماتي... و أمور حياتي كلّها...
وقفتُ عن الباب و طرقتُه... و سمعتُها تأذن لي بالدخول. هذه المرّة تسارعتْ نبضات قلبي و داهمني التوتر... أكثر مِنْ المعتاد...
رغد كانتْ جالسةً على المقعد أمام المرآة... و نظرتْ إليَّ مِنْ خلال المرأة فازداد توتري ثمَّ حيَّيتُها بصوتٍ خافت، و هي ردّتْ بهدوء. سألتُها:
" كيف أنتِ هذا الصباح ؟ "
متمنياً أنْ تكون إجابتها مطمئنة شكلاً و مضموناً.
" نحمد الله و نشكره "
و هي لا تزال تخاطبني عبر المرآة... عقّبتُ:
" و نعم بالله "
و لمحتُ العكاّز إلى جوارها فسألتُ:
" هل قمتِ بالتمارين ؟ "
" نعم "
" و كيف تشعرين ؟ "
" بتحسُّن خفيف "
ابتهجتُ و قلتُ:
" عظيم... ستتحسَّنين بسرعة إنْ شاء الله تعالى، و تستغنين عن هذا قريباً "
وأشرتُ إلى العكاز. رغد نظرتْ إلى العكَّاز ثمَّ إليَّ عبر المرآة نظرة تشكُّك و قلق و سألتْ:
لكنها كانتْ شديدة القلق... بل إنَّ أكبر مخاوفها كما استنتجتُ هو أنْ تنتهي إصابتها بالعرج لا سمح الله... قلتُ مشجِّعاً:
" لقد أكَّد الطبيب أنه أمرٌ مؤقّت إلى أنْ يُشفى التمزّق و يزول الورم و ينجبر الكسر... لا تخافي صغيرتي "
تعلّقتْ عينا رغد بسراب كلماتي الأخيرة... ثمَّ إذا بها تستدير نحوي لتواجه نظراتي مباشرة... و تقول:
" وليد... فيما لو... لو لا قدَّر الله أصبحتُ عرجاء أو مُعاقة... فـ... هل... ستظلُّ تهتم بي؟ "
فوجئتُ مِن سؤالها الغريب... و الذي أجهل المغزى الحقيقي مِن ورائه... و كانتْ تنتظر منِّي الإجابة مِنْ لهفة نظراتها إليَّ... أي سؤالٍ هذا يا رغد... !؟ قلتُ:
"لا تفكّري هكذا يا رغد بالله عليكِ... أنا متفائلٌ جداً و بإذن الله سيعود كل شيءٍ على ما كان"
لكنَّها عادتْ تسأل:
" لكن لو لا قدَّر الله لمْ أشفَ تماماً... هل ستظلُّ تعتني بي ؟ "
و مِنْ الرجاء الذي قرأتُه في عينيها فهمتُ مقدار تشوّقها لسماع إجابةٍ مطمئنة...
آه يا رغد ! أَوَ تسألين ؟؟ أيساوركِ أيُّ شكٍ تجاه أهميّتكِ و أولويّتكِ أنتِ في حياتي..؟؟
أجبتُ:
" و حتّى لو بلغتِ المائتين مِن العمر و أصبحتِ عجوزاً عاجزة عن كل شيء... سأظلُّ اعتني بكِ دوماً يا صغيرتي "
رأيتُ الابتسامة تشقُّ طريقها إلى وجها... كأنها شمسٌ أشرقتْ في سماءٍ صافية نقيّة... ثمَّ قالتْ:
" شكراً لكَ "
ابتسمتُ بسرور و راحة و قلتُ:
" على الرَّحبِ و السِّعة "
رغد كرّرتْ:
" أنا عاجِزةٌ عنْ شكركَ على كل ما تفعله مِنْ أجلي... "
قاطعتها مداعباً:
" و هل ينتظر الآباء شكراً على رعاية بناتهم ؟ "
رغد نظرتْ إلى الأرض ثمَّ إليَّ و قالتْ:
" و لكنّكَ ستكون في المائتين و عشر سنين مِنْ عمرك آنذاك...!! أشكُّ في أنّكَ ستكون قادراً على حملي! "
ضحكتُ ثمَّ قلتُ:
" لا تستهيني بقدراتي "
ثمَّ أضفتُ:
" حسناً ! سأريكِ ! "
و على غير توقِّعٍ منها مددتُ يدي أسفل الكرسي الذي تجلس هي فوقه و رفعتُهما سويا ً! رغد هتفتْ متعجِّبة:
و لمْ أدعْ لها الفرصة للاعتراض و حملتُها إلى غرفتها في الطابق العلوي و استدعيتُ خالتي و الخادمة لمساعدتها... و ذهبتُ لأعد حقيبتي أنا أيضاً.
~~~~~~~~
-رغد- موعد سفرنا هو مساء اليوم... و لأنَّه سيكون سفراً قصيراً فأنا لمْ أجهِّز في حقيبتي الكثير مِنْ الحاجيات. و كنتُ أتمنّى لو أنَّني لا أضطرُّ للسفر و أنا بهذه الحالة، و لكن وليد لمْ يجد بداً مِنْ أنْ يسافر بنا نحن الثلاث ثمَّ يعود بي...
الساعة الآن الثالثة فجراً... تصوّروا أنني مستيقظة حتّى الآن... يحُول الأرقُ الفظيع دون استسلامي لسلطان النوم...!
وليد أخبرني بأنّه سيأخذني إلى بيتِ خالتي لأقضي عندهم بضعة أيام... و أنا لمْ أُخبر عائلة خالتي عن قدومي إليهم و لا عن إصابتي، بطلبٍ مِنْ وليد نفسه.
سوف نترك الشقراء و السيدة ليندا في المزرعة... و نعود أنا و وليد إلى البيت ! ألا يكفي هذا سبباً لجعلي أتأرَّق طوال الليل؟؟
هذا إضافة إلى تفكيري الدائم بإصابتي و خوفي مِن أنْ أنتهي عرجاء... أو تفقد يدي مهارتها في الرسم...
الرسم !.... آه...
على ذكر الرسم تذكّرتُ شيئاً مهماً فهببتُ جالسةً...
" لوحاتي ! "
هتفتُ أخاطب نفسي... كيف يُعقل أنْ تكون رسماتي الأخيرة قد غابتْ عن ذهني هكذا..؟!
نهضتُ عن سريري و أضأتُ المصابيح و جلتُ ببصري فيما حولي مفتِّشةً عن الأوراق التي رسمتُ عليها وجه وليد ليلة النزهة...
" يا إلهي... أين يمكن أنْ تكون ؟؟ "
فقد كانتْ في يدي عندما وقعتُ مِنْ أعلى الدرج، هي و كيس مجوهراتي ذاك... و لا أعرف ما حلّ بهما بعد ذلك... ربما الشقراء أزالتْ الأوراق و تخلَّصتْ منها... أو ربَّما السيدة ليندا جمعتْها و وضعتْها في مكانٍ ما... أو ربما وليد بالصدفة شاهدها...
ربّاه !!
و لمْ استطع مقاومة رغبتي الملحّة في العثور عليها تلك الساعة. فتّشتُ تفتيشاً سطحياً في الأماكن التي افترضتُ أنَّ أحداً يمكن أنْ يكون قد نقلها إليها... و لمْ أعثر على شيء للآن... و حان دور غرفة مكتب وليد !
البيتُ يخيّم عليه السكون و الظلام... و حقيقة ً يبدو مُرعباً... و أنا أتحرَّك ببطء و بحذر و ببعض الخوف... إلى أنْ دخلتُ غرفة المكتب...
كانتْ الغرفة غارقةً في الظلام الدامس، أشعلتُ المصابيح و ألقيتُ نظرةً على ما حولي و استقرَّ بي العزم على أنْ أبدأ بتفتيش مكتب وليد...
"ربّما يكون أحدهم قد جلبها إلى هنا ! لكنِّي أخشى أنْ يكونوا قد ألقوا بها في سلَّة المهملات"
قلتُ مخاطبةً نفسي... و تأمَّلتُ المكتب و الأرفف العديدة و الأوراق الكثيرة مِنْ حولي... و شعرتُ بالتقاعس... كيف يمكنني البحث بين كل هذه الأشياء؟؟
اقتربتُ مِنْ المكتب و لمْ ألحظْ ما يسترعي الاهتمام على سطحه، فجلستُ على الكرسي خلفه و فتحتُ أوَّل الأدراج و فتّشتُ ما بداخله ثمَّ تنقلتُ بين البقية واحداً تلو الآخر...
و فيما أنا أفعل ذلك فجأة سمعتُ صوتاً مُقبِلاً مِنْ ناحية الباب فجفلتُ و تسمّرتُ في مكاني... انكتمتْ أنفاسي مِنْ الفزع و تلاحقتْ نبضات قلبي... و كاد شعر رأسي يقف مِنْ الذعر... !
" رغد ! "
لقد كان صوت وليد ! سحبتُ يدي مِنْ الدرج الذي كنتُ أفتّشه و وضعتُها تلقائياً على صدري و أطلقتُ نفَساً طويلاً...
وليد تأمّلني و هو واقفٌ عند فتحة الباب و يده ممسكةٌ بمقبضه و وجهه يكسوه الاستغراب و القلق...
" ماذا تفعلين هنا و في هذا الوقت !!؟؟ "
نبعتْ قطيرات مِنْ العرق على جبيني مِنْ شدّة فزعي و ازدردتُ ريقي و تتأتُ و لمْ أجد جواباً... رأى وليد اضطرابي فقال:
" هل أفزعتكِ ؟؟ "
أومأتُ برأسي (نعم) فأقبل نحوي حتى صار جواري و هو محملقٌ بي باستغراب و حيرة، ثمَّ قال:
" أتبحثين عن شيء ؟؟ "
جمعتُ بعض الكلمات المبعثرة على لساني و قلتُ:
" إممم لا... أعني... لا شيء... لقد كنتُ... "
و لمْ استطع التتمة. وليد مدّ يده و أمسك بيدي اليمنى المجبّرة بلطفٍ و قال:
" هوّني عليك... هذا أنا ليس إلاّ ! "
و بعد أنْ هدأتْ أنفاسي مِنْ فزعها و انتظمتْ خفقات قلبي و لاحظ وليد استرخائي قال:
" حسناً... عمَّ كنتِ تبحثين ؟؟ "
شعرتُ بالخجل و لمْ أجرؤ على إجابته... ماذا أقول له ؟!.... سَحبَ وليد يده عن جبيرتي و انثنى أمامي و مدَّ يده إلى أحد الأدراج و استخرج منه شيئاً وضعه على المكتب مباشرةً أمامي قائلاً:
" عن هذه ؟؟ "
و إذا بها الأوراق التي كنتُ أفتّش عنها و معها قلمي الرصاصي. تسلّقتْ الدماء الحمراء أوداجي و رشّتْ على وجهي صبغاً شديد الاحمرار... و سكنتُ عن أي كلامٍ و أي حركة.
وليد بقي واقفاً يراقب تقلبّات لوني و لا أعرف ماذا كان يقول في نفسه... و أخيراً نطق:
" لِمَ لمْ تنتظري حتّى الصباح أو تطلبيها منّي ؟ "
حينها نطقتُ بارتباك:
" أأأ.... طرأتْ.... في بالي الآن "
وليد عاد و مدَّ يد و أخذ الأوراق مِنْ جديد و قال:
" هلمّي بنا إلى النوم... ينتظرنا سفرٌ و مشقة "
و سار مبتعداً... و الأوراق في يده ! هتفتُ:
" لوحاتي ! "
فالتفتَ إليَّ وليد... ثمَّ أمال إحدى زاويتي فمه للأعلى و هو ينظر إليَّ نظرةً قوية و يقول:
" سآخذها إلى غرفتكِ ! لا تخافي عليها "
و سبقني إلى غرفتي... تنفّستُ الصعداء... ثمَّ سرتُ خلفه بعكَّازي ببطء... و عند الباب تقابلنا وجهاً لوجه... هو يهمُّ بالخروج و أنا أهمُّ بالدخول... بالضبط في طريق خطوات بعضنا البعض... لكنّ أياً منّا لمْ يتنحَّى عن طريق الآخر...
رفعتُ نظري إليه فإذا به ينظر إليَّ... بعمقٍ و غموض... و جسده يحجب النور عنّي و ظلّه يغطّي جسدي... كالشجرة الخرافية الممتدّة إلى السماء... حاولتُ أنْ أهرب مِنْ نظراته... و أنْ أبتعد عن طريقه... و لمْ أفلح... كنتُ كالأسيرة المقيّدة المربوطة بإحكام إلى جدع الشجرة... ونظراته كانتْ قويّة و ثاقبة... كتلك النظرات التي كانت معلَّقة في سقف غرفتي... في بيتنا المحروق... تراقبني و تخترقني كل حين...
رأيتُ على طرف لسانه كلاماً يوشك أنْ يقوله... أكادُ أجزم بأنَّ بعض الحروف قد تساقطتْ منه... لكنّ وليد زمَّ شفتيه و عضَّ على أسنانه و تنهّد ثمَّ قال ختاماً:
استقبلنا العمّ إلياس استقبالاً حميماً جداً... مليئاً بالعناق و القبل... فقد كان غيابنا طويلاً و بقي العجوز وحيداً بعيداً عن أخته و ابنتها اللتين لمْ يسبق له فراقهما...
كانتْ خطّتي المبدئية هي أنْ نأتي جميعاً إلى المزرعة فقد تساعِد الأجواءُ هنا على تحسين الأوضاع النفسية لنا... و إنْ رفضتْ رغد البقاء، و هذا ما أتوقّعه، كنتُ سآخذها إلى بيت خالتها و أقضي في المزرعة بضعة أيام... مخاوفي الأولى كانتْ في ردود فعل عائلة أمِّ حسام تجاه إصابة رغد، و التي لمْ نذكر لهم عنها شيئاً حتى الآن... بضع أيام في المزرعة هي كافيةٌ لتجديد نشاطي و طرد هموم صدري... أزور أثناءها شقيقي سامر و أقنعه بالمجيء للعمل معي في المصنع، و نعود نحن الثلاثة إلى منزلنا الكبير... كان هذا ما أتمنَّى حصوله و أجهل ما الذي ستؤدي إليه الأقدار مستقبلاً...
أروى غاية في البهجة و تكاد تقبِّل حتى الأشجار مِنْ شدّة الشوق و الحنين، و الخالة لا تقلُّ عنها فرحاً... أمَّا الفتاة الواقفة خلفي فهي تسير بعكّازها خطوةً للأمام و خطوةً للخلف، رافضةً دخول المزرعة...
انطلقتْ أروى تعدو بين الأشجار كالفراشة... و نشرتْ الخالة بساطاً قماشياً على العشب بجانب مدخل المنزل... و جلستْ عليه و مددتْ رجليها باسترخاء...
و ذهب العمّ إلياس يقطف بعض ثمار العنب ثمَّ غسلها و جلبها إلى البساط و أشار إلينا:
" تعالوا... تذوّقوا "
الوقتُ كان ليلاً... و النسيم عليلٌ جداً و الهواء غنيٌ بالأوكسجين النقي الذي يبثُّ الحيوية و الانتعاش في البدن... هذه هي أجواء المزرعة الرائعة... و كم نحن بحاجة إليها...
" تعال يا وليد... إنه لذيذ جداً ... تفضلي يا آنسة رغد "
دعانا العم إلياس بسرورٍ إلى وجبة العنب الطازجة. التفتُ إلى رغد التي تقف خلفي متردِّدة و قلتُ:
" تعالي رغد "
الإنارة كانتْ خفيفة منبعثة رئيسياً مِنْ المصباح المعلَّق عند مدخل باب المنزل... لكنَّها سمحتْ لي برؤية الاعتراض على وجه رغد.
خاطبتها:
" رغد ... ما الأمر ؟ "
أفصحتْ:
" تعرف... لا أريد المبيت هنا "
اقتربتُ منها أكثر حتى أُخفِض صوتي و أضمن عدم وصوله لمسامع الآخرين...
" أرجوكِ يا رغد... لا تحرجيني مع العائلة... تحمّلي قليلاً مِنْ أجلي "
قالتْ:
" لكن... "
و لمْ تتم فقلتُ:
" بالله عليكِ ... على الأقل لهذه الليلة... نرتاح مِنْ عناء السفر و نقابل كرم المضيفين بحسن الذوق... لا يمكننا أنْ نخرج هكذا فجأة دون اعتبار للأدب و اللياقة... أنا أرجوكِ بشدّة يا رغد "
و استجابتْ رغد لرجائي الملح... و سارتْ معي حتى جلستْ على طرف البساط ببعض المشقّة... و اقتربتُ أنا مِنْ سلَّة العنب و أخذتُ لي و لها شيئاً منه... و كان بالفعل لذيذاً جداً...
تبادلتُ و العم إلياس أحاديث خفيفة متنوعة و شعرتُ بارتياح شديد قلّما أشعر به مع شخصٍ غيره... و العم كان مِنْ الأدب بحيث أنّه لمْ يسأل عن تفاصيل ما أصاب رغد حين رآها بالعكاز بل اكتفى بحمد الله على سلامتها...
قضينا نحو الساعة جالسين على البساط نتناول العنب حتى أتينا على آخره... سمعتُ بعد ذلك رغد تهمس لي:
" لا أستطيع الجلوس هكذا طويلاً... أصاب الإعياء رجلي "
" حسنا... هل تودّين الذهاب إلى الداخل ؟ "
سألتْني:
" ماذا عنكَ ؟ "
أجبتُ:
" أود البقاء هنا فالجو رائعٌ جداً... و قد أباتُ الليلة على هذا البساط ! "
و ابتسمتُ للتعجُّب الذي ظهر على وجه الصغيرة ثمَّ نهضتُ و نهضتْ هي معي، و استأذنا للدخول إلى المنزل... ساعدتُ رغد على صعود العتبات و رافقتُها إلى غرفتها ثمَّ تولَّيتُ حمل الحقائب إلى الداخل و تأكَّدتُ مِنْ أنَّ كل شيء مهيَّأ لها، و تركتُها لتسترخي...
عدتُ إلى الخارج و استلقيتُ على البساط و بدأتُ أملأ رئتي مِنْ الهواء النقي... أغمضتُ عيني في استرخاءٍ تام... و كنتُ أسمع أحاديث العم و الخالة المرحة... و لشدّة استرخائي غفوتُ لفترة مِنْ الزمن...
صحوتُ بعد ذلك على أصوات أشخاصٍ يتحدّثون، و حين فتحتُ عيني رأيتُ العمَّ و الخالة و أروى جالسين على مقربة منِّي و ملتفِّين حول صينية الشواء... و رائحة المشويات تملأ المكان. قال العم:
" ها قد نهض وليد... نوم العافية... تعال و شاركنا "
جلستُ و نظرتُ إلى الجمر المتّقد و قلتُ:
" آه... أمازال لديكم طاقةٌ بعد السفر ! "
رد العمّ:
" و هل ستنامون دون عشاء ؟ اقترب بُنيَّ "
و جلستُ معهم أملأ أنفي بالرائحة الطيبة... أروى كانتْ تتولَّى تقليب المشويات بهمّة... و كانتْ قد أطلقتْ شعرها الطويل لنسمات الهواء... و عندما هبَّ نسيم قوي حمل خصلة منه نحو الجمر فحرَّكتُ يدي بسرعة لإبعاده و أنا أقول:
" انتبهي "
نظرتْ أروى إليَّ نظرةً عميقة و لمْ تعلِّق... بل إنها لمْ تتحدَّث إليَّ أبداً تلك الليلة و حينما طلبتُ منها تحضير طبق مِنْ المشويات كي آخذه إلى رغد تركتْ الأسياخ مِنْ يدها و قالتْ:
" حضّره بنفسكَ "
لا أعرف إنْ كان العمُّ لاحظ وجود شحنةٍ بيني و بينها أمْ لا... و الخالة سرعان ما تدخّلتْ و أعدّتْ الطبق المنشود و بنفسها حملتْه إلى غرفة رغد، غير أنها عادتْ به بعد قليل و أخبرتنا أنّ الفتاة نائمة.
بعد وجبة غنية كهذه قمتُ أتمشَّى في المزرعة و أحرّك عضلاتي... غبتُ طويلاً و لمَّا عدتُ صوب المنزل لمْ أرَ غير أروى مضطجعةً على ذات البساط الذي كنتُ نائماً فوقه... تراقب النجوم...
حينما أحسَّتْ باقترابي جلستْ و أخذتْ تلملم شعرها الذي تعبث به الريح... اقتربتُ منها ثمَّ ناديتُها و قلتُ:
" أروى... يجب أنْ نضع حداً لكلِّ هذا "
وقفتْ أروى و همَّت بالمغادرة و هي تقول:
" نعم... سنضع حداً "
~~~~~~~~~~
-رغد- نهضتُ باكرةً جداً... على زقزقة العصافير القوية المتسلّلة عبر النافذة إلى الغرفة. فيما بعد فتحتُ النافذة فتدفَّقتْ تياراتٌ باردةٌ مِنْ الهواء النقي إلى الداخل... و أطللتُ مِنْ النافذة فرأيتُ الخضرة تغطِّي المنظر و تأسر الأعين...
لمْ استطع مقاومة هذه الجاذبية... ارتديتُ عباءتي و سرتُ بعكازي بحذر... و خرجتُ مِنْ المنزل. كان صباحاً رائعاً... و الشمس بالكاد أرسلتْ الجيش الأول مِنْ أشعَّتها الذهبية لتغزو السماء. على مقربةٍ مِنْ المنزل وجدتُ السيدة ليندا تحمل سلَّة كبيرة و تجمع فيها ما تقطفه مِنْ العنب. حييتُها فردتْ مبتسمة و سألتني عن أحوالي فطمأنتُها إلى أنني بخير... و وجدتها فرصةً عفوية لأشكرها على وقوفها معي و عنايتها بي أيام إصابتي.
" لا داعي للشكر يا بنيّتي... نحن عائلة واحدة و جميعنا في خدمة بعضنا البعض "
كان ردّها كريماً مثل طبعها... و أشعرني بالخجل مِنْ مواقفي السابقة منها بالرغم مِنْ أنّ ندِّي الحقيقي هو أروى...
" إنّكِ طيبة القلب جداً و أنا لا أعرف كيف أشكركِ أو اعتذر منكِ على أي إزعاج تسبَّبتُ به لكِ "
قلتُ بصدق و عرفان فكرَّرتْ:
" لا ننتظر الشكر مِنْ أبنائنا على رعايتهم "
عجيب! إنّها نفس الجملة التي قالها وليد لي مؤخّراً ! و لدى تذكّري الجملة تذكّرتُ كيف حملني وليد بالكرسي و صعد بي الدرج ثمَّ نزل دون أنْ تظهر عليه أي إمارة تعب! و كذلك تذكّرت (لوحاتي) و الموقف الأخير بيننا... آه أنتم تعرفون مسبقاً... كم هو طويلٌ و عريضٌ و ضخمٌ و قويٌ ابن عمّي الحبيب هذا ! الشيء الذي لا تعرفونه و الذي اكتشفتُه مؤخَّراً... هو أنَّ صدره واسعٌ جداً جداً... يكفي لأنْ أغوص فيه و أسبح و أغرق دون أنْ أصل إلى بر أرسي عنده ! إنّه رغم ظاهره الصارم الغليظ، رقيق القلب و لطيف للغاية...
ابتسمتُ ابتسامة عريضة و أنا أتخيّل وليد... ربما اعتقدتْ السيدة ليندا أنني ابتسم لها مسرورةً بجملتها الأخيرة...! خطوتُ مبتعدةً عنها و متغلغلةً في عمق المزرعة بسرور...
ملأتُ صدري مِنْ الهواء المنعش الذي شعرتُ به يسري حتى في أطرافي... و كان عابقاً بمزيجٍ مِنْ رائحة الخضرة و الزهور...كم كان هذا رائعاً خلاباً...
بعد فترة مِنْ الزمن... ظهرتْ الشقراء أمامي فجأة... كانتْ ترتدي ملابس بيتيه و تطلق شعرها الطويل للهواء الطلق... و تسير على العشب حافية القدمين... اصطدمتْ نظراتنا ببعضها و تنافرتْ بسرعة ! هممتُ بالانسحاب بعيداً عنها لكنها فجأة نادتني:
" انتظري"
ماذا؟! أنا أنتظر؟ و معكِ أنتِ ؟ ألقيتُ عليها نظرة لا مبالية و هممتُ بالمغادرة غير أنها اعترضتْ طريقي...
" ماذا تريدين؟ "
سألتُها بحنق فأجابتْ:
" ألا يمكننا التحدُّث و لو للمرّة الأخيرة... كشخصين ناضجين ؟"
لمْ استسغ مقدّمتها هذه و في الواقع أنا لا استسيغ منها أي شيء. قلتُ بحدة:
" أي حديث بعد ؟! بعد الذي فعلتِه ! "
أروى قالتْ مدافعة:
" أنا لمْ أفعل شيئاً يا رغد... و كلانا يدرك أنّه كان حادثاً عفوياً... و لو كنتُ أعلم مسبقاً بأنّكِ ستتضرّرين هكذا ما كنتُ اعترضتُ طريقكِ "
عقّبتُ باستهجان:
" و ها أنتِ تعترضين طريقي ثانيةً... و قد ينزلق العكاز مني و أقع و أصاب مِنْ جديد... فهل ستقولين عنه أنه حادثٌ عفوي ؟ "
ابتعدتْ أروى عن طريقي فحثثتُ الخطى قدر الإمكان... مولّيةً عنها. سمعتها تقول مِنْ خلفي:
" لكننا سنضع حداً لكلِّ هذا يا رغد... و الحال لنْ تستمر على هذا النحو "
لمْ التفتْ إليها... فتابعتْ:
" مِنْ الأفضل أنْ نناقش الأمر بيننا نحن قبل أنْ نضعه على عاتق وليد "
" وليد لنْ يتحمّل وجودنا معاً... و لا يستحقُّ هذا العناء... المكان لا يتَّسع لكلتينا... و على واحدة منَّا الانسحاب طوعاً "
أثارتْني عبارتها الأخيرة أيّما إثارة... و أرغمتْني على الالتفات إليها و أنا أحبس أنفاسي مِن ْالذهول...
تابعتْ هي:
" أجل يا رغد... على إحدانا الانسحاب مِنْ دائرة وليد... و تركه يعيش بسلامٍ مع الأخرى "
ازداد اتساع حدقتي عينيَّ و تجمَّع الهواء الفاسد في رئتي فاضطررتُ إلى زفره بقوة... أروى سارتْ مقتربة منّي... حتّى صارتْ أمامي و هي محملقة في وجهي...
قالتْ:
" إحدانا يجب أنْ تُضحّي مِنْ أجل راحة وليد... "
لازلتُ متسمِّرةً على وضعي... لا أكاد أصدّق ما أسمع. تغيَّرتْ نبرة أروى إلى الحزن.. و تابعتْ:
" رغد.. هل تفهمين ما أعنيه ؟ "
أطرقتُ برأسي كلاَّ... كلا لا أريد أنْ أفهم... كلا لا أريد أنْ أسمع المزيد... لكن أروى قالتْ:
" بل تفهمين... البارحة وليد لمْ ينمْ مطلقاً... راقبتُه قبل نومي و رأيتُه يحوم في المزرعة بتشتُّت... و عندما نهضتُ فجراً وجدتُه لا يزال في الخارج شارداً لحدّ الغيبوبة... إنّه لا ينام منذ أيام... أوضاعنا تشغل تفكيره لأبعد الحدود... إنّه مهمومٌ جداً و يعاني الأمرَّين بسببنا... و أنا أريد أنْ نضع نهايةً لهذا... هل فهمتِ ؟ "
كان صوت أروى يخترق أذنيَّ بعنف... و قلبي يتقّطع و أنا أسمع منها كلاماً كهذا لأوّل مرّة...
قالتْ:
" اعتقد... أنَّ أمر وليد يهمّكِ كما يهمّني... أليسَ كذلك ؟ "
لمْ أجب فكرّرتْ السؤال:
" أليس كذلك يا رغد ؟ "
قلتُ:
" بلى... قطعاً "
أروى قالتْ بنبرةٍ أشد حزناً:
"يجب أنْ تضحِّي إحدانا مِنْ أجل إراحته... إنَّه يستحقُّ التضحية... لمْ يهنأ بحياته و افتتحها بمحنة السجن... و تتابعتْ عليه المحن عقبها... و هذا يكفي... جاء دور أحدانا للتضحية لصالحه... "
نظرتُ إليها بعمقٍ لمْ يسبق لي أنْ نظرتُ إليها بمثله... بجدّيةٍ لمْ يسبق أنْ علتْ نظراتي إليها... و باهتمامٍ لمْ يسبق أنْ أوليتُها إيّاه مِنْ قبل... و كانتْ تبادلني ذات النظرات... و لمْ أشعر إلا بدمعة تتجمّع في مقلتي ثمَّ تسيل حارقة على خدّي... خرجتْ الجملة مِن حنجرتي واهيةً مذعورة:
" تقصدينني أنا ؟؟ "
لمْ تتكلّم أروى... فقلتُ و أنا أحرّك رأسي رفضاً:
" لا... "
فإذا بها تقول:
" صدّقيني... لقد وصلنا إلى مرحلةٍ لا يمكن معها أنْ نستمر نحن الثلاثة معا... مطلقاً... "
أخذتُ شهيقا باكياً و قلتُ:
" لكن... لكنه الوصيُّ عليَّ... لا يمكنني الاستغناء عنه... إنه كافلي "
قالتْ:
" و هو زوجي أيضاً "
وخزتني جملتها و قرصتْ قلبي... فقلتُ رافضةً:
" أنتِ تعبثين بي... تتلاعبين بمشاعري "
أروى قالتْ:
" إنها الحقيقة يا رغد وأنتِ تدركينها... لكنكِ تخدعين نفسكِ... وتتصرفين بأنانية بحتة... أنظري إلى حال وليد بيننا... هل تعجبكِ؟ هل يرضيكِ أنْ يعاني كل هذا التشتُّت؟ هل ترضين له... هذه المرارة و هذا العذاب؟؟ "
و تخيَّلتُ صورة وليد و هو يتشاجر معي ليلة حفلة العشاء... و يقول لي أنّه تعِبٌ مِنْ تقلبّات مزاجي... و يطلب منِّي تركه يستريح... و شعرتُ بسكينٍ قويَّة تمزِّق قلبي... طأطأتُ رأسي إلى الأرض فهوتْ دموعي مبلِّلة العشب... آه يا وليد... هل أنتَ تعاني بسببي أنا ؟ هل أنا سبب تعكير حياتكَ ؟؟ هل وجودي معكَ هو خطأٌ كبيرٌ عليَّ تصحيحه ؟ لكن.. ماذا عنِّي أنا ؟؟ أنا لا استطيع العيش بدونكَ... إنّكَ الهواء الذي أتنفّسه و إنْ انقطعتَ عني... فسأموت فوراً...
" رغد "
خاطبتني الشقراء فرفعتُ بصري إليها و لمْ أرها مِنْ غزارة الدموع...
" رغد... يجب أنْ نناقش الأمر... يجب ألا نستمر في هذه الدوّامة التي ستقضي على وليد أولاً... إنْ كنّا نكترث لأمره بالفعل... فيجب أنْ نتصرّف بإيثار... لا بأنانية... على إحدانا أنْ تُخلي الساحة..."
عصرتُ عينيّ لأزيح الدموع عنها ثمَّ قلتُ بصوتٍ حزين:
" لماذا لا تكون ... أنتِ ؟ "
أروى تنهّدتْ ثمَّ قالتْ:
" أنا.. مستعدّة لأنْ أفعل ذلك مِنْ أجل وليد... أحبّه كثيراً و سأضحّي بمشاعري لإراحته... صدّقيني أنا أعني ما أقول... لكن... "
قلتُ:
" لكن ماذا ؟ "
أروى نظرتْ إلى الأشجار مِنْ حولها... ثمَّ إلى السماء... ثمَّ عادتْ إليَّ. ..
" وليد.. متعلّق بعمله... لقد... كان حُلم حياته أنْ يدير شركة أو مصنعاً، كما كان والده رحمه الله... تعرفين أنّ وليد متخرِّج مِنْ السجن... و لا يحمل أي شهادةٍ دراسية غير الثانوية... لمْ و لنْ يرحِّب أحدٌ به للعمل عنده... و بالكاد وجد عملاً متواضعاً كفلاحٍ بسيطٍ في مزرعتنا لقاء المأوى و الطعام... وليد عانى كثيراً و عاش فترةً بائسةً جداً العام الماضي... ربّما لمْ تشعروا بها كما شعرتُ بها أنا. و أنا، و أنتِ كذلك... كلانا لا نريد له أنْ يعود لذلك البؤس مِنْ جديد... أليس كذلك ؟؟ "
هززتُ رأسي ثمَّ هتفتُ:
" كفى"
و استدرتُ أريد الهروب بعيداً عن صورة أروى و كلامها... لكنّها تابعتْ و هي تعلّي صوتها:
" إذا كنتِ تحبين وليد فعلاً فابتعدي عنه... لا تعيديه إلى البؤس يا رغد "
تابعتُ طريقي بأسرع ما أمكنني... و لحقتني عبارتها:
" فكّري في الأمر ملياً... مِنْ أجل وليد "
كفى... كفى... كفى...
كنتُ أسير و أحرّك رأسي محاولةً نفضه عن كل ما علِق به مِنْ كلام أروى. عندما وصلتُ إلى غرفتي اندفعتُ بسرعةٍ أكبر نحو سريري فتعثرتُ و وقعتُ قبل أنْ أبلغه... و على الأرض رميتُ برأسي و نثرتُ دموعي و أنا أكرّر:
" كلا... كلا... كلا... "
و عبثاً حاولتُ طرد كلامها مِنْ رأسي... غدا كالسمِّ... يسري في عروقي كلّها و يشل تفكيري و حركتي و يعميني عن رؤية غير السواد...
لمْ أكن نشيطاً هذا اليوم ... فقد استيقظتُ عند الظهيرة بعد نومٍ سطحيٍ ساعات النهار. تفقَّدتُ الآخرين فوجدتُ العم إلياس في الساحة الأمامية للمنزل مشغولاً بتنظيف الصناديق الخشبية المستخدمة في جمع الثمار مما علِق بها مِنْ بقايا ثمار و أتربة. هذا الرجل لا يكفّ عن العمل! و رغم أننا وظفنا مسبقا ً مجموعة مِنْ العمال للعناية بالمزرعة لساعات معيّنة مِنْ النهار، غير أنّه ما فتئ يستخدم ساعديه و بهمّةٍ كما في السابق.
بعد حوارٍ بسيطٍ ساعدتُه على تنظيف الصناديق ثمَّ ترتيبها فوق بعضها البعض، لعلَّ النشاط يدبُّ في بدني المنهك... و حالما فرغنا مِنْ الأمر فاجأني العم بهذا الجملة...
" بُنيَّ... أريد أنْ نتحدَّث بشأنكَ أنتَ و أروى "
أدركتُ مِنْ خلال النظر إلى عينيه أنّه صار على علمٍ بما حصل مؤخَّرا ً... التزمتُ جانب الصمت فقال مستدرجاً:
" أريد أنْ أسمع منكَ ما حكاية عمّار عاطف ؟ "
شعرتُ باستياء... فقد وصل الموضوع الآن إلى العمّ... و صار موقفي حرجاً جداً. تباً لكَ يا عمار... قتلتُك قبل أكثر مِنْ عشر سنين و حتّى الآن لمْ أتخلّص منكَ ؟؟ أجبتُ أخيراً:
" هل أخبرتكَ أروى؟ "
قال:
" إنهما لا تخفيان عنِّي شيئاً يا وليد "
وظهر شيءٌ مِنْ القلق على ملامح العجوز... ممّ أنتَ قلقٌ يا عمّي؟؟ و هل اهتزَّتْ ثقتكَ بي أنتَ أيضاً؟؟ أنا لا أتحمّل خسارة الإنسان الأوّل الذي قدَّم لي الاحترام و الثقة و المعونة و فتح لي باب قلبه و بيته بينما كانتْ كل أبواب الدنيا موصدةً في وجهي... بعد خروجي مِنْ السجن...
قلتُ مدافعاً:
" عمّاه.. أرجوكَ صدّقني... أنا لمْ أقصدْ أنْ أخفي عليكم حقيقة أنّني قاتِل ابن أخ نديم رحمه الله "
و بدا الاهتمام الشديد على وجه العم، و أصغى بكلّ جوارحه. فتابعتُ:
" حتّى نديم ذاته لمْ يعرف هذه الحقيقة. لقد كان صديقاً و أباً لي في السجن و أحببتُه كثيراً... و حضوري إليكم و ارتباطي بكم كان بدافع الوفاء له... لمْ أجدْ مناسبةً لكشفِ هذا و لمْ أعتقد أنَّ الأمر سيسبِّب كل هذا التعقيد "
العم أظهر تعبيرات التفهّم التي أراحتني بعض الشيء ثمَّ قال:
" حسناً... ربما لمْ تكن هناك مناسبةٌ لذكره مسبقاً، أمّا الآن و قد ذُكِرَ... فاعذر فضولنا لنعرف لماذا قتلتَه أو على الأقل... لماذا لا تريد أنْ تُفصِح عنْ السبب "
رمقتُ العم بنظرةِ رجاء... اعفِني يا عمّ مِنْ هذا... أتوسّل إليكَ... لكن نظراته كانتْ تنمّ عن الإصرار... أشحتُ بوجهي بعيداً عن عينيه... و قلتُ:
" لا استطيع "
العمّ رفع يديه إلى كتفيَّ و قال:
" وليد... انظر إليَّ "
بتردّد أعدتُ عينيّ إلى عينيه... و حملقنا في بعضنا البعض لفترة. بعدها أبعد العمّ يديه و قال:
" كما تشاء "
ثمَّ ابتعد عنّي... ناديتُه برجاءٍ:
" عمّاه... "
و حين نظر إليَّ قلتُ:
" أرجوكَ... لا تتّخِذ منِّي موقفاً بسبب هذا... "
العم ابتسم و قال:
" لا عليكَ يا بنيّ "
جملته طمأنتْني فقلتُ:
" أسبابي قهريّة "
قال:
" عرفتُ ذلك. إنّكَ أنبل مِنْ أنْ تقتلَ شخصاً لأسبابٍ أصغر شأناً "
و عندما التفتُ إلى ناحية المنزل لمحتُ أروى تقفُ عند النافذة و تنظر إليَّ...
فيما بعد ذهبنا أنا و العمّ لتأدية الصلاة و عندما عدنا كانتْ مائدة الطعام مُعدّة لي و للعمّ في غرفة الطعام، و للسيدات في المطبخ كما جرتْ العادة. أطللتُ على المطبخ برهةً و كما هو متوقّع لم أجد رغد. سألتُ عنها فأخبرتْني الخالة أنّها دعتْها للمائدة غير أنّها اعتذرتْ عن المشاركة.
أردتُ أنْ أتفقّد الصغيرة بنفسي... و لمْ أكن قد رأيتُها منذ البارحة... و أنا أعرف أنها منزعجةٌ مِنْ النزول في المزرعة... طرقتُ باب غرفتها فأذنتْ لي بالدخول... سألتُها عنْ أحوالها فطمأنتْني إلى أنّها بخير... و لكنّني أنا وليد أعرف متى لا تكون صغيرتي بخير...!
" ما بكِ رغد ؟ "
سألتُها بقلقٍ فردّتْ مباشرة:
" لا شيء "
قلتُ تشككاً:
" متأكّدة؟ "
" طبعا! "
نظرتُ إلى عينيها غير مقتنعٍ و قلتُ:
" لا تخفي عنّي شيئاً يا رغد "
و ما كدتُ أنهي الجملة حتى فاضتْ دموعٌ حارَّة كانتْ مختبئة في عينيها...
" رغد ! "
بسرعة مسحتْ رغد دموعها و تظاهرتْ بالتماسك و ادّعتْ:
" أنا بخير "
" و هذه الدموع؟ "
قالتْ زاعمة:
" فقط... مشتاقة إلى خالتي "
لا يمكنكِ خداعي يا رغد... هناك ما تخفينه و لا ترغبين بالبوح به. اقتربتُ منها و قلتُ:
" تعرفين أنّني سآخذكِ إليها اليوم... فلماذا الدموع؟ "
رغد غيّرتْ تعبيرات وجهها محاولةً إظهار المرح و ابتسمتْ و قالتْ:
" متى نذهب؟ "
أجبتُ مجارياً:
" الخامسة ننطلق بعون الله "
" بعون الله "
و أبعدتْ عينيها عنّي لئلاَّ أقرأ المزيد... لمْ أشأ إزعاجها فتجاهلتُ دموعها و قلتُ:
" حسناً... سأطلب مِنْ الخالة جلب وجبتكِ "
و هممتُ بالانصراف غير أنّها قالتْ:
" كلاَّ شكراً. لا أشعر بالجوع الآن "
" هل تناولتِ شيئاً في الصباح "
و لمْ تردْ. قلتُ مستاءاً:
" لمْ تأكلي شيئاً مُذ غادرنا المنزل؟ "
" بلى... عنقود العنب "
" كلا... رجاءاً لا تتهاوني في هذا... أمْ أنّكِ لمْ تتّعظي مما حصل تلك الجمعة ؟ لا يتحمَّل جسمكِ النحيل الجوع "
فردّتْ رغد مبررة:
" لكني لا أحسُّ بالجوع الآن "
" حتّى و إنْ... لنْ أثق بإحساسكِ بعد الذي حصل. سأجلب غذاءكِ بنفسي "
" قلتُ لكَ لا أشتهي شيئاً وليد أرجوكَ ! أنا لستُ طفلة "
أحقاً ؟ أتظنين أنكِ لستِ طفلة ؟؟ أو تعتقدين أنَّ الأعوام التسعة التي أُضيفتْ إلى عمر طفولتكِ التي فارقتكِ عليها... زادتكِ في نظري كبراً و نضوجاً ؟؟ بل أنتِ طفلتي التي مهما دارتْ بها رحى السنين ستظلّ في عيني صغيرةً لابد لي مِنْ العناية بها. لمْ أشأ وقتها أنْ أضغط عليها أو أُحرجها... خصوصاً و أنا أشعر بأنَّ هناك ما يضايقها... فقلتُ:
" حسناً... لكن يجب أنْ تأكلي شيئاً قبل موعد المغادرة... اتفقنا؟ "
فأجابتْ بملل:
" حاضر "
أخفضتُ صوتي و جعلتُه أقرب إلى الهمس العطوف و أضفتُ:
" و إذا كان هناك أي شيء يضايقكِ... و أحسستِ بالحاجة لإخباري... فلا تتردّدي... "
نظرتْ إليّ رغد نظرة مطوّلة ثمَّ قالتْ:
" بالتأكيد"
و بالتأكيد هذه خرجتْ مِنْ صدرها متّشحةً بحزنٍ عميق ضاعف مخاوفي. استأذنتها بالانصراف... و حالما بلغتُ الباب سمعتها تقول:
" وليد... سامحني! "
أي تأثير تتوقعون أنَّ جملتها هذه قد أوقعتْ على نفسي؟؟ ماذا جدّ عليكِ اليوم يا رغد ؟؟
صحيح أنني اعتدتُ على تقلّباتها... و انفعالاتها المتفاوتة... كونها تغضب و ترضى و تفرح و تحزن بسرعة... و لا يتوقّع المرء موقفها التالي، غير أنَّ حالتها هذه الساعة جعلتْ قلبي ينقبض و يتوقع أزمة ً مُقبلة ً... لطفكَ يا رب... !
~~~~~
-رغد-
كلُ الساعات الماضية و أنا أفكّر فيما قالتْه الشقراء... و أشعر بقلبي ينعصر. لاشكّ أنها محقَّةٌ فيما قالتْ و أنَّ وليد و بسبب وجودي في حياته و تولّيه مسؤوليتي العظمى... مع وجود الخلافات المستمرة بيني و بين الشقراء... لاشكَّ أنه يضغط على نفسه كثيراً و يعاني...
طوال الوقت و أنا أتصرّف بأنانيةٍ و لمْ أفكِّر به... بما يشعر و بما يُثقِل صدره و يُرهِق كاهله... جعلتُه يغيّر ظروف حياته لتناسبني أنا... و حمّلته الكثير... الكثير...
هذه الساعة أنا أشعر بالذنب و بالخجل مِنْ نفسي... و الغضب عليها... آه يا وليد قلبي... هل ستسامحني؟؟
فكّرتُ في أنّني يجب أنْ أختفي مِنْ حياته و أُخلي طرفه مِنْ المسؤولية عليَّ... حتّى يرتاح... و يهنأ بحياته... لكن الفكرة ما إنْ وُلِدَتْ في رأسي حتّى وأدَها قلبي بقسوة... و أرسل رفاتها إلى أعماق الجحيم... أنا ابتعد عن وليد ؟؟ مستحيل! مستحيل... لا استطيع... إنّه الروح التي تحرّكني و الأرض التي تحملني و الدنيا التي تحويني... أحبّه و أريد أنْ أبقى و لو اسماً منقوشاً على جدارٍ يمرُّ به كل يوم... أحبّه أكثر مِنْ أنْ استطيع التخلِّي عنه... أو تخيّل العيش بدونه...
عند الخامسة أتى وليد لحمل حقيبة سفري... و تبعتُه إلى الخارج. كان يسير و أسير على ظلّه الطويل... شاعرة برغبة مجنونة بأنْ أرتمي عليه... وصلنا إلى السيارة و أدخل وليد الحقيبة فيها. و فتحتُ أنا الباب الخلفي لكي أجلس و أسلِّمه العكَّاز ليضعه مع الحقيبة.
وليد قال و هو يفتح باب المقعد الأمامي المجاور لمقعد السائق:
" اركبي هنا رغد "
نظرتُ إليه مستغربة... فقد اعتدتُ أنْ أجلس خلفه... و هذا الموضع صار مِنْ نصيب الشقراء الدخيلة... قال وليد معلِّلاً:
" فالمكان أوسع و أكثر إراحة لرجلك "
و كانتْ هذه السيارة التي أهداها سامر لوليد قبل أشهر و التي اصطدمنا فيها بعمود الإنارة في ذلك اليوم الممطر... و هي أصغر حجماً مِنْ سيارة وليد الجديدة التي يستخدمها في المدينة الساحلية.
أذعنتُ للأمر و لمّا جلستُ تناول هو عكّازي و وضعه على المقاعد الخلفية، ثمَّ أقبل و جلس خلف المقود و أدخل يده في جيبه و أخرج هاتفه و وضعه على المسند، و تفقّد جيبه الآخر ثمَّ التفتَ إليَّ و قال:
" انتظريني رغد... نسيتُ شيئاً... سأعود حالاً "
و غادر السيارة عائدا أدراجه إلى المنزل...
~~~~~~~~
-وليد-
انتبهتُ إلى أنّني لمْ أحملْ محفظتي معي... و كنتُ قد تركتُها على المنضدة في غرفتي منذ البارحة... و قد حملتُ فيها مبلغاً مالياً لأعطيه لرغد لتنفق منه أثناء إقامتها في بيت خالتها. تركتُ رغد في السيارة و ذهبتُ لإحضار المحفظة، و فيما أنا في الغرفة أتتْني أروى...
كانتْ تتحاشاني نهائياً منذُ قدومنا... عدا عنْ خصامها لي منذ أيّام... و كانتْ آخر مرّة تحدّثنا فيها و لو قليلاً هي ليلة حفلة عشاء رغد... و التي لمْ تدعْ لي المجال لأي حديث معها بعدها... و بدوري لمْ أتعمّد ملاحقتها أو الضغط عليها. أردتُ أنْ نأخذ هدنةً لبضعة أيّام... نتنفَّس الصعداء و نسترخي في المزرعة... ثمَّ نعود لمناقشة أمورنا مِنْ جديد... عندما رأيتُها وقفتُ برهةً و لمْ أتكلّم.
" إذن.. ذاهبان الآن ؟ "
بادرتْ هي بالسؤال فأجبتُ:
" نعم "
ظهر عليها التوتّر ثمَّ قالتْ:
" و هل ستمكث هناك؟ "
" سأبقى لبعض الوقت، ثمَّ أذهب إلى شقيقي... "
" و متى ستعود ؟ "
" غداً مساءاً على الأرجح. أريد قضاء بعض الوقت مع شقيقي فنحن لمْ نلتقِ منذ فترة "
ظهر المزيد مِنْ التوتّر على وجه أروى. سألتُها:
" أهناك شيء؟ "
سارتْ أروى نحوي حتّى صارتْ أمامي. قالتْ:
" وليد أنا... أنا..."
و لمْ تتم... إنها مترددة.
" ما الأمر ؟ "
تشجّعتْ و قالتْ:
" أنا... أعتقد أنّكَ لا يمكن أنْ تقتل شخصاً دون سببٍ قوي جداً..."
و صمتتْ... أدهشني كلامها بادئ ذي بدء... فأنا لمْ أتوقّع أنْ يبدأ الحديث بيننا بهذا الموضوع بالذات بين كلّ المواضيع العالقة، و الأكثر أهميّة... لكن الواضح أنّه أوَّل ما يشغل تفكير أروى. تابعتْ:
" أخبرني خالي... بأنَّ أبي رحِمَهُ الله... كان يقول عن عمّار أنّه كان شخصاً سيّئاً... و أنَّ عمِّي عاطف رحِمَه الله قد أخفقَ في تربيته... و أنّه -أي أبي-... كان يشعر بالعار منه "
حبستُ نفسي لئلا أتفوّه بسيل منجرفٍ مِنْ الشتائم... سيئٌ فقط؟ أنتِ لا تعرفين مَنْ كان ابن عمّكِ الذي تتحرّقين شوقاً لمعرفةِ سبب قتلي إيّاه... و كأنّه ضحيّةٌ بريئة. تابعتْ:
" حسناً... أنا لنْ أسألكَ عن السبب ثانيةً... و اخفِ عنّي ما تريد إخفاءَه بالنسبة لموضوع عمّار... لكننا يجب أنْ نتناقش جدياً بشأن موضوع رغد "
أثارني ذكر رغد ... فقلتُ بلهفة:
" رغد ؟ "
أروى أكّدتْ:
" نعم رغد... الوقتُ غير مناسب الآن..."
أقلقتْني جملتها في وقتٍ كنتُ أنا فيه قلقٌ ما يكفي و يزيد... خصوصاً مع حالة رغد الجديدة اليوم... و خطر ببالي أنهما - أي رغد و أروى - ربّما تشاجرتا معاً اليوم... فعدتُ أسأل:
" ماذا عن رغد؟ "
ألقتْ عليّ أروى نظرة قويّة التعبير ثمَّ أجابتْ:
" الحديث يطول... و أنتَ على وشك المغادرة "
فنظرتُ إلى ساعة يدي ثمَّ قلتُ مستسلماً:
" حسنا.. عندما أعود غداً... نتحدّث "
و في رأسي فكرة تقليص فترة الهدنة، بما أنَّ أروى قد بادرتْ بالحديث معي. أروى أخذتْ تحرّك رأسها اعتراضاً ثمَّ إذا بها تقول:
" أرجوك أنْ... تبقى مع شقيقكَ بضعة أيام "
فوجِئتُ بطلبها... الذي جاء عكس استنتاجاتي... و حين رأتْ تعبيرات الدهشة على وجهي قالتْ مبرّرة:
" أريد ألا نتقابل لبعض الوقت... لا تسئ فهمي... مِنْ الأفضل أنْ نرخي أعصابنا حتى نفكِّر بهدوء..."
أصابني طلبها بجرح... و لكنني تظاهرتُ بعدم التأثّر و قلتُ:
" فهمتُ..."
و تذكّرتُ آنذاك أنّني كنتُ قد وعدتُ عمّي بمرافقته في مشوارٍ مهمٍ يوم الغد بشأن المزرعة. قلتُ:
" إذنْ سأعتذر لخالكِ عن العودة... و أحمل بعض الحاجيّات "
و ذهبتُ للبحث عنه و وجدتُه في المطبخ يساعد الخالة ليندا في تنظيف السمك. أخبرتُه بأنني سأقضي بضعة أيام مع شقيقي و اعتذرتُ عن مرافقته و ودّعتُه هو و الخالة بوجهٍ مبتسم. عدتُ بعدها إلى غرفتي و حملتُ حقيبتي الصغيرة التي أتيتُ بها مِنْ الجنوب و فيها بعض ملابسي و حاجيّاتي... و أعدتُ الأشياء التي كنتُ قد استخرجتُها منها... و بينما أنا مشغولٌ بها سمعتُ صوت أروى تناديني...
" وليد "
عندما التفتُ إليها رأيتُها واقفةً عند الباب و وجهها يبدو حزيناً و ممتقعاً... و لمحتُ دمعة تنساب من عينها...
سألتُ بقلق:
" ما بكِ الآن ؟؟ "
و كان جوابها بأنْ أقبلتْ نحوي... و وضعتْ رأسها في حضني و طوقتني بذراعيها بحرارة...
قال أنّه نسي شيئاً و سيعود في الحال... و تركني جالسةً في السيارة و التي لمْ يشغّل محرّكها و لا مكيّفها! شعرتُ بالحر و الاختناق ففتحتُ باب السيارة أتنفس الهواء الطلق... و بعد دقائق داهمني الشعور بالقلق.. لماذا تأخّر وليد ؟؟
خرجتُ مِنْ السيارة و استخرجتُ عكّازي مِنْها و ذهبتُ كي أتفقّده. ذهبتُ مباشرةً نحو غرفته و رأيتُ الباب مفتوحاً... و لمْ يكن عليَّ إلا أنْ أُلقي نظرةً عنْ بعدٍ عبر فتحته حتّى أرى حبيب قلبي يعانق أكثر فتاةٍ كرهتُها في حياتي... على الإطلاق...
الصورة أعشتْ عينيَّ... وخدّرتْ أعصابي... و مزقتْ بقيّة أربطة مفاصلي فتفككتْ و انفصمتْ مفصلا ً مفصلاً..
انسحبتُ أجرّ أطرافي جراً و أتخبّط في سيري حتى بلغتُ الباب الرئيسي وخرجتُ إلى الشمس دون أنْ أرى شيئاً... شعرتُ بالعتمة تلوّن ما حولي... و بمفاصلي المنفصمة تخرّ هاويةً... أمسكتُ بالباب أنشد دعمه لكنّه أرجحني معه... و حتّى عكازي... خانني في آخر لحظة و سلَّمني أسيرة الوقوع أرضاً...
ربّما رقَّ الحجر لحالي؟ لمْ أشعر بأي ألم... قد يكون البنج الذي سبّبتْه الصدمة لي قد أتلف أعصابي الحسية... فما عدتُ أشعر بأي شيء... أي شيء...
ثوانٍ و إذا بالباب يتحرّك و مِنْ خلفه يطل الرجل الطويل... العملاق الذي أحبّه... و الذي رغم كل السواد... و الظلام و العتمة... استطعتُ رؤيته... و الذي فور رؤيتي له... تدفّق النزيف مِنْ قلبي مجتاحاً كل المشاعر...
كان يتكلّم... لكنني لمْ أسمعه... ثمَّ رأيتُه يجلس على العتبة قربي و يمدُّ يده إلى العكاز... و يقرّبه منّي...
ماذا يقول هذا الرجل؟؟ ماذا يطلب مني؟؟ هل يريد أنْ أقف؟ ألا يرى مفاصلي مفككة؟؟ ألا يرى عضلاتي مشلولة؟؟ ألا يرى الدماء تغرق جسدي؟؟ ألا ترى كل ذلك يا وليد؟؟ ألا ترى كل ذلك؟؟
أسندتُ رأسي إلى الجدار... و أغمضتُ عينيَّ... و تمنيتُ ألا أفتحهما بعد الآن أبداً...
~~~~~~~~~
-وليد-
" رغد ماذا جرى لكِ ؟ "
قلتُ ذلك و مددتُ يدي تلقائياً إلى وجه رغد و ضربته بخفّة... فقد كانتْ مغمضة العينين و كأنها ستفقد وعيها... و لي معها سابق مواقف...
فتحتْ رغد عينيها و نظرتْ إليّ مباشرة. قلتُ مفزوعاً:
" أأنتِ بخير؟؟ أتسمعينني؟؟ "
نظرتْ رغد مِنْ حولها أوّلاً و كأنّها تستفيق مِنْ نومٍ أو إغماءة... بدا على وجهها التيه و الضياع... ثمَّ نظرتْ إليَّ و كأنّها ليستْ واثقة ممّنْ أكون... ثمَّ وضعتْ يدها على جبينها كأنّها تسترجع الذاكرة... و أخيراً قالتْ:
" تعثَّرتُ بالعتبة "
قلتُ بلهفة:
" سلامتكِ... هل أُصبتِ ؟ "
فحرّكتْ رأسها نفياً. مددتُ يدي لأساعدها على النهوض:
" قومي بنا إلى السيارة "
لكن رغد لمْ تقم بل أسندتْ مرفقها إلى رجلها و رستْ برأسها على كفّها اليسرى و قالتْ:
" انتظر قليلاً... "
و ظهر عليها الإعياء... ما فجّر سيول قلقي المتكدّسة منذ الظهيرة... قلتُ:
" رغد... يبدو عليكِ الإعياء... أخبريني بصدق هل تشعرين بدوار؟ ... هل أنتِ بخير؟؟ "
أومأتْ رغد بنعم، لكنني لمْ أطمئن... قلتُ:
" لا تبدين كذلك... أراهن أنّكِ لمْ تسمعي كلامي و لمْ تأكلي شيئاً... أليس كذلك؟ "
و لمْ تردْ. فتأكّدتُ مِنْ شكوكي و قلتُ بغضبٍ ممزوج بالقلق:
" متى تتوقفين عن هذا العناد...؟ هل يجب أنْ تكرّري ما حصل و تجفّفي دمائي مِنْ القلق عليكِ؟ جسمكِ أضعف مِنْ أنْ يتحمّل عنادكِ... رأفةً بنفسكِ و بي... لقد أهلكتِني "
و لمْ أنتبه لقسوة كلماتي إلا حين رأيتُ وجه رغد يلتفتُ إليَّ و يكفهرُّ و يصفرُّ... بعدها قلتُ بنبرة ألطف:
" سوف لن نغادر و أنتِ بهذه الحالة "
هنا اعترضتْ رغد و قالتْ:
" كلاّ أرجوك... أنا بخير الآن "
قلتُ مُناقضاً ادعاءها:
" لا لستِ بخير... أرى هذا بوضوح "
" أنا بخير... صدّقني... تعثّرتُ بهذه العتبة لا أكثر... دعنا نذهب الآن "
ثمّ أمسكتْ بالعكاز و نهضتْ واقفة لتثبِتْ لي أنّها على ما يرام... لكني أعرف أنّها ليستْ كذلك.. إنّها تلتهم أنفاسها التهاماً و تتحرّك ببطء... و يطغى الشحوب على وجهها...
قلتُ:
" دعينا ندخل إلى الداخل.. ستتناولين وجبةً كبيرة و تنالين قسطاً وافراً مِنْ الراحة قبل أنْ نغادر"
رغد استماتتْ معترضة:
" رجاءاً وليد ... دعنا ننصرف الآن "
لمْ أصدّقها و بقيتُ مصراً على موقفي، و هي مصرّة على عنادها...
" لن نتحرَّك خطوةً واحدة و أنتِ بهذا الشكل... ماذا إنْ انهرتِ عليَّ في الطريق؟؟ واضحٌ مِنْ لونك أنّكِ مرهقة. ستدخلين الآن إلى المنزل و تأكلين بعض الطعام ماذا و إلا فإنني سأؤجل الرحلة إلى الغد "
و أمسكتُ بيدها المصابة بلطف أحثّها على السير نحو الداخل غير أنّها سحبتْها و قالتْ بعصبية:
" قلتُ لكَ لا أريد شيئاً مِنْ هذا المكان... ألا تفهم؟؟ "
حينها أدركتُ موقفها... فقلتُ:
" في هذه الحالة... إذن... سنمرُّ بأحد المطاعم قبل المغادرة "
و لمْ تملك رغد إلا أنْ تنصاع للأمر. سرنا عائدين إلى السيارة ببطءٍ... هي بعكّازها... و أنا بحقيبة سفري... جنباً إلى جنب... و خطوةً بخطوة... إلى أنْ ركبنا السيارة. كنتُ خاشٍ عليها أنْ يداهمها الدوار كما في المرّة السابقة، لا قدّر الله...
توقفتُ عند أحد المطاعم و اشتريتُ لها وجبةً كبيرة أجبرتُها على تناولها عن آخرها... و أعترف بأنني كنتُ صارماً معها... فأعرف أنَّ جسدها النحيل لا يحتمل الجوع الطويل... و بعد تجربتي الأخيرة معها في منزلنا الكبير... لنْ أسمح لها بالتهاون بشأن الطعام.
طوال المشوار... رغد كانت صامتة صمتاً مُقلقاً محيّراً. أنا غير مرتاح مِنْ حالها اليوم و لكنّها لمْ تشأ إخباري بشيء... و الله الأعلم... بم تفكِّر الآن... أما أنا، فإلى جانب تفكيري بها كنتُ أفكّر بقلق في عائلة خالتها و ما سيقولونه عن إصابتها... و سرعان ما ثبتَ لي أنَّ مخاوفي كانتْ في محلّها...
أم حسام ، و بمجرّد أنْ رأتْ الصغيرة تدخل المنزل بالعكّاز... لطمتْ على وجهها و صرختْ:
" ابنتي... ويلاه... "
و أقبلتْ مسرعة مولولة... و ضمّتْ الفتاة إلى حضنها و بدأتْ بالنواح، و رغد سرعان ما انفجرتْ بكاءاً عميقاً على صدر خالتها ممّا زاد الأمر دراما و اشتعالا...
أردتُ أنْ أتكلّم... أنْ أسلِّم... و أوضّح الأمر فقلتُ:
" خالتي... ..."
و لمْ أكد أتمّ الكلمة حتّى رأيتُ أم حسام ترفع رأسها و تنظر إليَّ و قد توهَّج وجهها احمراراً و فاضتْ الدموع مِنْ عينيها و تطاير الغضب مِنْ بؤبؤيها و إذا بها تصرخ:
" ماذا فعلتَ بالفتاة أيها المتوحِّش؟ لا باركَ الله فيكَ و لا في اللحظة التي تركتُ ابنتي فيها تحتَ رحمتكَ أيها المجرم القاتل "
ذهلتُ... صعقتْ... و وقف شعر رأسي مِن كلامها القوي الجنوني... أُلجِم لساني مِنْ الهول... حاولتُ النطق بأي شيء... فإذا بها تُمطرني بدعوات شرِّيرة مزلزلة...
" لا باركَ الله فيكَ... لا وفّقكَ الله في شيء... حطّم الله قلبكَ كما حطَّمتَ قلبي على ابنة أختي "
صرختُ مستغيثاً:
" رغد "
قولي شيئاً ! تظنُّ خالتكِ أنّني كسرتُ عظامكِ و عن عمد... قولي شيئاً يا رغد.. أوضحي لهم ... لكن رغد لمْ تتكلّم... حتى أنها لمْ تنظر إليَّ... التفتُ مِنْ حولي فرأيتُ أعين بقيّة أفراد العائلة تحملق بي و الشرر يتطاير منها... ما هذا ؟؟ أكلّكم تظنّون أنني كسرتُ عظامها؟؟ هل تعنون هذا؟؟ فجأة سمعتُ صوت حسام يقول بحدّة:
" ماذا فعلتَ بها ؟ "
أجابتْ أمُّ حسام منفعلة:
" ألا ترى؟ كسر عظامها كسر الله عظامه و دكَّها دكّا ً "
أبو حسام تدخّل ها هنا و قال:
" رويدكِ يا أمّ حسام هداكِ الله... دعينا نسمع منه ما حصل "
و التفتَ إليّ و قال:
" هيا بنا إلى الداخل "
وقفتُ في مكاني مذهولاً مِنْ موقف أمّ حسام المهاجم بعنف دون استيضاح الأمور... و مِنْ موقف رغد الصامتة و كأنها تؤيِّد خالتها في هجومها اللاذع ضدّي... نظرتُ إلى رغد شاعراً بالخذلان. كيف تدعيهم يظنُّون بي هكذا ثمَّ لا تدافعين عني و لا بكلمةٍ و لا إيماءةٍ واحدة؟؟
أم حسام سارتْ مسندةً لرغد التي خطتْ بعكازها مبتعدة عني... دون أنْ تلقي عليَّ نظرة. قال أبو حسام:
" تفضلوا "
بقيتُ واقفاً متسمّراً في مكاني يحول ذهولي مِنْ كلام أم حسام دون حراكي، فالتفتَ أبو حسام إليَّ و مدَّ يده نحوي و قال:
" تفضّل وليد "
و سرنا جميعا نحو المدخل... يسبقنا نواح أم حسام. الطريق بين بوابة السور الخارجي للمنزل و الباب الداخلي له طويل لحدٍ ما... يتخلّل حديقة المنزل الأمامية. قطعنا المسافة صامتين إلا عن ولولة أم حسام التي أحدثتْ في قلبي صدعاً بالغاً. عندما وصلنا إلى المدخل قلتُ قاصداً تنبيهها:
" انتبهوا... إنها لا تستطيع صعود الدرجات "
و تقدّمتُ بقصد مدِّ يد العون إلا أنَّ أمّ حسام زجرتْني بقسوة:
" دعْ الفتاة لي "
فابتعدتُ و العرق يتصبّب منّي حرجاً. و اقتربتْ ابنة خالة رغد الكبرى و مع والدتها ساعدتْ رغد على الصعود.
قادني أبو حسام إلى غرفة الضيوف و أحسن ضيافتي، أمَّا حسام فقد كنتُ أشعر بألسنة النار تندلع مِنْ عينيه و هو يراقبني بتربّص. أخيراً شرحتُ لهما ما حصل و بيّنتُ أنّه كان حادثاً عرضياً... غير أنَّ ذلك لمْ يخفّف وطء المصيبة على حسام الذي قال معقِّباً:
" و لماذا لمْ تبلغنا عنْ الحادث منذ البداية؟ إلاّ إذا كان هناك ما تريد إخفاءه أو تحريفه "
أبو حسام زجر ابنه، و الأخير رمقني بنظرةٍ ملؤها الشكّ و النقمة. قلتُ:
" أحرّف ماذا ؟؟ "
ردّ و هو يهبُّ واقفاً:
" سأعرف هذا مِنْ رغد "
و غادر المكان.
~~~~ \
-رغد-
الانهيار الذي ألمّ بي لدى رؤية خالتي لمْ يكن بسبب رجلي و يدي، بل بسبب الصورة الأخيرة التي لا تزال مبثوثة أمام عيني... للخطيبين المتعانقين بكل حمية و انسجام... و التي لمْ تفلح رؤية خالتي و عائلتها في محوها عن بصري ذلك اليوم...
أجرى معي أقاربي تحقيقاً مطوّلاً عن إصابتي و شرحتُ لهم تفاصيلها و أوضحتُ لهم أنّه لا علاقة لوليد بالحادث و أنَّ اللوم كلّه يقع على الشقراء. لمْ أكنْ أرى غيرها في عيني... و أردتُ أنْ أحرق صورتها بأي شكل... و بالغتُ في التعبير عن غضبي منها و ممَّا حلَّ بي بسببها. أما خالتي فقد كانتْ تضع باللوم على نفسها لأنّها سمحتْ لي بالذهاب إلى المدينة الساحلية بعيداً عنْ عنايتها. و بعد أنْ استوعب أهلي الأمر و هدأتْ مشاعر غضبهم الأوليّة أخذتُ أسرد لهم بعض أخباري و أخبار الجامعة و حياتي اليومية في المنزل الكبير...
أخبرتُهم كيف كان وليد يعتني بي... و يعاملني بكل لطفٍ و مودَّة... و يغدق عليَّ العطايا و يلبِّي كل احتياجاتي... و كيف بقي مرابطاً إلى جانبي فترة مكوثي في المستشفى... و أشياء كثيرة كان وليد يقدّمها لي بكل سخاء... لمْ أشعر بافتقادها إلا الآن... و الحديث عن وليد لم يُعجب حسام الذي قال منفعلاً:
" أنتِ طيّبة يا رغد... و لنْ تحكمي على ذلك المتوحِّش إلا بالطيب ! "
قلتُ مدافعةً:
" لماذا تنعته بالمتوحِّش يا حسام ؟؟ "
" هل نسيتِ كيف هاجمني ذلك اليوم؟ و كيف لطم شقيقه بقسوةٍ أمام عينيّ يوم كنّا في بيتكم يا رغد؟ و كيف جرّكِ مِنْ يدكِ رغماً عنكِ و أجبركِ على السفر معه إلى الجنوب؟ إنّه متوحِّش و همجي كسائر المجرمين الـ..... "
غضبتُ كثيراً و قلتُ مندفعةً مقاطِعةً:
" لا تنعته بهذا... لا أقبل مِنكَ... كيف تجرؤ ؟؟ "
ولستُ أدري متى و كيف علم بأنَّ وليد كان مسجوناً. جملتي ضايقتْ حسام فانسحب مِنْ الغرفة التي كنّا نجلس فيها... حلّ الصمتُ على الأجواء... ثمَّ تكلّمتْ نهلة قائلةً:
" لا تكوني قاسيةً عليه يا رغد ! إنه غاضبٌ لأجلكِ "
و أضافتْ سارة:
" يحبّكِ كثيراً "
التفتُ إلى هذه الأخيرة فرأيتُها تبتسم ابتسامة شديدة الغباء... كعادتها... تجاهلتُها و جملتها كما تجاهلتْها خالتي و نهلة. خالتي قالتْ بعد ذلك:
" على كلٍ يا رغد... ها قد عدتِ و لنْ أدعكِ تغادرين ثانيةً "
ألقيتُ على خالتي نظرةً متوجّسة فقابلتْني بنظرةٍ شديدة الإصرار و قالتْ:
" إلى هنا و يكفي... و سنحلُّ هذه المسألة جذرياً اليوم قبل الغد "
و رأيتُها تضبط حجابها و تتّجه نحو الباب فقلتُ بقلق:
" إلى أين خالتي؟ "
قالتْ بحزم:
" سأذهب لأتحدَّث مع وليد... "
و خرجتْ مباشرةً و تبعتْها سارة دون ترك فرصة لي لأيّ ردّة فعل. نظرتُ إلى نهلة في توتّر و قلتُ:
" ماذا ستفعل؟؟ "
أجابتْ نهلة:
" لا أعرف! ربما ستتشاجر مع ابن عمّكِ ! "
قلتُ مستهجنةً:
" لماذا كلّكم متحاملون على وليد؟ قلتُ لكم إنّه ليس مذنباً في شيء "
قالتْ نهلة:
" تدافعين عنه لأنكِ تحبينه يا رغد... لكنّه في الواقع رجلٌ متسلِّطٌ و قاسٍ و مكابر... إننا جميعاً في هذا المنزل لا نرتاح له... "
قلتُ بعصبيّة:
" إنكم جميعاً لا تعرفون شيئاً... تصدرون حكماً ظالماً على شخصٍ لمْ تعاشروه... أرجوكِ يا نهلة الحقي بخالتي و اطلبي منها الحضور إلى هنا فوراً "
لمْ تتحرّك نهلة فقلتُ:
" هيّا.. يجب أنْ أعرف أولاً ما الذي تخطّط له "
و لمْ تتحرّك نهلة بالسرعة المطلوبة... غادرتْ الغرفة، و عادتْ بعد دقيقتين... و ما إنْ رأيتُها حتى بادرتُ بالسؤال:
" هل لحقتِ بها ؟ "
قالتْ:
" نعم، و هي الآن في غرفة الضيوف "
صحتُ بعصبيّة:
" تبا ً! و لماذا لمْ توقفيها ؟ لابد أنّها الآن ستتشاجر مع وليد "
نظرتْ إليّ نهلة نظرة استنكار ثمَّ قالتْ:
" لا تخافي على مشاعر ابن عمّكِ !... إنه ليس هنا "
" ليس هنا؟؟"
" غادر منذ زمن... يبدو أنّه قد رحل فور إنهاء فنجان قهوته ! "
~~~~~~~~~~~~~
-وليد-
إنني تجرّعتُه جرعةً كدتُ أغصّ بها... بسبب النظرات التي تقدح شرراً مِنْ حولي... مصوّبا نحوي. صحيح أنّ أبا حسام قدّم الاعتذار عمّا قالتْه زوجته لي، لكن ذلك لمْ يخفّف عنِّي شيئاً. و بحياتي لمْ أقف أمام شخصٍ يدعو عليَّ علناً و بهذا الشكل... و أكثر ما خيّبني هو موقف رغد البارد. نعم كنتُ أتوقّع أنْ يثور أقاربها عليَّ و لكن ليس بهذا الشكل... سامحهم الله...
وصلتُ إلى شقّة شقيقي سامر أخيراً... و لمْ أكنْ قد اتّصلتُ به... و أردتُ أنْ أفاجئه بحضوري. قرعتُ الجرس و غطَّيتُ بإصبعي عدسة الباب لئلا يراني... قرعتُ ثانيةً و ثالثةً و ما مِنْ مجيب! لكنني كنتُ قد رأيتُ سيارته في المواقف... و لاشكّ أنّه في الشقة... أخيراً سمعتُ صوتاً منخفضاً يسأل:
" مَنْ هناك؟ "
لم أتبين ماهيّة الصوت... فطرقتُ الباب لعلّه يعاود الحديث... فكرّر الصوت بنبرة حذِرة:
" مَنْ الطارق؟ "
نعم إنه صوت شقيقي. قلتُ:
" شخصٌ يريد معانقتك فوراً... افتح الباب! "
و بدا و كأنَّ أخي لمْ يميِّز صوتي... ثمَّ رأيتُ الباب ينفتح بحذر... و رأيتُ رأس أخي يطلُّ منه أخيراً... اندهشتْ ملامحه كثيراً و انفغر فوهه... لكن دهشتي أنا كانتْ أكبر!
" وليد !! "
قال و العجب يعلوه... قلتُ:
" بشحمه ولحمه ! "
لمْ يفتح سامر الباب و ظلَّ محملقاً بي لثوان... قلتُ:
" هل أبدو شبحاً ؟ "
هنا بدأ سامر يبتسم و فتح الباب و مدَّ ذراعيه لمعانقتي...
" إنني لا أكاد أصدّق عيني! فاجأتني يا أخي "
ابتسمتُ و قلتُ:
" بل أنا المندهش يا أخي... "
و أشرتُ بإصبعي إلى عينه اليمنى و قلتُ:
" اختفتْ الندبة تماماً ! تبدو وسيماً للغاية "
سامر ضحك و هو يمسِك بيدي و يقودني إلى الداخل.
تذكرون أنّ جفنَي عين سامر اليمنى قد أصيبا بحرقٍ بالجمر عندما كان طفلاً صغيراً... و أنَّ عينه تشوّهتْ و أصبحتْ نصف مغلقة و قبيحة المنظر... و كان أبي رحمه الله يودُّ إخضاعه لجراحة تجميلية غير أنَّ أوضاعنا الماديّة في تلك الفترة لمْ تكن مناسبة.
في لقائنا الأخير كان سامر قد بدأ علاج الندبة و الآن عالج حركة الجفن و ما لمْ يدقّق الناظر إليها جيّداً فإنَّه لنْ يكتشف وجود أي أثر أو فرق بين عينيه. الحمد لله...
في داخل الشقّة وجدتُ ضيوفاً لأخي... عرّفنا سامر إلى بعضنا البعض، و بعد حديثٍ قصيرٍ استأذن الضيوف و غادروا...
قلتُ:
" أرجو ألا تكون زيارتي قد أتتْ في وقتٍ غير ملائم "
قال سامر:
" ماذا تقول يا أخي! إنهم رفقائي في العمل... نلتقي في كل وقتٍ... لا تأبه لهم "
ابتسمتُ فقال سامر:
" لكنكَ فاجأتني! ما سرُّ هذه الزيارة غير المتوقعة ؟ "
قلتُ مداعباً:
" اشتقتُ لعينكِ اليمنى فجئتُ أتفقّدها "
ضحك سامر ثمَّ قال:
" بجد وليد.؟. لِمَ لَمْ تُبلغني لأستقبلكَ في المطار؟ "
" أردتُ أنْ أقتحم عليكَ الشقة! "
و ضحكتُ ثمَّ أضفتُ:
" في الحقيقة كنّا قادمين إلى المزرعة... فأتيتُ لأزورك َ"
آه يا سامر... أتريد القول أنكَ اشتقتَ إليها؟؟ إنني أسوأ شخصٍ لتبدي لهفتكَ عليها أمامه ! و ربّما أحسَّ سامر ببعض الأفكار تدور في رأسي فقال مغيِّراً الدفّة:
" كيف سارتْ أموركم في المدينة الساحلية ؟ و ما أخبار نسبائكَ؟ "
" الحمد لله... و هم يبلّغونك السلام "
" سلّمهم الله. ماذا عنْ أقارب رغد؟ "
" أتيتُ مِنْ منزلهم... الجميع بخير"
" لمْ أتّصل بهم منذ فترة! ما أخبار حسام؟ هل التحق بالمعهد كما كان يخطّط؟ "
" لا أعرف فأنا لمْ أطلْ البقاء لديهم و لمْ أسمع آخر أخبارهم "
ثمَّ أضفتُ:
" مررتُ لدقائق مصطحباً رغد "
عاد ذاك التوتُّر الخفي إلى وجه أخي و تجرّأ و سأل:
" و كيف هي؟ و كيف تعايشتْ مع خطيبتكَ في المنزل؟؟ "
استغربتُ السؤال كثيراً !... و لماذا تسأل عنْ تعايشها مع خطيبتي ؟؟ و هل تعلم بأنَّ بينهما شيئاً ؟؟
قلتُ:
" مع خطيبتي؟ "
رفع سامر كتفيه و حاجبيه و قال:
" آه نعم... فهي كانتْ... أعني أنّها لمْ تكن... منسجمةً معها في السابق... آمل أنْ يكون الوضع قد تغيّر!!"
ربَّـاه! هل تعرف أنتَ يا سامر عن توتّر العلاقة بين الفتاتين؟ لابدّ أنَّ رغد كانتْ توافيكَ بالأخبار..! قلتُ راغباً في التأكّد:
" هل... تتّصل بكَ رغد ؟؟"
بُهِتَ سامر و اندهش مِنْ سؤال و ردّ مباشرة:
" لا لا !... لمْ أتحدَّث معها منذ كنتما معي في الشقة "
كان ذلك قبل شهور... عندما مرضْتُ و لازمْتُ فراشَ شقيقي ليومٍ و ليلة... هنا في الشقّة... بعد حادث السيارة... و لكنني لمْ أعرف أنَّ رغد كانتْ قد أبلغتْه آنذاك عن علاقتها المتوتّرة مع أروى... حتّى أنّني لمْ أكن أُعير ذلك التوتّر اهتماماً حقيقياً آنذاك...
قلتُ:
" حسناً... يبدو أنّكَ تعرف أنَّ الأمور بينهما مضطربة "
ظهر الاهتمام على وجه أخي... و تابعتُ أنا:
" لا تزال كذلك "
سأل أخي بقلق:
" إذن كيف كانتا تتعاملان معاً هناك ؟ "
قلتُ:
" بتنافرٍ مُتبادل... خصوصاً في الآونة الأخيرة "
ثمَّ أضفتُ:
" و الآن... هما متخاصمتان تماماً "
قال سامر:
" توقّعتُ هذا "
أثار حيرتي و فضولي، فسألتُ:
" عفواً ؟؟ "
ارتبكَ سامر ثمَّ أوضحَ:
" أعني... أنَّ رغد لا تتكيّف بسهولة مع أحد... مِنْ الصعب جداً أنْ تكسِب صداقتها... "
لمْ أعلّق، فتابع سامر:
" إنها حذرةٌ جداً في اختيار مَنْ ترغب في منحهم صداقتها... و لا تتأقلم مع مَنْ هُم خارج إطار سنّها أو اهتماماتها أو مجالها الفكري... "
سامر! هل تريد أنْ تُفهِمني أنَّكَ تعرف رغد خير منّي؟؟ بالطبع تعرف... فأنتَ بقيتَ قريباً منها طوال السنين التي حُرمتُ أنا فيها منها... و كبرتْ و تطوّرتْ شخصيتها أمام عينيك... و أصبحتْ أقرب الناس إليكَ و ألصقهم بكَ..! أما أنا فلمْ أصل للدائرة التي بارتباطكَ الشرعي أنتَ بها... أمكنكَ تخطِّيها...
تأمَّلتُ شقيقي... في أعماق عينيه كانتْ المرارة تتكلّم... إنّه يتحدّث عن الفتاة التي كانتْ خطيبته لما يقرب مِنْ أربع سنين... و التي كانتْ قاب قوسين أو أدنى مِنْ الزواج به. تألّمتُ لأجله... لكن... يا سامر... ألمْ تجد في هذه الدنيا غير حبيبتي أنا... كي تعلّق قلبكَ بها؟؟ إنَّ رغد.. منذ أنْ حلّتْ بعائلتنا قبل ستة عشر عاماً و أكثر... أصبحتْ لي...
قلتُ:
" على كلٍ... ستظلُّ في بيت خالتها لعدّة أيام... يمكنكَ زيارتهم و تفقّد أحوالها وقتَ تشاء "
استغرب سامر و قال:
" عدَّة أيام ؟؟ غريب! ماذا عنْ الجامعة ؟ ليس موسم أجازات حسب علمي ؟؟ "
صمتُ قليلاً ثمَّ قلتُ:
" إنها ... في إجازة مَرَضِيّة طويلة... فهي... مُصابة بكسورٍ في قدمها و يدها "
مرّ يومٌ و أنا أقيم باسترخاءٍ في بيت خالتي... وفّر لي أفراد العائلة سبل الراحة و تفانوا في رعايتي و الاهتمام بي، غير أنَّ ذلك لمْ يخلِّصني مِنْ التفكير المستمرِّ في وليد... خصوصاً و أنّه لمْ يتَّصل للسؤال عنِّي حتى الآن...
تراقبني نهلة و أنا ممسكةٌ بهاتفي المحمول في تردّد... أأتّصل أمْ لا ؟
" هل يصعب عليكِ الاتّصال بيدكِ اليسرى؟ دعيني أساعدكِ "
قالتْ نهلة ذلك بخبث... فهي تدرك ما الذي يدور برأسي... قلتُ مستسلمةً:
" الغريب أنّه لمْ يخبرني قبل مغادرته و لمْ يتّصل ليتفقَّد أمري... في المنزل كان يتفقّدني ألف مرَّة في اليوم و الآن نسيني!؟ لا سلام و لا كلام و لا خبر... لا أعرف إنْ كان قد ذهب إلى سامر أم عاد إلى الشقراء "
و تذكَّرتُ صورتها الأخيرة فامتقع وجهي... ثمَّ تذكَّرتُ حديثها الأخير معي صباح الأمس... فأبعدتُ الهاتف عنّي... لاحظتْ نهلة حركتي الأخيرة فقالتْ:
" جيّد! لا تتّصلي... و اختبري مدى قدرتكِ على تحمُّل بعده "
قلتُ:
" لا أتحمَّل... لا يمكنني تخيّل حياتي بدونه ! سأموتُ إذا ابتعد عنِّي "
رفعتْ نهلة حاجبيها و نظرتُ إلى السقف استنكاراً. قلتُ بلهفة:
" أنا أعني ما أقول يا نهلة لا تسخري منِّي "
فأخذتْ تفرك شعرها بأطراف أصابع يدها و عيناها معلَّقتان على السقف. قلتُ مدافعةً عن كلامي و مؤكِّدةً له:
" إذا تخلَّى عنّي فسوف أموتُ فوراً... صدّقيني... لا استغني عنه يوماً و لا ساعة... و الدخيلة البغيضة... اللصّة... تطلب منِّي الخروج مِنْ حياته... تريد الاستحواذ عليهِ لوحدها... تظنّ أنّها أقرب إليه و أحقّ به منّي "
هبطتْ نهلة ببصرها مِن السقف عليّ و علّقتْ:
" و هي على صواب يا رغد ! "
توتَّرتُ و كدتُ أصرخ... حتَّى أنتِ يا نهلة؟؟ حتى أنتِ ؟؟. قلتُ بعصبية:
" كلا... "
ردّتْ نهلة مباشرةً و بشيء مِنْ القسوة:
" يا رغد... متى تستفيقين مِنْ أحلامك الخرافية ؟؟ ما الجدوى مِنْ حبِّ رجلٍ متزوِّج؟ إنكِ تهذرين عواطفكِ سدى "
أحسَّتْ نهلة بأنها قستْ عليَّ... فأقبلتْ نحوي و أمسكتْ بيدي اليسرى و قالتْ مواسيةً:
" أنا قلقةٌ عليكِ... و أفكِّر بعقلانية... لقد مضتْ فترةٌ طويلة... و أنتِ لا تزالين تحلمين بالمستحيل... تعذِّبين نفسكِ.. أنظري إلى أين وصلتِ ؟ "
و هي تشير إلى عكازي... ثمَّ تابعتْ:
" آن الأوان لتستفيقي... اتركي الرجل و خطيبته يواصلان مشوارهما... بسلام... و انتبهي أنتِ لنفسكِ.. و التفتي للشخص الذي ينتظر منكِ الإشارة ليغمركِ بكل الحبِّ و الحنان اللذين تحتاجينهما "
نظرنا أنا و نهلة لبعضنا نظرةً طويلةً... عميقةً... و أنا أشعر بأنَّ الدنيا كلها تتخلَّى عنِّي و تقف في صفِّ أروى. فجأة رنَّ هاتفي المحمول فسحبتُ يدي بسرعة مِنْ بين يديها و أخذتُ الهاتف و أجبتُ حتى قبل أنْ ألقي نظرة على اسم المتصل... سمعتُ نهلة تقول باستنكار:
" أنتِ حالةٌ ميئوسٌ منها ! "
لمْ أعِرها اهتماماً و تحدَّثتُ عبر الهاتف بلهفة:
" نعم مرحباً "
متوقِّعةً أنْ يكون المتَّصل وليد... لكنه لمْ يكن وليد ! لقد كان... سامر!
سألني عنْ أحوالي... و عن إصابتي و حمد الله على سلامتي... و دار بيننا حديثٌ قصيرٌ علِمْتُ مِنْ خلاله أنَّ وليد سيظلُّ معه بضعة أيَّام...
ثمَّ قال فجأةً:
" هل يمكنني أنْ أزوركم الليلة ؟ "
اشتعل وجهي احمراراً مِنْ الحرج... تعثَّرتُ في كلامي و لكنني أوصلتُ إليه:
" بالطبع... أهلا ً بكَ... سأخبر خالتي بهذا "
و بعد أنْ أنهينا المكالمة نظرتُ إلى نهلة فرأيتها تحملق بي بخبث!. قلتُ:
" إنه ليس وليد بل سامر "
عادتْ تنظر إلى السقف... قلتُ:
" و يريد أنْ يحضر لزيارتنا الليلة "
نظرتْ إليَّ بخبثٍ و قالتْ:
" تعنين لزيارتكِ "
تنهّدتُ و قلتُ و بريق الأمل يشعُّ في عيني:
" و بالطبع سيأتي وليد معه... سأطلب مِنْ خالتي أنْ تعتذر إليه "
و فيما بعد تحدّثتُ مع خالتي و وعدتني بأنْ تتحدَّث مع وليد بهدوء و تعتذر عما قالتْه يوم أمس. و عندما حلَّ المساء... و عند الثامنة و النصف قُرِع جرس المنزل... انتظرتُ إلى أنْ جاء حسام ليخبرني:
" يرغب ابن عمّكِ في إلقاء التحية عليكِ "
قلتُ بشوق يكاد يفضحني:
" هل حَضَر وليد ؟ "
نظر حسام إلى نهلة الجالسة بقربي... ثمَّ إليَّ و قال:
" لمْ أعنِ هذا الــ... "
و انتبهَ لنفسه و لمْ يتم... ثمَّ قال:
" أعني سامر "
قلتُ بخيبة أمل:
" وحده ؟ "
أجاب:
" والداي معه الآن... تعالي لتحييه "
نظرتُ إلى نهلة... ففهمتْني... قمتُ و رافقتُ حسام إلى غرفة الضيوف... حيث كان سامر يجالس خالتي و زوجها. ما إنْ رآني حتى وقف و نظر إلى العكَّاز و علتْ تعبيرات وجهه علامات المفاجأة و الألم. أمَّا أنا فقد دُهِشتُ للتغير الجديد في مظهر عينه...
" مرحباً سامر... كيف حالكَ ؟ "
بادرتُ بتحيّته فردّ و القلق يغلّف نظراته و صوته:
" مرحباً يا رغد... كيف حالكِ أنتِ؟ سلامتكِ ألف سلامة "
" سلّمكَ الله. الحمد لله إصابتي في تحسُّن.. تفضَّل بالجلوس "
و جلسنا نتجاذب أطراف الحديث نحن الخمسة ساعة مِنْ الزمن ثمَّ استأذن سامر للمغادرة. قبل انصرافه أعطاني ظرفاً قال لي أنّه مِنْ وليد... و سألني عمَّا إذا كنتُ بحاجة لشيء فشكرتُه و ودَّعتُه على أنْ نبقى على اتصال. أما الظرف فقد كان كما توقعتُ يحوي مبلغاً مِنْ النقود...
~~~~~~~~~~~~
-وليد-
إنها النقود التي كانتْ في محفظتي و نسيتُ تسليمها لرغد بعد أنْ أصابني الإرباك و أنا أراها جالسةً على عتبة المنزل في المزرعة. لمْ أرغب في الذهاب... لذا تركتُ شقيقي يخرج لزيارتها و تسليمها النقود بنفسه... و بقيتُ وحيداً في شقته...
كما أنّني أيضاً لمْ أرغب في الاتصال لا بها و لا بأروى... و آثرتُ البقاء بعيداً عن كليهما لبعض الوقت. باشرتُ بتنظيم الحاجيات القليلة التي حملتُها معي... و عندما فتحتُ خزانة الملابس الخاصة بشقيقي فوجئتُ برؤية فساتين نسائية معلَّقة آخر الصف...!!
أصابتني الدهشة و الحيرة... و تملّكني الفضول لإلقاء نظرةٍ على بقية الخزانة و الأدراج. لنْ تصدّقوا أنني وجدتُ خاتم خطوبة سامر الفضِّي موضوعاً في أحد الأدراج مع مجموعة مِنْ عُلب الهدايا و المجوهرات... و كان أحد الأدراج مُقفلاً و الله الأعلم... ما الذي يخبئه شقيقي فيه...
أخذتُ أعبث بالخاتم في يدي و أنا شارد التفكير... و شاعر بقلقٍ شديد على سامر... و فكرّتُ في الألم الذي يعانيه و في الصدمة التي ستصيبه إنْ أنا تزوّجتُ رغد مستقبلاً...
إنها نفس المشاعر التي عانيتُ مرارتها حين اكتشفتُ ارتباطه هو بها... تجربة قاسية جداً لا أريد لشقيقي الوحيد أنْ يخوضها... و إضافةً إلى عشرات المشاغل و الهموم التي تثقِل صدري و تزدحِم في رأسي، أضفتُ اليوم هماً جديداً... اسمه سامر... و لمْ أدرِ يومها... أنه الهمّ الذي سيحتل المركز الأول في قائمة المصاعب التي لا يزال القدر يخبّئها لي في المستقبل القريب...
~~~~~~~~~~~~
-رغد-
مرَّتْ أيامٌ و أنا في بيت خالتي لا همَّ لي سوى التفكير الملي بما قالتْه الشقراء لي آخر مرّة... حالتي النفسية لمْ تكنْ جيّدة و قد لاحظ ذلك أفراد العائلة.
" و الآن يا رغد... ما الذي يشغل بالكِ لهذا الحد ؟ إننا جميعا قلقون عليكِ "
كان هذا سؤال خالتي و التي كانتْ تلحظ شرودي... أجبتُ:
" لا شيء خالتي... "
قالتْ غير مصدِّقة:
" لا شيء؟ "
أجبتُ مدَّعيةً:
" إنني... قلقةٌ بشأن... أعني بشأن الجامعة و غيابي عنها "
و لا أدري إنْ بدا كلامي مُقنِعاً لها أمْ لا، غير أنّه لمْ يقنع نهلة الجالسة معنا... بطبيعة الحال. قالتْ خالتي:
" الجامعة و الجامعة ! دعكِ منها يا رغد... و انسي أمرها "
حدّقتُ في خالتي بتعجّب! فقالتْ:
" لستِ بحاجة إليها و لا أرى داعٍ لها أصلاً "
قلتُ مندهشةً:
" خالتي! كيف تقولين هذا ؟ "
" لولا إلحاحكِ ما كنتُ وافقتُ على الذهاب مع ابن عمّكِ للجنوب مِنْ أجل الدراسة... اصرفي نظراً عنها أو التحقي بالمعهد مثل حسام "
قلتُ محتجَّةً:
" و لماذا أفعل ذلك؟ أنا مسرورة بدراستي و ناجحة بل و متفوقة فيها "
و أضفتُ:
" ثمَّ أنَّ وليد قد دفع تكاليف الدراسة لهذا العام كاملة... و هو مبلغٌ طائل لنْ نضيِّعه هباءاً "
قالتْ:
" و ماذا عن السنوات التالية ؟ "
" سيدفعها أيضا "
قالتْ معترضة:
" و لماذا يكبّل نفسه كل هذا العناء؟ الجامعات الأهلية مكلفةٌ جداً "
" لكن وليد الآن ثريٌ جداً. يدير أكبر مصنع في الجنوب. و مصاريف دراستي لا تساوي شيئاً أمام ما يجنيه عليه "
قالتْ خالتي:
" لا نريد أنْ نكلّف الرجل فوق هذا... "
قلتُ متعجِّبة:
" ماذا تعنين؟ إنه الوصي عليَّ ! "
قالتْ خالتي:
" هنا مربط الفرس... "
و لمْ أفهم ما تعنيه... ثمَّ قالتْ:
" على كلٍ نحن ننتظر حضوره حتى نضع النقاط على الحروف "
و حالما انصرفتْ سألتُ نهلة:
" ما الذي تعنيه خالتي و ماذا تقصد ؟؟ "
نهلة ردّتْ:
" هذه المرّة... أمّي جادّة جداً بشأن إقامتكِ معنا بشكلٍ دائمٍ يا رغد ! "
قلتُ مندهشة:
" و الجامعة ؟؟ و وليد ؟؟ "
قالتْ:
" آن الأوان... للتحرُّر منهما ! "
في ذلك اليوم لمْ أطِقْ صبراً... و اتّصلتُ بوليد... أخيراً... و كأنني أكلِّمه للمرَّة الأولى في حياتي... لا أعرف لماذا ارتبكتُ و تسارعتْ نبضات قلبي... و فور سماعي لصوته... انصهرتُ كما تنصهر الشمعة... دمعةً دمعة !
" كيف أنتَ؟ و لماذا لا تتَّصل بي ؟ "
تجرّأتُ و سألته بعتاب... إذْ أنّه لمْ يهاتفني و لا مرَّة مذ أحضرني إلى هنا... و كأنني عبءٌ ما كاد يصدّق أنَّه تخلّص منه! وليد قال:
كنتُ أنتظر إشارةً مِنْ أروى لأعود للمزرعة و نعود لمناقشة الخلافات الأخيرة الحاصلة بيننا. و الأيام التي قضيتها مع شقيقي بعيداً عن أي مشاكل كانتْ كافيةً لإرخاء الشدِّ الحاصل في أعصابي. فكرتكِ كانتْ نافعةً يا أروى... اعترف بهذا.
اتصلتْ بي البارحة و أخبرتني أنها ترغب في مقابلتي... منذ ارتباطنا و أروى أمامي يومياً لمْ يفصلها عني غير الشهر الأسود الذي تلا مقتل والديَّ رحمهما الله و الذي قضيتُه مع سامر و رغد بعيداً عنها...
أما رغد فمنذ أنْ التحقتْ برعايتي لمْ افترق عنها غير الأيام التي سبقتْ رحيلنا الأخير إلى الجنوب. و الحديث القصير معها عبر الهاتف جعلني أشتعل شوقاً لرؤيتها و الاطمئنان على وضعها و صحتها... و لو لمْ أكنْ قد ابتعدتُ كثيراً... لربّما سلك بي شوقي الطريق إليها...
الاستقبال الذي استقبلتْني به أروى كان بارداً... على عكس الطريقة التي ودَّعتْني بها... و اخترنا الغرفة الخارجية الملاصقة للمنزل، و التي كنتُ أقيم فيها فيما مضى... مكاناً لحديثنا المطوّل.
أروى ظهرتْ أكثر هدوءاً و تماسكاً ممّا كانتْ عليه خلال الآونة الأخيرة... و لمْ تتعمّد الإطالة في المقدمات بل قالتْ مباشرة:
" كما قلنا... يجب أنْ نضع نهاية لكلِّ المشاكل و الخلافات الحاصلة بيننا نحن الثلاثة "
تملكني الفضول و الحيرة... لمْ أفهم ما الذي عنتْه فسألتُها:
" بيدي أنا؟ ما هو؟ "
" يجب أنْ تكون مستعداً له "
ازدادتْ حيرتي و قلتُ:
" بالطبع فأنا أريد بالفعل أنْ نتجنّب التصادم مستقبلاً و إلى الأبد... إذا كان الحل بيدي فأنا لنْ أتردّد... لكن ماذا تقصدين؟ "
هنا توقَّفتْ أروى عن الكلام و كأنها تستجمع قواها لتنطق بالجملة التالية... تلك الجملة التي مِنْ قوّتها... كاد سقف الغرفة أنْ ينهار على رأسي...
" وليد... عليكَ أنْ تختار... مع أيّنا تريد العيش... إما أنا... أو رغد... "
وقوع سقف بهذا الحجم على رأس موقوتٍ مسبقاً... لا يسبّب التكسّر و التهشّم فقط... بل و يفجّره إلى شظايا تنطلق مخترقة الفضاء إلى مالا نهاية... تسمّرتُ على وضعي مذهولاً... أشدّ ذهولاً مِنْ الذهول ذاته... أحاول أنْ أترجم اللغة العجيبة التي التقطتها أذناي منطلقة مِنْ لسان أروى...
لم أتفوّه بشيء فأنا لمْ أعدْ أملك رأساً يدير حركة لساني... أروى بعد الجمود الذي رأتْه عليَّ قالتْ:
" وليد... صدّقني... الحياة بوجودنا معاً نحن الثلاثة مستحيلة... لقد فكّرتُ ملياً طوال الأيام الماضية... مراراً و تكراراً... و لمْ أجد لمشكلتنا مخرجاً غير هذا... لنْ نستمر واقفين على فوّهة البركان... أنا و رغد لا يمكن أنْ نجتمع تحت سقفٍ واحدٍ بعد الآن... أبداً يا وليد "
أيّ سقف؟ و هل أبقيتِ في المنزل أيّة أسقف؟ لقد أوقعتِها كلّها على رأسي يا أروى.. فعنْ أيّ سقفٍ تتحدثين؟؟ أخيراً استطعتُ النطق:
" ما الذي تهذين به ؟ "
توتّرتْ أروى... و قالتْ:
" هذا هو الواقع... يستحيل عيشنا سويّة في سلام... لا تتحمّل إحدانا وجود الثانية أبداً... إمّا أنْ تعيش معي... أو تعيش معها... يجب أنْ تختار "
صرختُ:
" أروى... هل جننتِ ؟ "
صاحتْ أروى:
" بل هذا هو عين الصواب... إنني سأجنُّ فعلاً إنْ بقيتُ مع ابنة عمّكِ في بيتٍ واحدٍ "
انفعلتُ و ثرتُ فجأة... و هببتُ واقفاً أضرب كفي الأيسر بقبضتي اليمنى... وقفتْ أروى و قالتْ:
" أرجوكَ أنْ تحافظ على هدوئكَ لنتابع النقاش"
صرختُ بعصبية:
" أحافظ على هدوئي؟ كيف تريدين منِّي البقاء هادئاً بعد هذا الجنون الذي تفوّهتِ به؟ إنني لمْ أتوقّع أنْ تكوني أنتِ كارهة ً لرغد لهذا الحد أبداً "
قالتْ منفعلة:
" و أنا لمْ أقل أنني أكرهها "
قاطعتها:
" و بِمَ تترجمين موقفكِ هذا ؟ "
أجابتْ:
" إنه حلٌ و ليس موقف... واحدة منا فقط تعود وتبقى معك... و على الأخرى أنْ تظلَّ هنا... هذا مِنْ أجل راحتنا جميعا "
قلتُ غاضباً:
" مِنْ أجل راحة مَنْ ؟؟ تريدين منِّي أنْ أتخلّى عن رعاية ابنة عمِّي مكفولتي و تقولين راحتنا جميعاً ؟؟"
هتفتْ أروى:
" أنا لمْ أقلْ تخلّ عنها "
" و ما هو تفسيركِ إذن لتركي لها هنا ؟ "
" و لم أقلْ اتركها هي... قلتُ أنّكَ مَنْ يجب أنْ يختار.. إما أنا أو هي "
وقفتُ مأخوذاً بأعماق أكبر و أغزر... لكلام أروى... قلتُ:
" أروى... بربّكِ... ماذا تعنين ؟؟ "
رمقتْني بنظرات ملؤها المعاني... سألتُ:
" تعنين... أنْ أعود معها هي... و أترككِ أنتِ هنا ؟ "
رفعتُ أروى رأسها بشموخ و قالتْ:
" إنْ قرّرتَ اختيارها هي "
اندهشتُ و قلتُ:
" لابدّ أنَّ شيئاً ما قد ألمّ بعقلكِ يا أروى "
لم تعلّق فتابعتُ:
" إلا إذا كنتِ... تعنين لفترة محدّدة... ريثما تهدأ الأوضاع "
قالتْ بثقة:
" لا... بل أعني للأبد... "
صُعقتُ و سألتُ غير مصدّق:
" و أنتِ ؟ "
قالتْ و عضلات وجهها قد خذلتْها و بدأتْ بالانهيار:
" لنْ أعيش معكَ ما دامتْ رغد تحت ولايتكَ... "
مِنْ ذهولي لمْ أعرف كيف أرد... رفعتُ يديّ و أمسكتُ بعضديها و نظرتُ إلى عينيها بجديّة ثمَّ قلتُ:
" هل تعين ما تتفوّهين به يا أروى ؟؟"
أجابتْ و أول دمعة تنزلق بين رموشها:
" أعيه و أعنيه تماماً يا وليد... لن استمر معكَ... ما بقِيَتْ ابنة عمّكَ تحتَ رعايتكَ... إنْ أردتَ لحياتنا أنْ تسمر معاً... تنازل عنْ وصايتها... و أبعدها عنا "
أطرقتُ برأسي رفضاً لتصديق ما أسمع... و ضغطتُ على عضدي أروى و قلتُ:
" كلاّ.. أنتِ لا تعنين ما تقولين يا أروى... لا شكّ أنني أحلم "
أروى عصرتْ عينيها و تدفقتْ الدموع بغزارة منهمرةً منهما. هززتها و قلتُ:
" كلّميني يا أروى.. أخبريني بأنكِ تهذين... "
أروى فجأة رمتْ برأسها على صدري و انفجرتْ باكية ً و هي تزفر:
" لا أتحمّل هذا... ارحمني وليد... لا يمكن لقلبي أنْ يتحمّل العيش مع فتاةٍ أعرف أنّكَ تحبّها... ما الذي تخطّط له بشأنها ؟؟ كم أنتَ قاسٍ عليَّ... "
و انهارتْ أروى في بكاء طويلٍ و حارق.. لمْ أحرّك ساكناً... وانتظرتُ حتّى أفرغتْ دموعها في ملابسي... و بكاءَها بين ضلوعي... بعدها، أبعدتْ رأسها عن صدري و نظرتْ إليَّ...
" ماذا قرّرتَ ؟ "
سألتْني و نظرتها متعلِّقة بعيني... فلمْ أردْ... فنادتْني:
" وليد... أنا.. أم هي ؟ "
عضضتُ على أسناني توتراً ثمَّ قلتُ:
" سأعتبر نفسي لمْ أسمع شيئاً اليوم "
قالتْ بحنق:
" وليد.. لا تهرب مِنْ سؤالي "
رددتُ بحدّة:
" إنه ليس سؤالاً يا أروى... إنه جنون... يبدو أنكِ لمْ تسترخي بما فيه الكفاية بعد... سأترككِ لتراجعي حساباتكِ الحمقاء هذه ثانية "
و تركتُها و غادرتُ الغرفة.
في المزرعة وجدتُ العم إلياس و الخالة ليندا يعملان مع بقية العمّال في حرث بقعة مِنْ الأرض... قلتُ مخاطباً الخالة:
" خالتي... دعي عنكِ هذا أرجوكِ "
فقالتْ بسرور:
" إنني استمتع بحرث الأرض يا بنيّ... ثمَّ أنّه تمرين جيّد لتنشيط القلب "
قلتُ:
" بل هو شاق على مرضى القلب... أرجوكِ توقَّفي "
و اقتربتُ منها و انتزعتُ الأداة مِنْ بين يديها و طلبتُ منها الذهاب للراحة. كانتْ أشعّة الشمس لا تزال ساطعةً بقوّة و الجو اليوم أكثر حرارةً مما كان عليه الأسبوع الماضي. شمّرتُ عن ساعديّ و أمسكتُ بالمِعول و جعلتُ أضربُ الأرض بقوّة... و كلّما تذكّرتُ كلام أروى ضربتها بقوّة أكبر و أكبر... و كأنها المسؤولة عن دوّامة المشاكل التي أعيشها... كأنّ بيني و بينها ثأرٌ كبير...
عملتُ بهمّة لا تتناسب و الحالة المزاجية المتعكّرة التي تسيطر عليَّ... و مرّتْ الساعات و اختفى قرص الشمس خلف ستار الأفق... الذي خبّأ بحرصٍ شديد... ما ستشرق به شمس الصباح التالية...
كان الإعياء قد نال مِنْ عضلاتي و العرق قد أغرق جسدي حينما ألقيتُ بالمعول جانباً و استلقيتُ على الرمال ألتقط ُ أنفاسي...
تنفستُ بعمقٍ شديد و أنا شارد التفكير... أنظر إلى السماء و قد بدأ الظلام يلوّنها بلون الحداد الكئيب... أمام عينيّ كنتُ أرى كلمات أروى تتراقص مع أوراق الشجر... ذات اليمين و ذات الشمال... و تسبِّب لي دواراً...
أغمضتُ عينيَّ لأحول دون رؤية أي شيء... فأنا في هذه اللحظة لا أريد لأي مؤثرٍ خارجي أنْ يغزو تفكيري...
شعرتُ بشيء يسري على ذراعي... حركتُ يدي فأحسستُ بحبات الرمل تعلق بي... جذبتُ نفساً فخُيّل إليّ أنني أشم رائحة دخان السجائر... و سمعتُ أصوات أشخاص كثُر ينمنمون...
فتحتُ عينيّ بسرعة... و هببتُ جالساً... لمحتُ حشرةً تسير على ذراعي فأبعدتُها و نفضتُ التراب عن يدي... و تلفتُ يمنةً و يسرةً أبحث عن مصدر الرائحة و الصوت...
لقد كنتُ واهماً... إنني في المزرعة الآن... و لستُ في السجن...
لا أعرف لماذا عادتْ بي الذكريات إلى الزنزانة... و توهّمتُ أنني أنام على الفراش الخشبي القذر... تعلق بي حبات الرمال و الغبار... و تسير الحشرات على جسدي... و تحشو رائحة السجائر و العرق تجويف أنفي...
كلاّ كلاّ !...
وقفتُ منتفضاً وأنا أطرد الذكرى البشعة مِنْ مخيلتي... مدَّدتُ أطرافي الأربعة إلى أقصاها... و تنفّستُ نفساً عميقاً و زفرتُ باسترخاء... ثمَّ أجريتُ تمارين إرخاء سريعة... دخلتُ بعدها إلى المنزل.
تحاشيتُ الالتقاء بأروى و تعمَّدتُ عدم الظهور في أماكن تواجدها... و أبقيتُ موضوعنا معلَّقاً لحين إشعار آخر...
طرتُ مِنْ الفرح... عندما أخبرني وليد بأنّه قادمٌ لزيارتنا هذه الليلة... فأنا لمْ أرَه منذ أسبوع... و أشعر بحنينٍ شديدٍ إليه... و شعرتُ بالحسرة لأنني لمْ أستطع المشاركة في إعداد طعام العشاء مع خالتي و ابنتيها. قلتُ مخاطبةً نهلة:
" يحبُّ عصير البرتقال الطازج... هل لا حضَّرتِ كمّيةً مِنه؟؟ "
فتحتْ نهلة درج الثلاّجة المليء بثمار البرتقال و أشارتْ إليها و قالتْ ساخرة:
" كل هذه ؟ "
سارة انفجرتْ ضحكاً فوبّختها خالتي. أما أنا فرمقتُ نهلة بنظرة غضب فابتسمتْ و قالتْ:
" حاضر سيدتي... و ماذا أحضِّر بعد ؟ "
و كنتُ قد أخبرتُ خالتي عنْ الأطباق التي يفضِّلها وليد و طلبتُ منها أنْ تحضّرها بسخاء ! سمعتُ خالتي تسأل:
" ماذا عنْ سامر؟ هل تأكّدتِ مِنْ أنّه لنْ يحضر؟ "
أجبتُ:
" نعم. هكذا أجاب وليد عندما سألتُه... لكن اعملي حسابه... ربما يغيّر رأيه و يأتي "
قالتْ سارة فجأة:
" أصبح وجه سامر وسيماً الآن. هل ستتزوجين مِنْه ثانيةً يا رغد ؟ "
هذه المرّة خالتي زجرتْ ابنتها بعنفٍ بل و طردتْها مِنْ المطبخ... سارة فتاة غبيّة لدرجةٍ ملحوظة... و تفكيرها سخيفٌ جداً... الصمت حلَّ على المطبخ بعد مغادرتها و أرادتْ نهلة أنْ تلطّف الجو فسألتْني:
" و خطيبته و أمّها ؟؟ أمتأكّدة مِنْ أنهما لنْ تحضرا ؟ "
كانتْ هي تعرف الإجابة و لكنني جاريتُها:
" لنْ تحضرا... سيأتي وليد فقط "
و التفتُّ إلى خالتي و قلتُ برجاء:
" خالتي... لا تنسي أنْ تعتذري له "
قالتْ بتملّل:
"أعرف يا رغد... و هل سأتركُه يتناول العشاء في منزلي دون أنْ اعتذر له عمّا بدر منّي مِنْ سوء فهم؟؟"
هنا دخل حسام المطبخ و هو يحمل بعض الحاجيات التي أوصتْه خالتي بإحضارها، و بعد التحية سأل:
" ما بها صغيرتكم تبكي في الردهة ؟ "
يعني سارة... أجابتْه خالتي:
" كالعادة تتصرّف ببلاهة... لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة و تخلّصني مِنْ همِّها ؟ "
ضحكتْ نهلة و قالتْ:
" تخلَّصي مِنْ همِّي أنا أوَّلاً ! "
قال حسام مداعباً:
" أنتِ ؟ لو يَترِك والداي الأمر لي لزوّجتكِ مِنْ أوّل رجلٍ أصادفه في طريقي اليوم، و ارتحتُ منكِ ! "
قالتْ نهلة و هي تشهق و تضع يديها على صدرها:
" آه... الحمد لله أنَّ ضيفنا لهذه الليلة متزوِّج و منتهٍ ! "
و ضحك الاثنان ببساطة... دون أنْ يضعا وجودي في الاعتبار... و كأنَّ الشخص الذي يتحدَّثان عنه ليس ابن عمِّي و كافلي...
غضبتُ كثيراً و رغبتُ في زجرهما و الشجار معهما... غير أنّني أمسكتُ بأعصابي و تركتُ الموقف يمرُّ بسلام فالوقتُ حرجٌ... لكنّي سأصفِّي الحساب معهما لاحقاً...
بعد ذلك تظاهرتُ بالتعب و استأذنتُ للانصراف عن المطبخ بهدوء. في الردهة وجدتُ ابنة خالتي المسكينة لا تزال تبكي ! أحسستُ بالشفقة عليها فأقبلتُ إليها أريد مواساتها:
" سارة ! لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية... توقِّفي عن البكاء "
مسحتْ سارة دموعها ثمَّ قالتْ:
" إنّ أُمِّي لا تُحسن معاملتي "
يا للفتاة ! ربَّتُّ بيدي على كتفها و قلتُ أطيِّب خاطرها:
" كيف تقولين هذا؟ إنّها غضبتْ منكِ على كلامكِ غير اللائق... و عندما تغضب منكِ فهي تريد تنبيهكِ إلى الخطأ "
قالتْ:
" ما هو الخطأ الذي قلتُه ؟ "
أوه... إنّها حتى لا تدرك خطأها ! إنها طفلةٌ بريئةٌ و لا تستحق العقاب. قلتُ:
" عندما قلتِ عن سامر أنّه أصبح وسيماً و سألتِني إنْ كنتُ سأتزوّج مِنْه "
قالتْ ببلادة:
" ما الخطأ في ذلك؟ لقد أصبح وسيماً بالفعل عندما عالج عينه البشعة "
قلتُ مجارية:
" نعم أعرف "
و انتظرتْ هي منِّي إيضاح الخطأ... فقلتُ:
" لكن لا يليق أنْ تسأليني إنْ كنتُ سأتزوَّجه أم لا... أوّلاً لأنكِ صغيرة السن و لا يُستساغ منكِ كلامٌ كبيرٌ كهذا، و ثانياً لأنّني و سامر قد انفصلنا عن بعضنا البعض نهائياً و لنْ نتزوّج ثانيةً... "
و نظرتُ إلى عينيها استشفُّ منهما الفهم، لكن... لا يبدو أنّها استوعبتْ تماماً ما عنيتُ !
قالتْ:
" إذن ستتزوَّجين بحسام ؟ "
أوه... ألهمني الصبر يا رب ! أجبتُ:
" كلاّ "
قالتْ:
" إذن بِمَنْ ؟ "
قلتُ مُظهرةً الغضب لأفهمها أنَّ عليها التوقُّف عن هذا:
" لا أعرف يا سارة و لا تكرّري الحديث عن أمورٍ كهذه ثانيةً... مفهوم...؟؟ "
و استدرتُ راغبةً في الانصراف عنها، فسمعتُها تقول:
" أنا أعرف بِمَنْ "
استدرتُ إلى سارة مجدَّداً فوجدتهُا تبتسم و لكن هذه المرَّة بمكر ! قلتُ مجاريةً لها:
بعد العشاء، جلستُ مع أبي حسام و الخالة و حسام و رغد نتجاذب أطراف الحديث. أحاديثنا منذ البداية كانتْ عاديّة و غير هادفة، باستثناء اعتذار أم حسام الذي أزاح عنِّي حملاً... لمْ أهنأ بزواله... أمّا صغيرتي فكانتْ ساكنةً إلا عن نظرات تلقيها عليَّ مِنْ حينٍ لآخر! و لكن هل يبدو في مظهري شيءٌ غريب ؟؟
سألتْ أم حسام:
" كم ستمكث هنا ؟ "
أجبتُ:
" أسبوع كحدٍ أقصى... بعض شؤون العمل في الجنوب متوقِّفة على حضوري..."
" و ماذا عن رغد ؟ "
بسرعة التفتُ إلى الصغيرة و اشتبكتْ نظراتنا... ثمَّ عدتُ إلى أم حسام:
" ستأتي معي قطعاً "
و هل هناك شكٌ في الأمر؟؟. أم حسام قالتْ:
"أليستْ إجازتها المرَضِيّة ممتدَّة لعدَّة أسابيع...؟ لنْ تكون هناك دراسةٌ و لا جامعة و بالتالي لا داعٍ لسفرها"
عدتُ و نظرتُ إلى رغد... متوقعاً أنْ تكون هذه فكرتها.. ثمَّ قلتُ:
" نعم و لكن... لديها موعد مع الطبيب في الأسبوع المقبل... كما و أنّها يجب أنْ تبقى قريبةً مِنْ المستشفى لمتابعة العلاج... هذا إلى أنّه... بإمكانها الدراسة في المنزل و الاستعانة بصديقاتها خلال فترة الإجازة "
أليس كلامي منطقياً ؟؟. أم حسام قالتْ و قد طغتْ الجديّة على نبرة صوتها:
" في الحقيقة يا وليد... و باختصار و بلا مقدّمات... أريد أنْ تبقى ابنة أختي تحت رعايتي مِنْ الآن فصاعداً "
اجتاحتْني الدهشة فسألتُ:
" ما الذي تقصدينه بالضبط ؟؟ "
أجابتْ بكلّ ثقة:
" أقصد أنْ تبقى هنا في بيتي و تحت ناظري و بين أبنائي... و هو المكان الطبيعي لها أساساً "
درتُ بعيني بعشوائية ثمَّ ألقيتُ نظرةً على رغد أستشفُّ منها موقفها... لكني لمْ أفهم المعاني المرتسمة على وجهها...
قلتُ:
" خالتي... ألمْ يسبق و أنْ أغلقنا هذا الموضوع بعد أنْ أشبعناه حواراً و ختمنا القرارات؟ بقاء رغد تحت رعايتي أمرٌ مفروغٌ منه البتة و لا مجال للحديث فيه أصلاً "
تدخَّل حسام و قال:
" هذا ما تفرضه أنتَ "
لمْ أعرهُ اهتماماً و ركّزتُ أسماعي على الخالة التي تابعتْ:
" لمْ ننهِه لكنّكَ أصررتَ على موقفكَ و استغللتَ شغف الفتاة بالدراسة كيف تكسبها إلى جانبك "
استغلال؟؟ عندما أفكِّر في مستقبل رغد... و أخطِّط له... تسمُّونه استغلال؟؟ حسام قال:
" إنّهم يعيدون ترميم المبنى المدمَّر مِنْ الجامعة هنا و ستُفتتح العام المقبل و تستطيع رغد العودة إليها "
قلتُ:
" و لماذا عليها أنْ تفعل ذلك؟ الجامعة الأهليَّة في الجنوب أفضل مستوى و قد قطعتْ شوطاً مهماً و بنجاح فلِمَ تفكِّر أصلاً في تغيير الجامعة ؟ "
كنتُ سأوجِّه سؤالاً إلى رغد غير أنَّ أمّ حسام سبقتْني بالحديث:
" كي تبقى معي... و إنْ كانتْ حجَّتك الدراسة فها هو الحلُّ أمامكَ "
استفزّتْني الجملة و قلتُ:
" ليستْ مسألة الجامعة فقط... رغد تحت وصايتي أنا و أريد أنْ آخذها معي "
قالتْ أمُّ حسام و بصوتٍ حاد:
" في هذه المرَّة أعدتهَا إلينا بالجبائر... في المرّة القادمة كيف ستعيدها ؟؟ "
أبو حسام تكلَّم ليخفِّف الشدَّ الحاصل فقال:
" نحن نعرف أنَّكَ تعتني بها جيِّداً و لكن إنّه قلب الأمّ... لا تتصوّر كم كانتْ خالتها مشغولة البال و القلب عليها "
قال حسام:
" جميعنا كنا قلقون عليها و هي بعيدة كل ذلك البعد. يجب أنْ تقدِّر مشاعرنا "
كأنّكَ تماديتَ يا حسام ؟ مشاعر ماذا تقصد ؟ يجب أنْ تتوقّف عند هذا قبل أنْ تُشعِل غضبي... قلتُ معارضاً و بكلّ إصرار:
" الأمر مفروغٌ منه و لسنا هنا لنناقشه مِنْ جديد. و أرجوكم لا داعي لهذر المزيد مِنْ الوقت في جدالٍ عقيمٍ لقضيّةٍ محسومةٍ مسبقاً "
قال حسام فجأة:
" أنتَ متسلِّط جداً !! "
صمتَ الجميع مِنْ المفاجأة... و أنا نظرتُ إليه بتعجُّب... حسبتُ أنّها زلَّة لسانٍ سيعتذر عليها لكنّه أضاف و للعجب:
" نحنُ أقرب إلى رغد مِنْكَ و أحقّ بكفالتها... "
أبوحسام ردع حسام بنظرة غاضبة... و الأخير سكتَ ثوانٍ ثمَّ وجَّه خطابه إلى رغد:
" ما رأيكِ أنتِ يا رغد ؟ ألستِ تفضّلين البقاء مع والدتي ؟؟ "
نظرنا جميعا نحو رغد التي أجابتْ بإخضاع نظرها نحو الأرض كأنّها تؤيِّد هذا. ماذا يا رغد ؟ أتريدين إحراجي أكثر مع أقاربكِ؟ ألمْ ننته كلياً مِنْ موضوع إقامتكِ معي؟ هل غيّرتِ رأيكِ الآن؟ خاطبتُها سائلاً و شاعراً بالخذلان منها:
" ماذا يا رغد ؟ "
فنظرتْ إليَّ و أجابتْ مضطربة:
" كما ترى أنتَ... وليد "
الجميع نقلوا بصرهم عنها و صبّوا أنظاراً حارّة عليَّ... ويحكم ! هل تعتقدون أنّني أهدِّد الفتاة أو أجبرها على شيء؟ قلتُ طالباً منها التأكيد:
" ألستِ ترغبين في متابعة الدراسة في الجامعة الأهلية ؟ "
قالتْ مؤكِّدة:
" بلى "
اطمأنّ قلبي لردّها لكنّ أمَّ حسام قالتْ معترضة:
" كلا... ستبقين معي... أريد أنْ أرعاكِ بنفسي... و لنْ يطمئِنّ قلبي لسفركِ ثانيةً على الإطلاق "
و إذا بحسام يخاطبني قائلاً فجأة:
" لماذا لا تتنازل عن الوصاية ؟ "
نظرتُ إليه مندهشاً وأنا أرمقه بحدّة، و قلتُ:
" أتنازل عنها لِمَنْ مثلاً ؟؟ لكَ أنتَ !؟ "
حسام غضب مِنْ تعقيبي الساخر و ردّ منفعلاً:
" تعرف أنّني دون السن القانوني و لا يمكنني أنْ أكفل أحداً... أنا أعني لِوالدي فهو بمقام والدها و هو ابن عم والدتها و أمّي خالتها و نحن أقرب إليها منكَ "
عند هذا لمْ أتحمَّل. اشتعلتْ نفسي غضباً و تصبَّب العرق مِنْ جبيني و رفعتُ يدي أمسحه فلمستُ جبيناً ساخناً يكاد يوقد ناراً... نظرتُ نحو رغد و أظنُّ نظرتي كانتْ قويّة للدرجة التي اهتزّ فيها جسدها و تراجع للوراء... زفرتُ زفرةً قويةً أخيراً كانتْ ساخنةً ما يكفي لحرق أثاث الغرفة. قلتُ أخيراً:
" يمكنكم مناقشة أمر الوصاية هذا بعد موتي، و لكن طالما أنا حيٌ، فابنة عمِّي ستبقى تحت مسؤوليتي أنا ما امتدّتْ بي الحياة "
و وقفتُ و تابعتُ:
" عليَّ الذهاب الآن... شكراً على حسن الضيافة "
و التفتُ إلى رغد و قلتُ:
" رغد.. هل لا رافقتِني إلى البوّابة ؟ "
سرنا جنباً إلى جنبٍ بخطىً بطيئة إلى أنْ ابتعدنا عن مدخل المنزل و انتصف بنا الطريق إلى البوابة الخارجية لسور المنزل... حينها فقط أذنتُ للساني بالنطق:
" رغد "
و توقّف صوت خطوات العكاز... التفتُ إليها فرأيتُها وقد توقّفتْ عن المشي و كأنّها في انتظار شيءٍ مهم... قلتُ:
" هل كانتْ هذه فكرتكِ ؟ "
رغد قالتْ بسرعة:
" لا..لا.. إنّها خالتي، هي التي تريد منِّي البقاء... على الأقل فترة نقاهتي "
قلتُ:
" و الوصاية؟ "
أجابتْ:
" حسام يتحدَّث بسخافة أحياناً "
كنتُ أنظر إليها بتشكّك... فهي لطالما طلبتْ مني تركها مع أقاربها، و خشيتُ أنْ تكون هي وراء كل هذا... حين قرأتْ الشكّ في عينيّ قالتْ مدافعةً:
" صدّقني لستُ أنا "
قلتُ:
" اسمعي يا رغد... عليكِ أنتِ أنْ تُفهِمي أقاربكِ أنَّ موضوع الوصاية هذا ليس مِنْ حقِّهم التحدُّث فيه، وأنا لا أقبل منهم أنْ يفتحوه لا أمامي و لا خلف ظهري... و أمر إقامتكِ هنا مرفوض نهائياً. يجب أنْ تخبريهم أنْ يتوقَّفوا عن محاولاتهم المزعجة و إلاّ فإنّني سوف لنْ آتي بكِ لزيارتهم ثانيةً "
بدا التوتّر على وجه رغد فقلتُ:
" أنا أعني ما أقول... "
ثمَّ استدرتُ لأتابع طريقي إلى البوّابة. بعد ثوانٍ لحقتْ رغد بي و سمعتُها تناديني و تقول:
" وليد... لا تغضب...! "
التفتُ إليها فوجدتُ عينيها متعلّقتين بعينيّ...
" أرجوكَ... لا تغضب منهم... "
و أضافتْ:
" أنا أعتذر لكَ عن أيّ كلمة مُزعِجة وُجّهتْ إليكَ هذه الليلة... أو مِنْ قبل... سامحهم وليد "
أراحني الشعور بأنَّ رغد... تكنُّ لي التقدير و تكترث لمشاعري... و تودُّ تطييب خاطري بعد الكلام الجارح الذي تلقَّيته مِنْ أهلها...
قلتُ:
" هذه المرّة سأبتلع كلِّ شيء... لكن عليكِ أنْ تُفهِميهم جيّداً بأنّني فيما لو تكرّر هذا مرّة أخرى، سأتخّذ موقفاً مختلفاً "
أطرقتْ رغد برأسها إذعاناً. أخيراً قلتُ:
" و الآن... هل تأمرين بشيء قبل ذهابي؟ "
رأيتُ وجه رغد يبتسم فيما قسمات القلق مرسومة على جبينها و هي تقول:
" انتبِه لنفسكَ "
انتبه لنفسي؟! إنّها أوّل مرَّة تقولها لي و بهذه الطريقة، و معالم القلق و الاهتمام ناطقة على وجهها ! شعرتُ بدغدغة لطيفة تسري في جسدي لمْ تكن لتتناسب مع الغضب الذي أُضمره !... ابتسمتُ لها و فارقتُها بارتياح...
ذهبتُ إلى شقّة سامر و الذي كان قد أعطاني مفتاحاً احتياطياً لشقّته بطلبٍ منّي... حتّى يتسنّى لي الدخول و الخروج بحريّة، خصوصاً و أنّه كان يقضي ساعات طويلة في العمل.
دخلتُ إلى الشقّة و اتَّجهتُ إلى غرفة النوم... و هناك... رأيتُ شقيقي يجلس على السرير و في يده علبةٍ ما... و وجهه متجهِّم... و يظهر عليه الشرود... حتّى أنّه لمْ ينتبه لدخولي...
" سامر "
بمجرّد أنْ ناديتُه ارتبكَ و أغلقَ العلبة بسرعة و هبَّ واقفاً و هو يقول:
" وليد.. أأأ أهلاً "
و سار نحو الخزانة و أدخلَ العلبة في أحدِ الأدراج، الدُّرج الذي وجدتُه مقفلاً ذلك اليوم، و أقفل الدرج بالمفتاح و هو يقول:
" لمْ أنتبه لقدومكَ "
دقّقتُ النظر في وجهه فوجدتُ آثار الدموع تبلّل رموشه... شعرتُ بانقباضٍ في قلبي و سألتُ بقلق:
" أهناك شيءٌ ؟؟ "
سامر تظاهرَ بالعفويّة و ابتسمَ و قال:
" لا. لا شيء "
لكنّني لمْ أشتِّتْ نظري عنه فقال:
" تذكَّرتُ والدينا "
و ظهر الخشوع و الحزن على وجهه... لمْ أصدّق ما ادَّعاه و لكنّني لمْ أردْ إحراجه فقلتُ:
" رحمهما الله "
و تصرّفتُ بشكلٍ طبيعي رغم القلق الذي يعتصر أحشائي. لا أعرف ما الشيء الذي كان سامر يخفيه في الدُّرْج و يحذر أنْ أراه... لكنّي أتوقّع و تقريباً شبه متأكّد مِنْ أنّه ذو علاقةٍ برغد... و الفضول تملّكني بشدّة... و انتهزتُ الفترة التي ذهب أخي فيها للاستحمام بعد ذلك و تسلَّلتْ يدي نحو الدرج... كان المفتاح في ثقب الدُّرج... فتحتُه بحذر و استخرجتُ العلبة الكبيرة الثقيلة التي كانتْ تحتل معظم الدرج... وضعتُ العلبة على السرير و هممتُ بفتحها، غير أنَّ ضميري تغلَّب على فضولي في آخر لحظة... و إذا بي أعيد العلبة إلى الدرج و أقفله بالمفتاح و أغلق باب الخزانة كما كان... لحظتها أثنيتُ على نفسي أمانتي... و شكرتُ ضميري على تأنيبه... و بتُّ راضياً عنْ نفسي مسروراً بها... لكنني فيما بعد... عضضتُ أصابعي ندماً... على أنني لمْ اكتشِف وقتها السرَّ الذي كان شقيقي يخبّئه... رغم أنّه كان طائِعاً بين يديَّ...
~~~~~~~~~~~~
__________________
عدل سابقا من قبل ^حلا^ في الثلاثاء 19 يوليو 2011, 7:42 pm عدل 1 مرات
بالأمس الأوّل أبلغني وليد عنْ موعد سفرنا و هو مساء هذا اليوم، و اتَّصل بي قبل ساعة ليتأكَّد مِنْ استعدادي. و قد أبلغني أنّه في طريقه للمزرعة و سوف يكون هنا عصراً. و فيما أنا مع ابنتَي خالتي نجمع حاجياتي في حقيبتي رنَّ هاتفي مرَّة أخرى... نهلة و نظرتْ إليَّ بمكرٍ و قالتْ:
" الوصي الطويل ! "
و سارة ضحكتْ - كعادتها - بصوتٍ مرتفع. كان هاتفي موضوعاً على المنضدة بجوار المرآة، و كنتُ أجلس على السرير أطوي ملابسي. قلتُ مخاطبةً نهلة:
" ناوليني الهاتف "
فأسرعتْ سارة و التقطته مِنْ على المنضدة و أقبلتْ نحوي... نهلة قالتْ لإغاظتي:
" دعيها تسير إليه بنفسها يا سارة ! "
سارة غيّرتْ اتجاه سيرها و عادتْ أدراجها إلى المنضدة. قلتُ بحنق:
" هذا ليس وقته... هاتي الهاتف سارة "
فقالتْ نهلة و هي تضحك بخبث:
" تعالي و خذيه بنفسكِ "
" تباً لكما "
و رميتُهما ببعض ملابسي و أمسكتُ بعكازي و هببتُ لأقف، حينها أخذتْ نهلة الهاتف و رمتْه نحوي على السرير و أطلقتْ و أختها القهقهات و هما تغادران الغرفة... مددتُ يدي بسرعةٍ و التقطتُ الهاتف.. كان رقم هاتف المزرعة، ذاك الذي ظهر على شاشة هاتفي...
" إنّه لمْ يصل بعد... هل أخبركِ بأنّه... حجز للسفر مساءاً؟ "
" نعم "
الشقراء صمتتْ قليلا ثمَّ سألتْ:
" رغد.. هل فكّرتِ في الموضوع الذي حدَّثتُكِ عنه ؟ "
تعني الكلام الذي سمَّمتْ قلبي بسماعه ذلك الصباح في المزرعة... و الذي بذلتُ قصارى جهدي للتهرّب منه... أجبتُ:
" لا أريد أنْ أفكِّر به "
" لماذا ؟ "
قلتُ بغضب:
" لا يعجبني... و لو سمحتِ لا تعيدي فتح الموضوع ثانيةً "
قالتْ:
" يا رغد لابدَّ مِنْ فتحه و أخذه بعين الاعتبار... إنه ليس مجرَّد موضوعٍ عابرٍ بل فيه مستقبلنا و حياتنا و مصيرنا نحن الثلاثة "
قلتُ و قد اشتدّ غيظي:
" لا شأن لكِ بمستقبلي و مصيري أنا "
" و ماذا عن مستقبل وليد ؟ و حياته؟ و مصير الدوَّامة مِنْ الشجار التي نحيطها به ؟ ألا تفكّرين فيه؟ ألا تشعرين به؟ ألا تشفقين على حاله؟؟ "
قلتُ باندفاع:
" اسمعي... وليد لنْ يتخلَّى عنِّي تحت أيّة ظروف... إنَّه بمقام أبي... لنْ ابتعد عنه و إذا شئتِ أنتِ فابتعدي و أريحينا "
صمتتْ الشقراء لبرهة ثمَّ قالتْ:
" إذنْ هذا هو قراركِ ؟؟ "
قلتُ بتحدٍ:
" نعم. هذا هو قراري "
قالتْ و قد تجلَّى الألم و الحزن في نبرة صوتها:
" لمْ أتوقّعْ أنْ تكوني أنانيّةً جداً لهذا الحد... حسبتُكِ تهتمِّين لوليد و لراحته... "
ثمَّ أضافتْ و قد اشتدّتْ نبرتها:
" لكن... وليد سيأتي الآن... و سأخبره بما دار بيننا... و عن قراركِ... و سأضعه أمام الأمر الواقع و أطلب منْه أنْ يعيِّن مَنْ منّا سيختار ليصطحبها في السفر "
و توقّفتْ برهة، ثمَّ أضافتْ:
" و في بقيّة العمر "
و أقفلتْ السماعة فوراً...
تسمّرتُ على وضعي حقبةً مِنْ الزمن... تدحرج فيها رأسي على محيط الغرفة... ثمَّ تهالكَ على السرير دائخاً تصارعه كلمات أروى و تستلُّ عقله استلالاً...
رفعتُ هاتفي أمام عيني... أوشكتُ على الاتصال بوليد... لكنَّ أصابعي ارتجفتْ و حالتْ دون مقدرتي على الضغط على الأزرار...
حاولتُ أنْ أركّز تفكيري على شيء لكنّني فشلتُ... أغمضتُ عينيَّ و وضعتُ يدي اليسرى عليهما لأخفّف مِنْ مقدار النور الذي بدا ساطعاً قويا يخترق جفوني مقبلاً مِنْ مصباح السقف...
" رغد ! "
سمعتُ صوتاً يناديني... أبعدتُ يدي و نظرتُ باتّجاه مصدر الصوت الذي و لشدّة تيهي لمْ أميّزه... و لولا أنّها اقتربتْ منّي كثيراً ربمَّا لمْ أكنْ لأميّزها... كانتْ نهلة...
" ما بكِ !؟ "
سألتْني بقلقٍ و هي تراني مُلقِيَةً بثقل رأسي على السرير في ذلك الوضع... جلستُ و مددتُ يديّ نحوها فأقبلتْ إليَّ و شملتْني في حضنها و هي تقول:
" ماذا جرى لكِ بحقِّ السماء ؟؟ ماذا قال لكِ ذلكَ المتعجرف اللئيم ؟ "
ما زلتُ واقفةً عند الشجرة... أنظر إلى الغصن المرمي على الأرض، و الذي كسره وليد عن جدعها قبل قليل. أنا غارقةٌ في الدموع، لا أعرف ما أفعل و لا كيف أفكِّر. انصرف وليد غاضباً جداً منِّي، و سيسافر و موضوعي معه معلَّق و شديد الالتهاب.
أحسستُ بحركة مِنْ حولي فنظرتُ في الاتجاه الذي سلكه وليد مغادراً و كلّي لهفة أنْ يكون قد عاد... رأيتُ أُمِّي و خالي يُقبلان نحوي يكسو وجهيهما القلق الشديد.
كانتْ أمّي تُمسك بكأس مليء بالماء في يدها و قطرات منه تنسكب مع خطواتها المضطربة، و قبل أنْ تصبح في مواجهتي سبقها سؤالها:
" ماذا حصل ؟؟ أروى ماذا حصل مع وليد ؟؟ "
نظرتُ مِنْ بين دموعي إلى عينيها و عيني خالي، و قلتُ:
" لقد... طلبتُ مِنْه... أنْ... ينفصل عنِّي "
و اجهششتُ بكاءاً و استندتُ إلى الشجرة التي ضربها وليد. لمْ أكنْ أسمع غير صوت بكائي إلى أنْ سمعتُ صوت خالي يهتف:
" ليندا... تماسكي "
استدرتُ إلى أُمّي فرأيتُ الكأس يقع مِنْ يدها و رأيتُها تضغط على صدرها و تتنفَّس بصعوبة، ثمَّ تترنّح و تخرّ على الأرض.
~~~~~~~~~~~~~~
__________________
عدل سابقا من قبل ^حلا^ في الثلاثاء 19 يوليو 2011, 7:39 pm عدل 1 مرات
استقبلتْني ابنة خالة رغد الصغرى و قادتْني إلى مدخل المجلس الجانبي. لمْ يكنْ حسام و لا أبوه موجودين ساعة وصولي. و عند المدخل وجدتُ أمَّ حسام تقف في انتظارنا. كنتُ أعرف أنّها غير راضية عن سفر رغد و خشيتُ أنْ تعود لفتح موضوع اعتراضها في هذه الساعة، فيما الصداع مشتدٌ على رأسي بعد شجاري مع أروى، و لا ينقصني الآن أي جدال. و بعد تبادل التحية دخلنا إلى الداخل و اتَّخذنا مجالسنا و أخبرتْني أنّ أبا حسام في الطريق إلينا. ثمَّ سألتُها:
" هل رغد مستعدّة؟ "
أجابتْ و في نبرتها شيءٌ مِنْ عدم الرضا:
" نعم. جمعتْ أشياءها بمساعدة ابنتيّ... إنها بالكاد تتحرّك... يشقُّ السفر عليها مع هذه الإصابة "
أرجوكِ ! لا تفتحي الموضوع ثانيةً الآن!... قلتُ لئلاَّ أدع لها الفرصة للبدء مِنْ جديد:
" إذنْ هل لا أخطرتِها بوصولي مِنْ فضلكِ ؟ لا يزال أمامنا مشوارٌ طويل "
بدا القلق على وجه أمِّ حسام مع بعض الحيرة ثمَّ قالتْ:
" ألنْ تصطحباهما معكما ؟؟ "
قلتُ:
" كلاّ... إنهما لنْ تسافرا معنا الآن "
اتّسعتْ حدقتا أم حسام و اكفهرّتْ ملامحها و قالتْ:
" لنْ تسافرا معكما ؟؟ ماذا تقصد يا وليد ؟؟ "
قلتُ موضّحاً :
" لن تسافرا حالياً... لكن... ستلحقان بنا بعد فترة... تودّان البقاء في المزرعة أياماً أخرى "
تعبيرات وجه أم حسام ازدادتْ توتّرا و اضطرابا و قالتْ:
" و... رغد ؟؟ "
فهمتُ منها إنّها قلقةٌ بشأن مَنْ سيعتني بالصغيرة و هي مصابة هكذا، فقلتُ:
" لدينا خادمةٌ لتساعدها "
أم حسام قالتْ فجأة و بانفعال مهول:
" أتريد القول... أنّكَ... ستسافر مع الفتاة... بمفردكما ؟ "
ألجمَ السؤال لساني... و في ذات اللحظة رأيتُ أم حسام تهبُّ واقفةً و قد تناثر الشرر مِنْ حولها و تقول بصوتٍ حاد:
" هل جننتَ يا وليد ؟؟ تريد أنْ تأخذ الفتاة بمفردها إلى الجنوب؟ "
وقفتُ تباعاً و قد أصابني الذهول مِنْ أمر الخالة و أردتُ أنْ أتحدَّث غير أنَّ كلامها اخترق المسافة الفاصلة بيننا بسرعة البرق و زلزلة الرعد...
" كنتُ أظنّ أنَّ خطيبتكَ و والدتها سترافقانكما كما في السابق..."
تدخّلتُ بسرعة:
" ستلحقان بنا عمَّا قريب... و كذلك سامر... لا يمكنني ترك العمل أكثر مِنْ هذا "
ردّتْ أم حسام:
" و تريد منَّي أنْ أترك ابنتي تسافر و تعيش هناك لوحدها معكَ ؟؟ هل فقدتَ صوابكَ يا وليد ؟؟ "
ارتبكتُ و اضطربَتْ كلُّ ذرّات كياني... تحوَّل لوني إلى الأحمر و تفجَّرتْ قطراتُ العرق على جسمي كلّه... حاولتُ النطق:
" خالتي... "
غير أنّها قاطعني بحدّة و قالتْ صارخةً في وجهي:
" كفى... هذا ما كان ينقصني... لمْ يبقَ إلا أنْ نترك ابنتنا تقيم بمفردها مع رجلٍ غريب... مَنْ تظنُّ نفسكَ يا وليد؟؟ كيف تجرؤ؟ "
تسمَّرتُ على وضعي مذهولاً... مكتوم النفَس طائر الفؤاد محملق العينين... لا أكاد أفهمْ ما اسمع...
" خـالـ... ما... ماذا... رجل غريب؟؟ أنا؟ "
صاحتْ أم حسام بوجهي:
" نعم رجلٌ غريب... أتظنّ أنَّ الوصاية على الفتاة تجعلك أباها حقاً ؟؟ أفِقْ يا هذا... أمْ لأنّها فتاةٌ يتيمةٌ وحيدةٌ بلا حولٍ و لا قوَّة تظنّ أنّه بإمكانكَ التصرُّف بشأنها كما يحلو لكَ و أنَّ أحداً لنْ يوقفكَ عند حدودكَ ؟؟ اصح يا وليد... يا سيِّد وليد... يا مُحترم "
تلقَّيتُ الكلام كصفعةٍ قويةٍ ناريةٍ على وجهي... النار كانتْ تشتعل في عينَي أمِّ حسام و في صدرها النافث بالصراخ... حملقتُ بها مذهولاً... غير واعٍ لما أسمع... ما الذي تقوله هذه المرأة ؟؟ كان صدري لا يزال يحبس النفس الأخير الذي التقطه وسط النار... أطلقتُ نفسي باندفاعٍ و قوّة و هتفتُ:
" ما الذي تقولينه يا خالة ؟ "
الشرر كان يتطاير مِنْ عينيها، و مِنْ عينيَّ تفجَّر بركانٌ ثائرٌ مدمِّر...
" ما الذي تظنّينه بي ؟؟ إنّني أنا وليد... ابن شاكر و ندى... و لستُ إنتاج و تربية شوارع... أنا تقولين لي هذا الكلام ؟؟ لقد تربَّيتُ بين أبنائكِ و تحت ناظريكِ... و كأنّكِ لا تعرفين مَنْ أكون ؟؟ أمْ لأنّني دخلتُ السجن بضع سنين تظنِّين أنّني خرجتُ منه فاسِقاً قذِراً لا يعرف حدوده و يتجرَّأ على حرمات الغير...؟؟ إنّها ابنة عمِّي... دمي و عرضي و حرمتي أنا... و الأمانة العظمى التي في عنقي... كيف تجرُئين على الظنِّ بي هكذا ؟؟ لنْ أغفر لكِ هذه الإهانة... أبداً "
و سرتُ مبتعداً عنها متَّجهاً إلى الباب... و في طريقي اصطدمتُ بطاولة فما كان منِّي إلا أنْ رفعتُها و قلبتُها رأساً على عَقِب و رميتُ بها بقوّة بعيداً... فتحتُ الباب بقوّة و صفعتُه بالجدار حتّى كُدتُ أكسرهما سويةً... ثمَّ خرجتُ بسرعة مغادراً المنزل... صادفتُ حسام عند البوابة... فدفعتُه بعيداً عن طريقي... ثمَّ ركبتُ سيارتي و انطلقتُ بأقصى سرعةٍ... نحو المطار...
و نحنُ نسير نحو غرفة المجلس سمعنا صوتَ انغلاق بابٍ قوي... اقشعرّتْ له الجدران و الثريات! ابنتا خالتي كانتا تتعاونان في حمل حقيبة سفري و أنا أسير بعكّازي حاملةً حقيبة يدي على كتفي إلى أنْ وصلنا إلى الباب. الاثنتان عانقتاني و ودّعتاني و ابتعدتا.
طرقتُ الباب الداخلي لغرفة المجلس بهدوء ثمَّ فتحتُه فتحة صغيرة و أطللتُ بعينيَّ في شوقٍ لرؤية وليدقلبي... مسحتُ الغرفة بعينيّ طولاً و عرضاً و ارتفاعاً... و لمْ أعثر عليه. لكنّي رأيتُ أحدى الطاولات مقلوبةً، و الزهرية الزجاجيّة مكسورة على الأرض ! و رأيتُ خالتي تقف عند الباب الخارجي للمجلس، ثمَّ رأيتُ حسام يدخل و هو يسأل:
" ماذا حدث؟؟ "
و سمعتُ خالتي تسأله:
" هل خرج ؟ "
قال حسام:
" ضربني بيده و خرج! ماذا حلَّ بهذا الرجل بحقِّ السماء؟ "
قالتْ خالتي و هي تُغلق الباب و تقفله بعد دخول حسام:
" لا أعرف ممَّنْ ورث هذا المتعجرف غلظته ! لا ياسر و لا شاكر رحمهما الله و لا سامر يحفظه الله فيهم شيء مِنْ الفظاظة... بلْ هُم في منتهى التهذيب و اللطف و الهدوء... أمّا هذا... أعوذ بالله! متوحِّش و أخرق... اُنظُر ماذا فعل؟ "
و هي تُشير إلى الأرض و الشظايا المبعثرة عليها. فتحتُ الباب على مصراعيه و تقدّمتُ إلى الداخل في قلقٍ وتساؤل... و أخذتُ أحدّق في خالتي و أسأل:
" ماذا حدث ؟ "
و كان وجه خالتي يتّقد احمراراً فرمقتْني بنظرةٍ صامتة ثمَّ انحنتْ إلى الأرض ترفع قطع الزهرية المكسورة. عدتُ و سألتُ:
" أين وليد ؟ "
أجابتْ و هي لا تنظر إليَّ:
" غادر "
ماذا ؟؟ غادر ؟؟ ماذا تعنين بغادر ؟؟
سألتُها:
" غادر ؟؟ "
قالتْ بغضب:
" نعم غادر... عسى ألاَّ يعود "
هتفتُ بقوّة:
" أعوذ بالله... لماذا خالتي؟؟... ماذا حصل ؟؟ "
قالتْ و هي ترفع نظرها إليَّ و تتكلّم بعصبية:
" إنّه مجنون... لا يعرف حدود نفسه... يظنّنا سنتركه يتصرَّف كيفما يريد... متسلِّط فظ و عنيف... مِنْ أين أتى بكلّ هذه العجرفة و الوحشية ؟ "
حسام عقّب مباشرةً:
" مِنْ السجن قطعاً "
اشتططتُ غضباً و انفجرتُ بشدّة:
" لا تتحدّثا عن وليد كهذا... لا أسمح لكما... "
ثمَّ تقدّمتُ نحوهما و قلتُ:
" أخبراني ماذا حصل؟؟ "
قال حسام:
" ألا ترين؟ "
مشيراً للطاولة المقلوبة على الأرض... و الزجاج المتناثر حولها. قلتُ:
" وليد فعل هذا ؟ "
و وجّهتُ خطابي لخالتي التي لا تزال جاثية على الأرض تلملم ما تبعثر...
" لكن لماذا؟؟ ماذا حدث؟؟ هل تشاجرتِ معه؟ "
خالتي وضعتْ ما بيدها جانباً و وقفتْ و قالتْ:
" نعم تشاجرتُ معه... و غضب و صرخ في وجهي و قلب الدنيا رأساً على عقب و خرج ثائراً كالبركان "
قلتُ بسرعة:
" ماذا قلتِ له؟ هل أهنتِه ثانيةً ؟؟ خالتي...!! إلى أين ذهب الآن ؟ "
ردّتْ بحدّة:
" إلى حيثما ذهب... بلا رجعة "
هتفتُ منفعلة:
" بعد ألف شر... خالتي لا تقولي هذا ثانيةً "
و عمدتُُ إلى حقيبة يدي و استخرجتُ هاتفي و اتصلتُ بهاتف وليد... كان الهلع ينخر رأسي بشراسة و ما إنْ رنَّ الهاتف حتى كان قد أتى على قواي الذهنية كاملةً. الهاتف رنَّ مرَّة ثمَّ أخرى ثمَّ انقطع الاتصال. عاودتُ الاتصال فوجدتُ الهاتف مغلقاً. كرَّرتُ الاتصال عدّة مرّات... الهاتف ظلَّ مغلقاً. قلتُ أخاطب خالتي:
" أغلقَ هاتفه "
ثمَّ سرتُ نحو هاتف المنزل الموضوع على منضدةٍ في الجوار و اتّصلتُ برقم وليد مرّات أخرى... دون جدوى. قلتُ بعصبية:
" الهاتف مغلقٌ يا خالتي، ماذا قلتِ له ؟ "
خالتي تنهّدتْ ثمَّ قالتْ:
" اعترضتُ على سفركِ معه "
صُدِمتُ... حملقتُ فيها و سألتُ:
" ماذا؟؟ لكن لماذا؟؟ تعرفين أنه آتٍ لأخذي فماذا تغيّر ؟ "
قالتْ خالتي و قد عاد الانفعال على وجهها:
" لنْ أسمحَ له بأخذكِ معه يا رغد... ستبقين معي و تحت عيني... سأضع حداً لجنون لهذا المتسلِّط "
تركتْني خالتي في إعصار الحيرة و الهلع و اشتغلتْ بتنظيف و ترتيب الطاولة و ما حولها متجاهلةً تساؤلاتي... ممّا زادني يقيناً فوق اليقين بأنَّ ما حصل كان أمراً خطيراً...
" خالتي أرجوكِ أفهِميني ما حدث؟؟ ماذا فعل؟ ماذا قلتِ له بالضبط ؟؟ بالله عليكِ أخبريني"
و هذه المرّة حسام ساندني و قال:
" أخبرينا بما حدث تفصيلاً يا أمّي؟ "
خالتي أفصحتْ أخيراً:
" تصوَّرا... كان يريد أخذ رغد بمفردها إلى بيته ! دون خطيبته و لا والدتها...! يظنّ أنَّ الوصاية كافيةٌ لتجعله مثل أبيها... يقيم معها بمفرده أينما يريد "
هتف حسام مستنكراً:
" ماذا ماذا؟؟ يقيم معها بمفرده هكذا... بكل بساطة ؟؟ يا سلام ! مَنْ يعتقد ذلك المعتوه نفسه؟؟ "
خالتي قالتْ:
" و بكلِّ جرأة يخبرني بأنِّ خطيبته لنْ تسافر معه... بلا حياء و لا لياقة... و لمّا اعترضتُ ثارتْ ثائرته و زلزل المنزل... و قلب الطاولة... المجنون ! "
تسمرتُ في مكاني مصعوقة بما أسمع... ثمَّ قلتُ:
" لكن... لكن... إنّه... إنّه الوصي عليَّ "
قالتْ خالتي بغضب:
" الوصيُّ عليكِ شيءٌ، و أنْ يقيم معكِ بمفردكما في بيته شيءٌ آخر... "
قلتُ مذهولةً:
" خالتي !! إنّه ابن عمِّي "
ردّتْ مقاطعةً:
" و حتّى لو كان ابني... أمجنونةٌ أنا كي أدعكِ تقيمين بمفردكِ مع رجلٍ غريب؟ حتى لو كان حسام أو أبا حسام... هذا ما كان ينقصنا "
قلتُ و أنا في ذهولي:
" ألا... تثقين به ؟ "
" أثق بِمَنْ؟؟ بهذا ؟؟ "
و هي تشير إلى عكّازي... ثمَّ أضافتْ:
" المتوحِّش المتعجرف خرِّيج السجون ؟؟ "
عندها صرختُ مِنْ أعماق قلبي:
" يكفي... يكفي... لا تتحدَّثي عنه هكذا... لا أسمح لكم بإهانته... لا أقبل أنْ تصفوه بهذا... أنتم لا تعرفون شيئاً... أنتم ظالمون "
و التقطتُ السماعة و اتصلتُ مِنْ جديد، و للأسف كان هاتف وليد مغلقاً. أعدتُ الاتصال مرَّة و مرّتين و مئة... و الهاتف لا يزال مغلقاً... يا إلهي... وليد قلبي غاضبٌ و لا يريد الردَّ عليَّ ؟؟ نظرتُ إلى الساعة... الوقت يمرُّ و مِنْ المفترض أنْ نكون في الطريق إلى المطار. اتّصلتُ بهاتف سامر و لمّا ردَّ عليَّ قلتُ باضطراب:
" هل وليد معكَ أو اتّصل بكَ ؟؟"
استغرب سامر السؤال فسألني:
" لا ! غادر قبل الظهيرة... أليسَ في المزرعة ؟؟ "
قلتُ بتوتُّر:
" كان هنا في بيت خالتي ليصطحبني إلى المطار، لكنَّه غادر مِنْ دوني... أتّصِلُ به و لكنّه مُغلِقٌ هاتفه. أرجوكَ حاولْ الاتصال بهِ و بالمزرعة و اطلبْ مِنه مهاتفتي فوراً... "
سألني و قد تجلّى القلق في نبرته:
" هل حدث شيءٌ يا رغد ؟؟ "
نظرتُ نحو خالتي و أجبتُ:
" تشاجر مع خالتي... لكن أرجوكَ قُلْ له أنْ يتَّصِل بي للضرورة "
صمَتَ سامر لحظةً ثمَّ قال:
" حسناً "
و أنهينا المكالمة و بقيتُ جالسةً على الجمر المتّقد أنتظر اتّصال سامر، فيما هاتف المنزل و هاتفي المحمول كلاهما في حضني... و عيناي محملقتان في ساعة يدي... مرَّتْ الدقائق تلحق بعضها بعضاً... و الهاتفان لا يرنّان... لمْ أطقْ صبراً حاولتُ الاتصال بوليد دون جدوى و اتّصلتُ بسامر فقال أنّه لمْ يجده في المزرعة و أنَّ هاتفه المحمول مغلقٌ طوال الوقت.
في هذه اللحظة حضر زوج خالتي و عَلِمَ بما حصل و بدوره صار يحاول الاتصال بوليد عبر هاتفه بلا فائدة. مضى الوقت... ولا مِنْ خبر مِنْ أو عن وليد... نبضات قلبي آخذة في التباطؤ... أطرافي ترتجف خوفاً و قلقاً... أنظاري متمركزة على الهاتفين و على الساعة... و الآن لمْ تعدْ عيناي بقادرتين على الرؤية... الضباب كثيف... لا بل هي قطرات الندى... لا بل هي الدموع... تريد الانطلاق مِنْ محجريَّ...
و بعد ما يفوق الساعة... رنَّ هاتفي المحمول... نظرتُ إلى الشاشة فرأيتُ اسم سامر. أجبتُ بسرعة:
" نعم سامر هل كلَّمكَ ؟؟ "
قال:
" كلا... إنّني الآن عند باب المنزل "
" المنزل ؟ "
" أعني منزل خالتكِ... هل حسام هناك ؟ "
و طلبتُ مِنْ حسام الذهاب لاستقبال سامر. غادرتْ خالتي المجلس و عاد حسام مع سامر... و الأخير بدأ بالتحية و السؤال عن الأحوال ثمَّ سألني مباشرة:
" ماذا حدث؟؟ "
قلتُ بشكل غير مرتّب:
" خرجَ غاضباً... إنهّا خالتي... إنّه موعد إقلاع الطائرة... هل سافر بدوني ؟؟ "
رأى سامر اضطرابي فحاول تهدئتي ثمَّ قال:
" لنْ يفعل ذلكَ... لكن أخبريني ما الذي حدث بالضبط؟ "
قلتُ منفعلة:
" خالتي تشاجرتْ معه... إنّهم يقسون عليه و لا يحترمونه و لا يثقون به "
أبو حسام قال مدافعاً:
" ليس الأمر كذلك لا سمح الله.. إنه ابننا مثل حسام و مثلكَ يا سامر و لكن أمّ حسام جُنّ جنونها مُذ رأتْ الفتاة بالعكّاز و الجبيرة... تعرف كم تحب ابنة أختها و تقلق عليها و لا تريدها أنْ تبتعد عنها "
قلتُ بغضب:
" لكن لا ذنب لوليد فيما حصل لي... لماذا تنظرون إليه هكذا؟؟ إنَّه يعتني بي جيداً و يعاملني بكل احترام و حنان و أدب... و أنا لا أسمح... لا أسمح... ... "
و أخذتُ شهيقاً باكياً ثمَّ زفرتُ نفسي مع دموعي:
" لا أسمح لأحدٍ بأنْ يُهينه... و لا أقبل بأنْ ينعته أحد بالمجرم... أنتم كلُّكم قُساة... كلُّكم بلا مشاعر... كلّكم ظالمون "
انخرطتُ في بكاءٍ لمْ أبكِ بمثله أمام أحدٍ مسبقاً... غير نهلة... الثلاثة؟.. سامر و حسام و أبوه التزموا الصمت للدقائق الأولى... ثمَّ تحدَّث سامر مخاطباً الآخرين:
" بعد إذنكما... هل لي بحديثٍ خاص مع ابنة عمّي ؟ "
و شعرتُ بهما يغادران... ثمَّ شعرتُ بسامر يقترب منِّي و سمعتُه يناديني. مسحتُ دموعي و نظرتُ إليه فقال:
" أفهِميني يا رغد... ما الذي يدور ها هنا؟؟ "
قلتُ مقاطعة:
" هل تعتقد أنّه سافر ؟ "
سامر قال:
" لا. كيف سيسافر و يترككِ ؟ "
" إذنْ لماذا أقفل هاتفه؟؟ أُنظر إلى الساعة... لاشكَّ أنَّ الطائرة قد أقلعتْ منذ فترة... "
و لمعتْ في رأسي فكرةٌ فقلتُ:
" اتّصِلْ بالمطار و اسألْ عنه "
و أنا أراقب سامر و هو مشغولٌ بطلب الرقم تلو الآخر... سمعتُه أخيراً يتحدَّث إلى الطرف الآخر باهتمام، ثمَّ شكره و أغلق السمّاعة. نظر إليَّ و عيناي متعلقتان به بلهفة... ثمَّ قال:
" يبدو... أنّه قد سافر بالفعل يا رغد "
" سافر ؟! "
قال سامر:
" الموظّف أكَّد لي أنَّ اسم وليد شاكر جليل... أُدرِجَ مع قائمة أسماء المسافرين الذين ركبوا الطائرة المتَّجهة إلى الجنوب "
نظرتُ إليه بتشتُّت... بضياع بعدم تركيز... بعدم تصديق... بانهيار...
" لا ! "
سامر كان ينظر إليَّ بقلقٍ و خوف. قلتُ:
" و أنا ؟؟ "
لازال سامر ينظر إليَّ... و التعاطف ينبثق مِنْ نظراته...
" و أنا ؟؟ ماذا عنِّي أنا ؟؟ "
سامر قال:
" وليد لنْ يفعل شيئاً كهذا لسببٍ تافه... أخبريني ماذا حصل بالتفصيل يا رغد "
قلتُ و أنا أنهار:
" أخبروني بأنّه وصل... فأتيتُ إلى هنا و لمْ أجده... رحل فجأة... تشاجر مع خالتي خلال دقائق معدودة و غادر غاضباً... خالتي أهانتْه... عارضتْ سفري معه بدون الشقراء... لابدّ أنَّها رمتْه بألفاظٍ قاسية... إنّها تكرهه و لا تثق به... تعيّره بالمجرم... و تنعته بالمتوحّش و خرِّيج السجون... و كلمات جارحة و مُهينة... آه يا إلهي... وليد لا يستحق هذا... "
و أخفيتُ وجهي خلف يدي اليسرى مِنْ مرارة الموقف... و عصرتُ عينيّ دموعاً شجيّة... أحسستُ بشيءٍ يلامس يدي ففتحتُ عينيَّ و رأيتُ منديلاً تمدّه يد سامر نحوي.
" هوّني عليكِ يا رغد "
قال مواسياً. أخذتُ المنديل و مسحتُ دموعي ثمَّ قلتُ:
" ماذا أفعل الآن ؟ "
قال سامر مطمئِناً:
" عندما يصل إلى المنزل سنهاتفه... لابدّ أنّه كان غاضباً... لكنّه سيهدأ "
" هل تظن أنّه سيعود ؟ "
" بل أنا على يقينٍ مِنْ ذلك... اطمئنّي... "
ثمّ أطرق برأسه إلى الأرض و شرد قليلاً... ثمَّ قال:
" لمْ أكنْ أعلم بأنّهم يسيئون إلى أخي... "
نظرتُ إليه فإذا بالاستياء البالغ يعشّش على قسمات وجهه و إذا بكفيه ينقبضان بشدّة حنقاً... نظر إليَّ و ألقى عليَّ سؤالاً:
" أأنتِ مَنْ أخبرهم عن سجنه ؟؟ "
أطرقتُ برأسي... و أشرتُ نفياً... و كانتْ نظراتُ الاتهام تشعُّ في عينيه... و قبل أنْ أتكلَّم سمعنا صوت خالتي تلقي بالتحية وهي تطلُّ علينا عند الباب. التفتنا إليها فإذا بها تُقبِل يتبعُها حسام يحمل صينية أكواب الشاي... و بعد حوار سريع و سطحي سألتْ:
" هل ردّ عليكم ؟ "
قال سامر:
" ليس بعد فهو في الطائرة الآن "
" إذنْ فقد سافر "
ثمَّ أضافتْ:
" رافقتْه السلامة "
لمْ أحتمل ذلك... هببتُ واقفةً هامّةً بالانصراف... فإذا بسامر يهبُّ واقفاً هو الآخر و يستأذن للمغادرة...
ناداه حسام:
" و الشاي ؟؟ "
فردّ مقتضباً:
" في مناسبة أفضل "
و غادر المكان.
في الردهة... رأيتُ حقيبة سفري لا تزال واقفةً قرب الباب... تنتظرني... أشحتُ بوجهي بعيداً عنها فاستقبلتْني أعين ابنتَي خالتي اللتين تقفان على بعدٍ تراقبانني. و بعد عناق الأعين جاء دور عناق الأذرع و الأحضان... وليد قلبي... سافر ليس فقط مِنْ دوني... بل و دون وداعي... و دون أنْ يكلّمني... و دون أنْ تقع عيناي عليه و لو لنظرةٍ أخيرة...
~~~~~~~~~~~~~~
__________________
عدل سابقا من قبل ^حلا^ في الثلاثاء 19 يوليو 2011, 7:41 pm عدل 1 مرات
تسع ساعات و أنا أحاول الاتصال بشقيقي مِنْ حينٍ لحين و بجميع الأرقام التي لدي دون نتيجة. أخذَ القلق يتفاقم في صدري، خصوصاً و أنَّ رغد تتّصل بي مراراً و تهوّل الأمر. حتّى أنّها اقترحتْ عليَّ مهاتفة صديقه سيف غير أنّني عارضتُ الفكرة و طلبتُ منها الانتظار حتّى صباح اليوم التالي.
و في الصباح اتّصلتُ بهاتفه فوجدتُه لا يزال مُغلقاً، و بالمنزل فلمْ يجبني أحد، ثمَّ بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقرِّ عمله، فأُخبِرتُ بأنَّه لمْ يحضر و بأنّه قد اتّصل بهم قبل فترة و أبلغهم عن عودته مِنْ السفر. على الأقلّ أعرف الآن أنّه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام.
اتصلتُ برغد و أخبرتُها بالجديد و كنتُ أظنّ أنّها سترتاح للخبر غير أنّها انزعجتْ و حزنتْ كثيراً. كان أخي قد قضى في شقّتي عدَّة أيام و قد كانتْ أياماً جميلة أنعشتْ في صدري الذكريات الماضية التي لنْ تعود... الجميلة و المؤلمة معاً... و كان أشدّها إيلاماً هي ذكريات والدينا رحمهما الله.
لمْ تمضِ سنةٌ بعد على مصرعهما... و النار لا تزال تتأجّج في صدري... و لنْ تخمد أبداً... و هو السبب الأول الذي كان يمنعني مِنْ العودة إلى المدينة الساحلية و العيش في بيتنا القديم المليء بالذكريات مع شقيقي الذي ما فتئ يطلب هذا منّي. أما الثاني فهو و لا شكّ رغد...
و في هذه المرّة ألحَّ عليَّ شقيقي للسفر معه و أبلغني بأنَّ خطيبته لنْ ترافقه و بأنّه لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج و كذلك الدراسة. و قد خطّطتُ جدياً للحاق به عمّا قريب، خصوصاً و أنا أرى أنّه مِنْ الأفضل لي الابتعاد عن هذه المدينة.
أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودتُ الاتصال بهاتف شقيقي و للمفاجأة كان مفتوحاً. رنّ عدّة مرّات قبل أنْ يجيب وليد أخيراً.
" السلام عليكم "
" مرحباً سامر... و عليكم السلام و رحمة الله "
و كان صوته منهكاً.
" كيف حالكَ؟ حمداً لله على سلامة الوصول "
" سلّمك الله "
يردّ بجملٍ قصيرة و على عجل.
" ما هذا يا وليد ! ألف مرّة أتّصل بكَ و هاتفكَ مغلق ؟ "
" نعم. لقد تركتُه مغلقاً منذ الأمس "
" أقلقتَنا... ماذا حصل؟ هل أنتَ بخير ؟ "
" نعم... نعم "
" تبدو مشغولاً "
" أجل... "
" حسناً... سأتّصل لاحقاً... أرجوكَ لا تغلق الهاتف... "
" حسناً "
و أنهينا المكالمة و مباشرة هاتفتُ رغد و أخبرتها فأبلغتني بأنها ستتّصل به فوراً.
بعد قليل اتصلتْ بي و أخبرتْني بأنّ وليد لا يجيب. أبلغتُها بأنّه مشغول و اقترحتُ عليها الاتصال بعد ساعة أو أكثر. و اتصلتْ بي بعد ساعة ثمَّ بعد ساعة أخرى تخبرني بأنها كلّما اتصلتْ بهاتف وليد وجدته مفتوحاً و لكنّه لا يجيب.
على هذا النحو مرَّ ذلك النهار و في الليل اتَّصلتُ به و دار بيننا حديثٌ قصير، امتنع فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس... و أظهر لا مبالاة غريبة عندما حدّثته عن رغد. باختصار... شقيقي كان غاضباً جداً مِنْ عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد و لا يرغب في الإتيان بذكر أيٍ منهم... على الإطلاق...
كان هذا غريباً لكن الأغرب... أنّه و بعد ثلاثة أيّام، بعث إليَّ بظرفٍ عبر البريد الجوّي الموثّق... يحوي وثائق هامّة... طلب منِّي الاحتفاظ بها... و أخبرني بأنّه مسافرٌ إلى خارج البلدة للاستجمام...!!
الظرف كان يحوي تقريراً طبياً مفصَّلاً عن إصابة رغد... و صوراً لبطاقته المدنية، و العائلية، و وثيقة كفالة رغد، و شيكاً مصرفياً بمبلغٍ كبير... و توكيلاً مؤقتاً باسمي لأتولَّى الوصاية على رغد... خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج...
هكذا سافر وليد قبل أنْ يترك لنا المجال للاستيعاب... و يمكنكم تصوّر وقع نبأٍ كهذا على الفتاة التي كانتْ تحترق رماداً مِنْ أجل مهاتفته. و التي تتلوّى شوقاً لعودته... و تتّصل بي عشرات المرَّات مِنْ أجل السؤال عنه...
عندما رأيتُ ما حلّ بها... تقلّبتْ في مخليّتي ذكرياتٌ قديمةٌ أخرى... كانتْ مركونةً بإهمالٍ في إحدى نتوءات دماغي.
حدث ذلك قبل أكثر مِنْ عشر سنين عندما كنَّا في المدينة الساحلية في بيتنا القديم. بعد أنْ غادر وليدالمنزل، أُصيبتْ رغد بحالة افتقاد مَرَضية إليه... في تلك الفترة رفضتْ الذهاب إلى المدرسة و صارتْ تلازم والدتي كالظلِّ حتّى في النوم و تراودها الكوابيس المفزعة و تصحو مِنْ النوم مفزوعة و تصرخ ( أريدوليد... أريد وليد )
كانتْ أشبه بالمذعورة و قد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام و زاد الأمر سوءاً الحرب و التدمير الذي تعرّضتْ له مدينتنا و جعل الناس جميعاً يعيشون حالة ذعر هستيري. و مِنْ سيّء إلى أسوأ تدهورتْ حالتها حتَّى قرَّر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال، الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي.
و منْ سيِّء إلى أسوأ تدهورتْ نفسيّة رغد بعد سفر وليد المفاجئ هذا، و وجدتُ نفسي أُعاصر إحدى أسوأ الفترات العصيبة التي عاشتها مِنْ جديد...
~~~~~~~~~~~~~~~~
-أروى-
منذ ذلك اليوم المشؤوم... الذي رحل فيه وليد بعد شجاره معي، و والدتي طريحةُ الفراش في المستشفى و الأطبّاء قرّروا إجراء عمليّة جراحية لقلبها المريض.
كان خالي يواظب على الاتصال بوليد الذي لمْ يكن يجيب، حتّى ردَّ و أبلغ خالي بأنَّه مسافرٌ إلى خارج البلدة لبضعة أسابيع.
تدهورتْ صحّة والدتي أكثر لمّا علمتْ بالخبر مِنْ خالي... و ها نحن نجلس إلى جانبَيها في غرفة العناية القلبية المركزة... و الطبيب يبقي كمّامة الأوكسجين على وجهها و يمنعها عن بذل أي مجهود يُتعب قلبها.
أنا أمسِك بيدها أضمُّها إلى صدري و أقبّلها و أدعو الله أنْ يشفيها عاجلاً. التفتتْ والدتي إليَّ و سألتْني:
" أَلمْ تتَّصلي بزوجكِ ؟ "
فأجبتُها:
" لمْ أتّصل "
" ألمْ تبلغاه بأنني في المستشفى ؟ "
" بلى، أخبره خالي بذلك "
و نظرتُ إلى خالي الذي حرّك رأسه مؤيداً. فقالتْ أمّي:
" إذنْ لماذا لا يحضر لزيارتي؟ ليس مِنْ عادته التخلُّف في موقفٍ كهذا "
أجاب خالي:
" لأنّه مسافر بعيداً حالياً "
فنظرتْ إليَّ و شدّتْ على يدي و قالتْ:
" يا ابنتي... هل تخفين عنِّي شيئاً ؟ "
فقلتُ:
" كلا "
و لكنّها بدتْ متشكّكة و استدارتْ إلى خالي و سألتْ:
" هل تخفون عنِّي شيئاً يا أخي ؟ "
فقال خالي:
" كلاّ يا أمّ أروى. ماذا سنخفي عنكِ مثلاً ؟ "
فقالتْ:
" ربّما حصل شيءٌ... بعد ذاك الشجار... ربّما وليد نفَّذ ما طلبتْه أروى... لا أريد أنْ أرحل و أنا غير مطمئنّة على ابنتي "
قرّبتُ رأسي مِنْ رأس أمي و أخذتُ أحضنها و أقبّلها و أقول:
" لا تقولي هذا يا أمّي أرجوكِ "
و هي تتابع:
" الأعمار بيد الله... نسأله حسن الخاتمة "
فلمْ أتمالكْ نفسي و فاضتْ الدموع في عينيَّ... و قلتُ:
" أرجوكِ يا أمَّي لا تتحدّثي هكذا... شفاكِ الله و مدَّ في عمركِ... أنا مَنْ لي غيركِ في هذه الدنيا ؟ "
و أحسستُ بيدها تمتدّ وتلامس يدي ثمَّ سمعتُها تقول:
" لكِ زوجكِ... و خالكِ... يحفظكم الله "
ثمَّ التفتتْ إلى خالي و قالتْ:
" أخي يا قرّة عيني... أحضِر وليد و صالحهما أصلح الله لكَ آخرتك... الشَّاب جيِّد و مِنْ خيرة الرجال و أنا ما كدتُ أصدِّق أنَّ الله بعث إليَّ مَنْ أستأمنه على ابنتي مهجة قلبي... "
خالي مسح على رأس أمّي و قال:
" لا تشغلي بالكِ بهذه الأمور يا أمّ أروى هداكِ الله... إنّه شجارٌ عابر يحصل بين أي زوجين و ينتهي "
لكن أمي أبدتْ عدم التصديق و قلتْ مخاطبة خالي:
" لا تدعه يذهب يا إلياس... ما كان نديم ليطلب مِنْ شخصٍ عادي أنْ يهتم بعائلته "
ثمَّ التفتتْ إليَّ و قالتْ:
" لو لمْ يكن رجلاً بمعنى الكلمة... لما تمسّك بالمسؤولية على ابنة عمِّه اليتيمة بهذا القدر "
و شدّتْ على يدي و قالتْ:
" تمسّكي بهِ يا أروى... لا تفرِّطي به... يهديكِ الله "
حصلتُ على أقرب موعد ممكن مع أحد أطباء العظام في إحدى المستشفيات الكبيرة في المدينة الصناعية و اليوم سآخذ رغد من أجل المعاينة و متابعة العلاج.
استخرجتُ الظرف الذي أرسله لي شقيقي قبل سفره و قلّبتُ الأوراق لاستخراج التقرير الطبي. و أثناء ذلك أطّلعتُ على مجمل الأوراق و بشكل أخصّ على ورقة التوكيل. كانتْ ورقةً رسميةً و موثقةً مِنْ قبل مكتب المحامي يونسالمنذر و هو شخصٌ سبق لوليد و أنْ أخبرني بأنّه يعمل معه في المصنع.
ذكر في هذا التوكيل أموراً كثيرة يفوّضني لتولّيها و في الأسفل ذُكِرتْ جملة الاستثناءات. و في الواقع لمْ يكن هناك غير استثناءين اثنين... الزواج و السفر ! ويحكَ يا وليد ! و هل تظنّ مثلاً بأنني سأستخدم هذا التوكيل و أعيد رغد إلى ذمّتي و أهرب بها بعيداً ؟؟ ليتَني... استطيع ذلك...!!
أخذتُ أوراق التقرير الطبي و ذهبتُ إلى بيت أبي حسام. تمنّيتُ أنْ أقابل رغد بحالةٍ أفضل و لكنها كانتْ بحالةٍ يُرثى لها.
" لا أريد أنْ أذهب إلى أي مكان... و مِن فضْلكَ يا سامر لا تضغط عليَّ... "
هذا ما استقبلتني به فقلتُ:
" بربّكِ رغد ! لابدّ مِنْ معاينة إصابتكِ و متابعة علاجكِ. بل إنّني أخشى أنْ نكون قد تأخّرنا و يُصيب قدمكِ أو يدكِ شيءٌ لا قدّر الله "
قالتْ بلا مبالاة:
" لا فرق عندي "
لنْ أبذل الجهد في محاولة تشجيعها فنبرتها أشدّ كآبة مِنْ أنْ تتغلّب كلماتي عليها. لكنني قلتُ برجاء:
" يا رغد.. يجب أنْ نزور الطبيب حتّى تتخلّصي مِنْ هذا العكّاز و هذه الجبيرة... هل يعجبكِ أنْ تظلّي مُعاقة عن الحركة الطبيعيّة و محتاجة لمساعدة الآخرين في أبسط الأشياء ؟ "
و كانتْ الآنسة نهلة تجلس معنا و سترافقنا إلى المستشفى، فقالتْ مشجّعة رغد:
" على العكس. إنها تريد التخلّص مِنْ هذين بسرعة. أليس كذلك ؟ اشتاقتْ إلى الرسم و نتوق لفنّها الرائع ! هيا بنا عزيزتي "
لكنّ ردّة فعل رغد جاءتْ عنيفة ! انفجرتْ صارخةً:
" قلتُ لكما اتركاني و شأني... لا أريد الذهاب إلى أي مكان... إلا إذا شئتما حملي إلى المقبرة و دفني تحت الأرض... لأرتاح و أريحكم جميعاً..."
قالتْ الآنسة نهلة بعد الدهشة:
" بعد ألف شر! لا تتكلّمي هكذا يا رغد "
فردّتْ رغد بانفعال:
" ما لمْ يعجبكم كلامي فحلّوا عنِّي... لماذا تضغطون عليَّ ؟؟ أتركوني و شأني... أتركوني و شأني..."
و همّتْ بمغادرة المجلس حيث كنّا هي و أنا و الآنسة نهلة جالسين، في ذات الوقت الذي دخلتْ الخالة أمحسام و هي تنظر نحو رغد و يظهر أنها سمعتْ صوتها الصارخ و كلامها الزاجر. حين رأتْ رغد خالتها تصرّفتْ بعصبيّة أكبر و غيّرتْ اتجاه سيرها و استدارتْ نحو الباب الخارجي للمجلس و خرجتْ إلى الفناء. أمّ حسام لحقتْها بسؤال:
" إلى أين يا رغد ؟ "
و الأخيرة ردّتْ بحدّة:
" إلى حيث ألقتْ "
و هذه إجابة و بأسلوبٍ ونبرة لم أعهدها على رغد. فهي لطالما كانتْ تحبُّ خالتها و تعاملها بكل احترام و مودة كما و أنَّ رغد فتاةٌ مهذَّبة و هادئة الطباع و راقية الأسلوب. هذا تحوُّل كبير في شخصيتها صبغها به حزنها و غضبها بسبب سفر وليد.
و بعد أنْ انصرفتْ رغد خاطبتْني الخالة متسائلة:
" هل وافقتْ ؟ "
فأجبتُ إجابة مخيّبة:
" أبداً. لمْ تُعِرني أذناً صاغية. جلَّ ما أخشاه هو أنْ تتطوّر إصابتها للأسوأ لا قدّر الله "
فقالتْ الخالة آسفةً:
" إنها لا تستمع إليَّ و ترمقني بنظرات الاتّهام و تُشعرني بأنني ارتكبتُ جريمةً عظمى في حقّها. أيرضيكَ أنْ ندعها تسافر مع وليد بمفردهما؟؟ هل هذا يليق ؟؟ "
و لمْ أشأ فتح المجال لها لإدارة موضوعٍ هكذا الآن، و في خاطري نقمةٌ على المعاملة السيئة التي عُومِل بها شقيقي مِنْ قِبَلها و آثرتُ أنْ أصرفَ الاهتمام إلى إصابة رغد فقلتُ:
" سألحق بها و أحاول إقناعها، على الأقل و لو بزيارةٍ واحدةٍ للطبيب الآن "
و نهضتُ و استأذنتُ و خرجتُ إلى الفناء أتعقَّب رغد، فوجدتُها تسير ببطء بعكازها متغلغلةً في الحديقة حتّى وقفتْ عند إحدى الأشجار الباسقة فاستندتْ إليها و أطلقتْ بصرها نحو الأعلى. توقّفتُ على بعد مترين أو أكثر منها ثمَّ سألتُها:
" أتسمحين بأنْ أكلِّمكِ ؟ "
ردّتْ بضيق:
" أرجوكَ لا تتعبْ نفسكَ و تتعبني... لنْ أذهبَ إلى المستشفى و لا يهمُّني ما يحلُّ برجلي و لا بيدي... لنْ أخسر شيئاً إنْ فقدتهُما هما أيضا إزاء كل ما فقدتُ... ولنْ أعيش طويلاً لأفقد المزيد "
الحزن و الكآبة بلغا بها لهذا الحد... ألمها يعصرني...
" أنتِ لمْ تخسري شيئاً يا رغد... "
فرمتْني بنظرةٍ قويّةٍ و قالتْ:
" ما حجم الخسارة التي تريدون منِّي فقدها حتّى يمكنكم رؤيتها ؟؟ لا أم و لا أب و لا كافل و لا بيت و لا رجل و لا يد و لا مستقبل و لا شيء... ماذا تريدون أن أخسر أكثر؟؟ "
رددتُ:
" لا أحد يريد لكِ خسارة شيء... رغد لا تنظري للأمر هكذا "
و ضغطتُ على أعصابي و أضفتُ:
" إنّه سافر مؤقتاً و لمْ يرحلْ عن الدنيا لا سمح الله "
و أخذتْ تعبيرات وجهها تنهار شيئاً فشيئاً... و تابعتُ:
" و سيعود حتماً بإذن الله "
أطرقتْ برأسها و قالتْ نافية:
" لن يعود... لقد تخلَّى عنِّي... أخلفَ بوعده... إنّه دائماً يُخلف بوعوده... لطالما كان يتركني و يسافر بعيداً... يظنُّ أنني سأبقى حيَّةً لحين عودته ذات يوم... لا يعرف أنني سأموتُ عاجلاً بسببه "
عضضتُ على أسناني بمرارة و تحمّلتُ الألم و قلتُ:
" بعد ألف شرٍ و شر... لا تكوني متشائمةً هكذا... لقد أخبرني بأنَّه سيقضي بضعة أسابيع للاستجمام هناك ثمَّ سيعود "
قالتْ مصرّة:
" لنْ يعود إليَّ... ألمْ ينقل كفالتي إليكَ ؟ تبرّأ مِنْ مسؤوليّتي... كما خطّطتْ الشقراء... انتهينا "
و كم ألمتُ لألمها و تجرّعتُ مرارتها. عقّبتُ:
" الوصاية التي أسندها إليَّ جزئيّة و مؤقّتة. لا تخشَيْ... ستعودين إلى كنفه و رعايته فور مجيئه "
و لكنّ رغد أومأتْ برأسها عدم التصديق و بأسى فقلتُ:
" بلى،... و لكن... هل أنا سيِّئٌ لهذا الحد ؟؟ "
هنا حملقتْ بي و انتبهتْ إلى أنّني سامر خطيبها السابق و الذي يحبّها كثيراً. تبدّلت سحنة وجهها و قالتْ بصوتٍ كئيب:
" أنتَ... أعزّ إنسان على قلبي... سامحني... "
و كانتْ تقولها بمرارة و ندم... و قد تكون اللحظة الأولى التي تكتشف فيها رغد كم قستْ عليَّ و جرحتْني و إلى أي عمق طعنتْ قلبي...
تابعتْ رغد:
" ليته لمْ يظهر في حياتي... ليتَني لمْ أقترب منه... كم أنا حمقاء... حمقاء و غبية و واهمة... أتعلّق بالأوهام... و الخيالات المستحيلة... و واقعي... فتاة يتيمة وحيدة بائسة مُعدمة... "
و ضربتْ بعكازها جدع الشجرة و تابعتْ:
" و معاقة و عاجزة و عالة على الآخرين "
" كفى يا رغد... لا تصفي نفسكِ بهذا و أنتِ العزيزة الغالية المدلّلة و كلّنا رهن إشارتكِ "
لكنّها واصلتْ بكآبة:
" ما الذي كنتُ أتوقّعه لنفسي؟؟ البلهاء... ما الذي كان سيجعله يختارني ؟؟ ما الذي لديَّ و يستحق العودة مِنْ أجله ؟؟ ماذا أملكُ أنا ليعجبه ؟؟ أنا لمْ أُثِرْ لديه إلا الإزعاج و القلق و المشاكل... "
و أضافتْ:
" و بعد كلّ هذا... تأتي خالتي و عائلتها و يهينونه في بيتهم و على مرأىً و مسمعٍ منّي... كيف أنتظرُ منه أنْ يعود مِنْ أجلي ؟؟ يا لي مِنْ حمقاء... غبيّة "
قلتُ:
" هوّني عليكِ أرجوكِ... لِمَ كل هذا؟؟ بالله عليكِ... إنْ هي إلا فترة مؤقتة و يعود و نصلح الشروخ الحاصلة بين الجميع... ليس شقيقي مِنْ النوع الذي يهرب مِنْ المسؤوليات و الشدائد بل هو أهلٌ لها "
فقالتْ منفعلة:
" إذنْ لماذا لا يردّ على اتصالاتي؟؟ لماذا قاطعني؟؟ "
أجبتُ محاولاً تحسين الموقف و تبريره:
" تعرفين... إنه غاضبٌ و لا يحسِن المرء التصرّف في ثورة الغضب. عندما يهدأ سيتّصل بكِ "
" ما ذنبي أنا ؟؟... لماذا يشملني في غضبه و مقاطعته؟ "
" أُعذريه يا رغد... ربّما كانتْ خالتكِ بالغة القسوة عليه "
" كلّهم قساة... وليد أشرف و أرقى منهم جميعاً... سوف لنْ أغفر لهم إهانتهم له... و إذا لمْ يعدْ إليَّ فسوف لنْ أبقى في هذا المنزل... و سأعود إلى بيتي المحروق و أدفن نفسي تحت أنقابه "
يتّضح لكم مدى الاكتئاب الذي ألمّ برغد جرّاء سفر وليد... لَمْ أفلح يومها في إقناعها بالذهاب إلى المستشفى و حين عدتُ إلى شقّتي هاتفتُ شقيقي و أبلغتُه عن هذا فوبّخي و ألقى بالمسؤولية عليَّ و قال لي بالحرف الواحد:
" أنتَ المسؤول عنها الآن و يجب أنْ تتصرَّف و لا تدعْ عنادها يتغلَّب عليكَ. أرحني مِنْ همِّها بضعة أسابيع‘ فأنا قرحتي تكاد تأكل أحشائي "
و فهمتُ مِنْ كلامه بأنَّ وضعه الصحي متدهور و قلقتُ كثيراً... و ربّما يكون الطبيب هو مَنْ نصحه بالسفر و الاستجمام بعيداً عن المشاكل و المسؤوليات مِنْ أجل صحّته، خصوصاً و أنني لاحظتُ إكثاره مِنْ تناول الأدوية خلال فترة مكوثه في شقّتي.
و لهذا تحاشيتُ في المكالمات التالية و قدر الإمكان إبلاغه بالتفاصيل المزعجة عن وضع رغد و ادّعيتُ بأنها في تحسّن بينما هي على العكس... إلى أنْ حلَّ يومٌ احتدّ الجدال فيه بين رغد و خالتها و اتصلتْ بي هي بنفسها و طلبتْ منّي أخذها إلى المستشفى. لمْ يكن هدفها هو المستشفى بل الابتعاد عن خالتها. زرنا الطبيب و عاينها و اطلع على تقريرها الطبي و أجرى لها بعض الفحوصات ثمَّ أخبرنا بأنّه لا يزال أمامها أسابيع أخرى قبل أنْ يمكنها الاستغناء عن الجبيرة و العكاّز.
و هذا الخبر لمْ يزد رغد إلا كآبة ما كان أغناها عنها، فانزوتْ على نفسها في غرفتها بقية اليوم. اتّصلتُ بشقيقي مساءاً و أعلمتُه بأننا زرنا الطبيب أخيراً و أخبرتُه بما قال، كما أوصاني مسبقا... و لكنني أخفيتُ عنه مسألة الإحباط الشديد الذي ألمَّ برغد و طمأنتُه على صحَّتها... و أذكر أنّه يومها سألني بتشكُّك:
" ألا تحفي عنِّي شيئاً ؟؟ هل حقاً تقبَّلتْ النبأ ؟ "
فقلتُ له:
" اسألها بنفسكَ لتتأكَّد ! "
" سأفعل، في الوقت المناسب "
و الله الأعلم متى يحين الوقت المناسب حسب معادلة وليد...!
و مرّتْ أيّامٌ أخرى... و الحال كما هي. وليد غائبٌ و يتابع أخبار رغد عن بعدٍ و يرفض التحدّث معها أو مع أقاربها أو عن شجاره معهم، و هي في كآبة مستمرَّة لا تعرف حتى البسمة السطحية إلى وجهها طريقاً... إلى أنْ طلبتْ مني الخالة أنْ أزورهم ذات مرّة...
" لا أفعل هذا إلا مِنْ أجل رغد... الفتاة تذبل يوماً بعد يوم و أخشى أنْ تموت بين يدي... معاملتها و نظراتها لي كلها اتهامٌ و نفور شديدين، و أنا لا أقوى على مواجهتها خشية أنْ يزداد الموقف حدَّةً و لا استطيع تحمُّل وضعها هذا. قلبي منفطرٌ عليها و يكاد الشعور بالذنب يمزّقني... أريد أنْ نتصالح مع وليد لأجلها و أنْ أُفهِمه أنّني لمْ أقصد إهانته شخصياً بل توضيح حدود علاقته برغد... قلْ له أنْ يعود و إلا فإنها ستمرض إلى أنْ تموتُ... "
قلتُ و أنا أعلم كم يرفض و بشدّة الحديث عن أو مع عائلة الخالة:
" سأخبره عن رغبتكِ في محادثته حينما أتّصل به "
" اتّصِل بهِ الآن يا سامر رجاءاً و دعني أكلّمه "
أحرجني الطلب فأذعنتُ له كارهاً و اتصلتُ بشقيقي و بعد تبادل التحيات أخبرتُه بأنّني في منزل أبيحسام و أنَّ الخالة أمّحسام ترغب بشدّة في التحدُّث معه، و بدوره أيضاً وليد أحرجني جداً حيث قال:
" لا أرغب في التحدُّث مع أحدٍ يا سامر... البتّة... أرجوكَ أنْهِ المكالمة "
قلتُ و وجهي يحمرُّ حرجاً:
" و لكن... "
فقال:
" آسِف يا سامر سأغلق الهاتف. لا تكرّر هذا ثانيةً. اعذرني و مع السلامة "
و قطع الاتصال. أبعدتُ الهاتف عن أذني و عيناي تطئان الأرض خجلاً و أمّ حسام تراقبني ثمَّ قالتْ:
" لمْ يقبل التكلّم معي أليس كذلك؟ "
قلتُ محرجاً:
" إنّه... أعني... "
و طبعاً أمّ حسام فهمتْ الأمر. قالتْ مستنكرة:
" و لكن ما هذا الطبع في أخيكَ ؟ يجب أنْ يكون أرحبَ صدراً و أوسع بالاً و أرقى ذوقاً مِنْ هذا "
في ذات اللحظة أقبلتْ رغد تدخل الغرفة سائرةً بعكّازها و على وجهها أمارات القلق و الفضول... لابدّ أنها كانتْ تنتظر المكالمة بصبرٍ نافذ... و بعد تحيّتي سألتْ عمّا إذا كنّا قد أفلحنا في الاتصال بوليد... فأطرقنا برأسينا... و فهمتْ رغد ما جرى... فطأطأتْ رأسها حزناً... و تراجعتْ للوراء... أم حسام حاولتْ أنْ تطيّب خاطر رغد فقالتْ:
" لا يزال ناقماً عليَّ... سيبلِّغه سامر اعتذاري و يطلب الصفح بالنيابة عنّي... لا أظنّه سيرفض اعتذاري هذه المرّة "
و لمْ تُعِر رغد الكلام أهميّةً، و استدارتْ يائسة. قالتْ أم حسام مخاطبةً إياي:
" أعد الاتصال به و أخبره بأنَّ رغد هي مَنْ يرغب بالحديث معه "
و التفتتْ إليَّ رغد... موقفي صار غاية في الحرج... و اتصلتُ فلمْ يرد. و بقيتْ أنظار رغد و أم حسامتراقبان و تترقبان بأملٍ يائس... وضعتُ الهاتف أخيراً في جيبي و قلتُ:
" ربّما انشغل "
و هو مبرِّرٌ ندرك زيفه ثلاثتنا... أمّ حسام قالتْ:
" بل ربّما ينوي قطع الصلة بيننا نهائياً "
فالتفتتْ رغد إليها و تكلّمتْ منزعجة:
" يقطع صلته بنا ؟ ماذا تعنين؟؟ كيف يقطع صلته بي أنا ؟؟ إنّني ابنة عمّه... و مكفولته... لا يجوز له..."
قالتْ أم حسام:
" كما ترين، لا يريد أنْ يعطينا فرصة للتصالح معه بتاتاً... فبماذا تفسّرين هذا ؟"
قالتْ رغد و قد علا صوتها و اشتدّ احمرار وجهها و اشتعل الغضب في عينيها:
" أنتِ السبب يا خالتي... أنتِ السبب "
و لمْ تعقّب الخالة فاستمرَّتْ رغد في الاتهام:
" دفعتِه لأنْ يتركني و يرحل... ماذا سيحلُّ بي الآن ؟ "
قالتْ أم حسام بلطف محاولة تهدئة رغد:
" ستسير حياتكِ طبيعية بيننا و الله يغنينا عنه و عن وصايته... سريع الغضب عنيف الرد... "
و في الواقع لمْ يكن يجدر بها قول هذا على مسامعنا، و فيما رغد على أهبّة الانفجار. اشتطَّتْ رغد غضباً و انتفخ وريد جبينها و هتفتْ بعنف:
" قلتُ لكِ لا تتحدّثي عن وليد هكذا... إذا لمْ يكنْ يعني لكم أنتم شيئاً فأنا لا استغني عنه... و لا أريد وصياً غيره... و سألحق به أينما ذهب... و لا أحد له الحق في توجيه حياتي غيره هو... و ليس لأنني يتيمة الأبوين ستعبثون بي كما تريدون... و إذا تخلّى وليد عنِّي كلياً فسوف لن أبقى معكم... سوف لنْ أسامحكم أبداً لأنّكم أنتم السبب... و ما لمْ تعيدوه إليَّ فسأخرج بنفسي للبحث عنه... عسى ألا أعود حيّةً بعد خروجي "
و سارتْ نحو الباب و غادرتْ ثائرة. خيّم الصمتُ بيننا أنا و الخالة لبعض الوقت ثمَّ إذا بها تقول:
" جُنّ جنونها !! "
و بقيتُ صامتاً...فواصلتْ:
" لمْ أكن أتوقّع أنها... لا تزال مولعةً به لهذا الحدّ... حتّى بعد كلّ تلك السنين "
أثارتْ الجملة جلّ اهتمامي و ركّزتُ النظر إلى عيني الخالة يعلوني التساؤل... فقالتْ هي:
" عندما كانتْ صغيرة كانتْ مهووسةً به للغاية، حسبناه تعلُّق طفولي لطفلة يتيمة تبحث عن الحنان... و كان شقيقكَ يدلّلها و يصطحبها معه أينما ذهب. والدتكَ رحمها الله كانتْ قلقة بهذا الشأن، و كانتْ تعتقد أنّهما حين يكبران قد تتطوَّر علاقتهما... مع فارق السن... و لكن عندما غاب كل تلك السنين توقَّعنا أنْ تكون قد نسِيتْه و انتهى كل شيء "
ثمَّ أضافتْ:
" لكن يبدو أنَّ الحنين إلى الماضي قد اجتاح كل عواطفها و لا أعرف... إنْ كان الآن يعني لها وليد السابق أمْ أنَّ الأمر قد تخطَّى ذلكَ بمسافات... "
هنا وقفتُ شاعراً بالحرج و الجرح معاً... ألهذا التعلُّق جذورٌ متَّصلة بالماضي؟؟ أرسلني كلام الخالة إلى غياهب الأفكار... لكن... ماذا عنّي أنا؟؟ لا يبدو أنَّ أحداً يكترث لمشاعري أو يقيم لها اعتباراً. يتحدّثون معي عن رغد و كأنها لمْ تكن خطيبتي لسنين و لمْ أكنْ قاب قوسين أو أدنى مِنْ الزواج منها حين فقدتُها فجأة.
" أستأذنكِ للانصراف الآن "
و ذهبتُ إلى شقّتي كئيباً مكسور الخاطر، مشوّش الأفكار. كلام خالتي ما فارقني، و ما استطعتُ لا تقبّله و لا رفضه. كانتْ رغد طفلةً صغيرة فكيف يمكن أنْ تكون قد أحبّتْ وليد هذا النوع مِنْ الحب في ذاك الزمان؟؟ و... ماذا عن وليد؟؟ هل يُعقل أنَّ شيئاً ما... كان بينهما حقاً ؟؟ هل يمكن أنْ يكون وليد... هل يمكن أنْ يكون هو أيضا... ؟؟؟ يا للسخف... !!!
تحاشيتُ التفكير قدر ما أمكنني إلى أنْ اتصلتُ بأخي لاحقاً. في البداية عاتبتُه على إحراجي مع أمّ حسام فلمْ يكترث، ثمَّ نقلتُ إليه تحيّات رغد و أشواقها الشديدة إليه و أنا أدوس على قلبي و أتصرّف كالرجل الآلي تماماً... و دققتُ في كلامه و ردوده جيّداً باحثاً عن أي دليل يؤدي إلى تأكيد أفكاري أو نفيها... غير أنّ أخي كان يتحدّث ببلادة شديدة... لمْ تكشف لي شيئاً...
و أخيراً... داهمتْني رغبة ملحّة في توجيه سؤالٍ مباشرٍ إليه... غير أنّه قال فجأة أنّه يتلقَّى اتصالاً آخر و انتهى المكالمة فوراً. قرّرتُ بعد ذلك مواجهته في الاتصال التالي لتتضح حقائق الأمور...
ولكن... و في اليوم التالي مباشرةً و فيما كنتُ أجلس في شقتي بكسلٍ في عطلتي الأسبوعية رنَّ جرس الباب و إذا بي أُفاجأ بأخي يقف خلفه !!!
اهتزّ قلبي قلقاً و اصفرّ لوني و سألتُ و أنا بالكاد أُخرِج الحروف صحيحةً مِنْ فمي:
" وليد !!!.... مـ... ماذا حصل ؟؟ "
فمدّ وليد يده و ربَّتَ على كتفي و قال و الخشوع و الحزن يكسوان وجهه العريض:
" البقاء لله... توفّيتْ خالتي أم أروى بالأمس... إناّ لله و إنّا إليه راجعون "
انقضتْ فترة العزاء و قد شاركتُ في التعزية مع بقيّة أفراد عائلة خالتي، و عندما جاء دوري و وقفتُ أمام الشقراء لأواسيها لمْ استطع مصافحتها بسبب يدي المصابة و اكتفيتُ بعبارة مخنوقة خرجتْ مِنْ فمي ببطء. و الشقراء بدورها ردّتْ بشكلٍ عابرٍ دون أنْ ترفع نظرها إليَّ. لكن الحزن كان جلياً على وجهها.
السيدة ليندا كانتْ سيّدةً طيّبةً جداً. أحسنتْ معاملتي و سهرتْ إلى جانبي في المستشفى و رعتْني بكل مودّة و لطف... رحمها الله... و غفر خطاياها... متى سيحين أجَلي أنا أيضاً ؟؟... انتظر الموت... ليأخذني كما أخذ أحبابي... و يخرجني مِنْ شقاء الدنايا و ما فيها...
كنتُ أعرف أنَّ وليد موجود في القسم الآخر مِنْ قاعة التعازي... و كنتُ أعرف أنّه أبعد ما يكون عن التفكير بي في هذه الفترة... لكنني كنتُ في شوقٍ منجرفٍ لرؤيته و لو لدقيقةٍ واحدة... و لو لنظرةٍ بعيدةٍ عاجلة... أعانق فيها عينيه و لو لآخر مرّة في حياتي... و لخيبة الأمل و تحالف الأقدار ضدّي، عُدنا إلى المنزل دون أنْ ألتقي به و لا حتّى صدفة.
و مرّتْ الأيام... و نخر الشوق عظامي... و أتلف الحنين ذهني... و لمْ أعد بقادرة على الانتظار يوماً آخر... كيف... و أنا أعرف أنَّ ما يفصلني عنه هي أميال قليلة لا أكثر... ؟؟ و إنْ هو لم يأتِ إليَّ... فسأذهب أنا إليه... فقط لألقي نظرة...
" هل أنتِ مجنونة !؟ "
قالتْ نهلة معترضةً على فكرتي وليدة اللحظة، فقلتُ:
" نعم مجنونة... لكنّي أريد أنْ أراه بأي شكلٍ يا نهلة... ما كدتُ أصدِّق أنّه عاد مِنْ سفره... يجب أنْ أراه... أكاد أختنق... لا أحد يحسّ بي هنا "
" تخيّلي كم سيكون وضعكِ حرِجاً و مدعاة للسخرية عندما تذهبين فجأة إلى المزرعة الآن... هيّا رغد.. تخلّي عن هذه الفكرة السخيفة. توفّيتْ أمُّ زوجته قبل أيّام و أنتِ تفكرين في هذا ؟؟ "
" سألقي عليه التحيّة و أعتذر منه و أعود. حتّى لو لمْ يردْ عليَّ... المهم أنْ تكتحل عيناي برؤيته... و يبرد صدري بتقديم الاعتذار..."
" ماذا سيقول عنكِ يا رغد؟؟ هُو َفي محنةٍ عظيمة و أنتِ تذهبين لتقديم الاعتذار ! سيستحقر موقفكِ... ليس هذا وقته... انتظري أسبوعين على الأقل "
" لا أقوى على الانتظار... ألا تفهمين؟؟ أنتِ لا تشعرين بالنار المضرمة في صدري... "
أشاحتْ نهلة بوجهها عنّي و قالتْ:
" لقد حذّرتكِ... افعلي ما تشائين "
و غادرتْ المكان... خرجتُ بعد ذلك إلى الحديقة... طلباً لبعض الهواء النقي... و التقيتُ بحسام صدفةً و هو مقبلٌ نحو المنزل... فلمعتْ الفكرة في بالي كمصباحٍ قوي أعشى عيني عنْ رؤية ما هو أعمق مِنْ ذلك...
" مرحبا حسام "
حييتُه فر د مبتسماً:
" مرحباً رغد.. ماذا تفعلين هنا ؟؟ تدرّبين رجلكِ على المشي؟؟ "
قلتُ و آمالي تتعلّق به:
" حسام... هل لا أسديتَ لي معروفاً ؟ "
قال و على وجهه الاستغراب:
" بكل سرور ! "
فقلتُ بلهفة:
" أريدكَ أنْ... أنْ تصطحبني في مشوار... "
" إلى أين ؟ "
ازدردتُ ريقي و قلتُ:
" إلى... مزرعة أروى "
سأل متعجّباً:
" مزرعة أروى؟؟ "
" نعم.. أرجوكَ "
ففكّر قليلا ثمَّ سألَ:
" لماذا ؟؟ "
تردّدتُ في الإجابة... عرفتُ أنّني لو قلتُ مِنْ أجل مقابلة وليد فإنّه لن يوافق... فقلتُ:
" سأتفقّد أحوالهم... و أُلقي التحيّة "
و بدا مبرراً معقولاً بعد مضي عدّة أيام على وفاة السيدة ليندا. و سألني إنْ كنتُ قد أعلمتُ خالتي بهذا فأقنعتُه بأنَّ الأمر لا يستدعي... و بعد تردّد قصير وافق على اصطحابي، و خرجنا مباشرة...
حين بلغنا المزرعة لمْ يكن وليد موجوداً و أخبرنا العجوز و الذي كان يجلس كعادته قرب باب المنزل بأنّوليد قد ذهب في مشوار و سيعود قريباً. و دعانا للدخول لكنّنا آثرنا البقاء في الخارج و انتظاره. و ذهب العجوز لاستدعاء الشقراء فعلاني التوتّر... أنا لمْ آتِ مِنْ أجلها كما أنّها لا تنتظر منّي زيارتها... لكنّي وضعتُ نفسي في هذا الموقف و عليّ التصرف الآن...
أبدى حسام إعجابه بالمزرعة و راح يتحدّث عن انبهاره بما يرى غير أنّني لمْ أكنْ مصغية إليه... بل في انتظار لحظة ظهور الشقراء.
و أخيراً ظهرتْ... ملفوفة في السواد الحزين، كما هي حالي... و كأنّ عدوى اليُتم و البؤس قد انتقلتْ منّي إليها... و قد اعتدْتُ في الماضي رؤيتها ملوّنة بشتّى ألوان قوس قزح... مثل سربٍ مِنْ الفراشات أو إكليلٍ مِنْ الزهور...
عندما اقتربتْ زممتُ شفتيّ تردداً ثمَّ ألقيتُ عليها التحيّة و سألتُها عن أحوالها... و أنا متأكّدة مِنْ أنّها تدرك أنّني لمْ أكنْ لأقلق على أحوالها أو أكترث لها... و لا بد أنّها تدرك أنَّ سبب حضوري هو... وليد...
ساعد وجود حسام في تلطيف الجو... و تشتيت الكآبة و صرف أذهاننا إلى الحديث عن المزرعة و شؤونها... ذهبتْ الشقراء لإعداد القهوة فوجدتُها فرصةً للاسترخاء مِنْ عناء الموقف المُصطنع... و بقي حسام و العجوز يتحدّثان أحاديث عاديّة... أمّا أنا فعيناي ظلّتا تراقبان البوّابة إلى أنْ رأيتُ أخيراً سيارةً تقف عندها و منها يخرج مجموعةُ مِنْ الرجال... يقودهم الرجل الطويل العريض... بهي الطلعة قوي القسمات ثاقب النظرات... مُضرِم ناري و حارِق جفوني و سالِب عقلي و شاغل تفكيري... حبيبي الجافي... وليد قلبي...
الأرض لمْ تكن أرضاً و السماء لمْ تكن سماءاً... حين عانقتْ عيناي عينيه... و التحمتْ نظراتي بنظراته... آه... كيف لي أنْ أصف لكم ؟؟
لحظتها خلا الكون مِنْ كل الخلائق... سوانا... لا وجود للأرض و لا السماء... و لا النور و لا الهواء... و لا الجماد و لا الأحياء... فقط... أنا و هو... و عيون أربع متشابكة متلاحمة... ذائبة في بحور بعضها البعض... أيّما ذوبان...
وليد قلبي... آه... كم اشتقتُ إليكَ... لولا إعاقتي... لربّما... ركضتُ إليه بجنون و غطستُ في حضنه الواسع...
اقترب وليد يتقدّم بقيّة الرجال فوقفنا جميعاً... و رأيتُ الدهشة تنبثق في وجهه و هو يحطّ ببصره الهابط مِنْ العُلا عليَّ و على حسام.
بادر حسام بإلقاء التحيّة فردّ وليد دون أنْ يحاول إخفاء عجبه... و دوى صوتُه في كهف أُذني فتطايرتْ خفافيش حسّي تلتقِط و تحتضِن ذبذبات صوته و تخبّئها في أعماق الكهف... ككنزٍ مِنْ الذهب...
بعد التحيات السريعة استأذن وليد و سار مع الرجال إلى قلب المزرعة و لحق العجوز بهم... و لحقتْ بهم عيناي ركضاً... و هوَتا متعثِّرتين لهفةً عند مفترق الطرق...
و بعد قليل عاد وليد فتسابقتا لاحتضانه بسرعة... تكاد الواحدة تفقأ الأخرى... لتنفرد بالحبيب الغائب... و تذوب في أعماق صدره...
وليد كان وجهُه محمراً و يعلوه الاستياء فوق التعجّب... انغمستُ في ترجمة تعبيرات وجهه و طلاسم عينيه... فتهتُ... و ضللتُ طريقي... و فقدتُ لغة لساني... فما استطعت النطق و لا التعبير... وقفتُ أشبه بشجيرة ضئيلة لا جدع لها تمدُّ أغصانها محاوِلةً تسلُّق الشجرة الضخمة الواقفة أمامها... بكل شموخ و إباء...
لاحظ حسام صمتي و توتّري فتولّى الكلام:
" جئنا نلقي التحية و نسأل عن الأخبار "
و لمْ يتحدّث وليد... فقال حسام متظاهراً بالمرح:
" ألن تدعونا للجلوس ؟ "
فتكلّم وليد قائلاً:
" أأنتما بمفردكما ؟ "
فأجاب حسام بعفويّة:
" نعم "
و ازداد الاستياء على وجه وليد... ثمَّ قال:
" منذ متى و أنتما هنا ؟ "
فردَّ حسام مستغرباً:
" منذ دقائق... و لكن... هل يزعجكم حضورنا ؟ "
قال وليد:
" أنا آسِف، لديَّ ما أقوم به الآن... إنّهم في انتظاري "
مشيراً إلى قلب المزرعة.
كل هذا و عيناي ملتحمتان بوجهه منذ أنْ وقعتا عليه أوّل وصوله... لكن... ماذا يا وليد ؟؟ ألنْ تتحدّث معي... و تسأل عن أحوالي...؟؟ إنّكَ حتّى لا تنظر إليَّ... أنا هنا وليد هل تراني؟؟ هل تميّزني؟؟ لماذا كل هذا الجفاء؟؟ أرجوكَ... التفِتْ إليَّ لحظةً... دعْ عينيَّ تخبرانك كم اشتقتُ إليكَ... دعهما تعاتبانكَ على جفائكَ... أو تعتذران لإرضائكَ... وليد... أنّك حتّى... لمْ تُحسِن الترحيب بنا كأي ضيوف...
انتبهتُ على صوت حسام يقول:
" لا بأس... نعتذر على الزيارة المفاجئة... كانتْ فكرة رغد "
و لذكر اسمي... أخيراً تكرّم عليَّ وليد بنظرة... لكنها لمْ تكن أي نظرة... كانتْ حادة و ساخنة جداً لسعتْني و كادتْ تفقدني البصر... حاولتُ التفوّه بكلمة فلم تُسعفني شجاعتي المنهارة بمرأى الحبيب... تأتأتُ ببعض الحروف التي لمْ أسمعها حتَّى أنا...
التفتَ حسام إليَّ و قال:
" هل نذهب ؟ "
نذهب..؟؟ و هل أتينا؟؟ هكذا بهذه السرعة؟؟ أنا لمْ أكد أره... انتظِر... أنا لديَّ عشرات بل آلاف المشاعر لأعبّر عنها... دعني استردُّ أنفاسي... دعْ لساني يسترجع قدرته على النطق... دعني واقفةً قرب وليداستمدُّ دعمه و استشعر حنانه !
قال وليد و هو يشيح بوجهه عنّي:
" سأرافقكما "
فقال حسام معتقداً أنَّ وليد يقصد مرافقتنا إلى السيارة المركونة في الخارج:
" لا تكلِّف نفسكَ... نعرف الطريق... شكراً "
فازداد احمرار وجه وليد و قال:
" أعني إلى المنزل "
فضرَبَنا الاستغراب... و نظرنا أنا و حسام إلى بعضنا البعض !! لماذا يريد وليد مرافقتنا إلى المنزل؟؟ هل هذا يعني أنّه... سيأتي معنا؟؟ هل حقا سيأتي معنا..؟؟
" هيّا فأنا لا أريد التأخّر على ضيوفي "
قال هذا و سار يسبقنا نحو سيارة حسام، و سرنا خلفه كتلميذين مطيعين... و أبلهين... حتّى ركبنا السيارة، و التي بالكاد حشر وليد جسده فيها... و انطلقنا عائدين إلى منزل خالتي.
كنتُ أجلسُ خلف حسام، إذ أنَّ وليد كان قد دفع بمقعده إلى الوراء لأقصى حد ليمدّ رجليه... فسيارة حسامصغيرةٌ جداً...
الصمت خيّم علينا طوال الطريق... الذي انقضى و أنا أحاول تهدئة نبضات قلبي و إعادتها إلى معدّل سرعتها الطبيعي... و لمْ يقطع الصمت غير جملٍ قصيرةٍ عابرةٍ مِنْ لسان حسام... و جملة ("خفِّفْ السرعة") مِنْ لسان وليد... فقاد حسام السيارة بسرعةٍ عاديةٍ على عكس عادته... و طال المشوار... خصوصاً و أنّنا اضطررنا للتوقّف مرّتين عند مركزَي تفتيش بوليسي...
و في كلا المرّتين يطلب رجال الشرطة رخصة القيادة و البطاقات الشخصيّة... و لحسن الحظ أو ربّما لحسن العادة كان وليد يحمل صورة مِنْ بطاقته العائلية و التي تشمل هويّتي... لذلك قال وليد بعدما غادرنا نقطة التفتيش الثانية مخاطباً حسام:
" ماذا لو لمْ أرافقكما؟ "
فقال حسام:
" لمْ نواجه أي نقاط تفتيش في طريق الحضور "
عندما وصلنا إلى المنزل هبط وليد مِنْ السيارة أولاً و تبعناه... قال حسام:
" تفضّل "
داعياً إياه للدخول إلى المنزل مِنْ باب اللياقة... غير أنّ وليد قال:
" شكراً، سأعود إلى ضيوفي "
فقال حسام:
" هل... أوصلكَ ؟ "
فأجاب وليد:
" سأتدبَّر أمري "
ثمَّ فجأة أدار وجهه نحوي و سمعتُه يقول:
" في المرّة القادمة إذا أردتِ الذهاب إلى أيّ مكان فاطلبي ذلكَ مِنْ سامر فقط... مفهوم ؟ "
هل هو يخاطبني؟؟ هل يعنيني أنا؟؟ هل ينظر إليَّ أنا ؟؟
كان حسام يوشك على فتح بوّابة المنزل و لمَّا سمع هذا استدار و نظر إلى وليد و قال مستاءاً:
" و هل تظن أنّني سأختطفها ؟ إنّها ابنة خالتي كما هي ابنة عمّكَ "
و بدا أنَّ الجملة قد استفزّتْ وليد فقال غاضباً:
" أنا لمْ أخاطبكَ أنتَ... هذا أولاً...، أمّا ثانياً فلا تقارن نفسكَ بي... إنّني الوصي هنا و مَنْ يقرّر مع مَنْ أسمح أو لا أسمح لابنة عمّي بركوب السيارة "
شعر حسام بالإهانة فقال حانقاً:
" هكذا..؟؟.. مَنْ تظنُّ نفسكَ ؟ "
فردّ وليد:
" لا أظنُّ نفسي بل أنا على يقين ممّنْ أكون... و إذا سمحتَ... افتح الباب و دعْ الفتاة تدخل عوضاً عن الوقوف في الشارع هكذا "
نظرتُ إليه شاعرةً بالانكسار... وليد... كيف تخاطبني هكذا؟؟ وليد هل نسيتَ مَنْ أكون؟؟ لماذا تغيّرتَ إلى هذه الدرجة ؟؟ دعني أتحدّث...
و أصررتُ على النطق... أريد أنْ أُفهِم وليد لماذا ذهبنا إلى المزرعة و ما مقدار لهفتي إليه... وحاجتي للتحدّث معه...
" وليد... "
نطقتُ باسمه فإذا بهِ يقاطعني مكرّرا بفظاظةٍ أشد و هو يعضُّ على أسنانه و يبثُّ الشرر مِنْ عينيه:
" قلتُ إلى الداخل... هيّا "
انكمشتُ على نفسي... تقلّصتُ حتى أوشكتُ على الاختفاء... مِنْ رد وليد. حسام فتح الباب و قال بصوتٍ خافت:
" ادخلي يا رغد "
فدخلتُ خطوة، و توقّفتُ عند فتحة الباب و انقلبتُ على عقبي و رأيتُ وليد يولي ظهره إلينا و يسير مبتعداً... اقترب حسام و وقف أمامي مباشرةً حائلاً دون رؤية وليد... فتراجعتُ للوراء و دخلنا إلى الداخل... و أغلقَ هو البوابة و سار مبتعداً و بقيتْ عيناي معلقين على البوابة... تنتظران أنْ يعود وليد للظهور... لكنه لمْ يظهر...
" ما الأمر يا رغد ؟ "
سمعتُ حسام يسألني و هو يسير نحو باب المنزل الداخلي و يراني واقفةً عند بوابة السور أحملِق فيها... نظرتُ إليه فرأى تعبيرات الأسى المريرة على وجهي... فأقبل نحوي و أظهر التعاطف قال:
" إنّه... لا يكترِث بكِ يا رغد "
نظرتُ إليه و العبرة تكاد تخنقني... فقال:
" لا أعرف ما الذي يعجبكِ في رجلٍ كهذا؟ إنكِ تضيعين مشاعركِ هباءاً "
صُعِقتُ... أخذتْني الدهشة مِنْ كلام حسام... الذي واصلَ و هو يرى سحنتي تتغيّر:
" أتظنين أنّني لا أعرف أنّكِ تحبينه ؟ أنا أعرف يا رغد "
و تضاعف ذهولي و حملقتُ به غير مصدّقة لِما أسمع. قال حسام:
" سارة لفتتْ انتباهي لهذا ذات مرّة... و الآن تصرفاتكِ كلّها فاضحة... "
مازلتُ أحملق فيه بذهول... عاجزةً عن التعليق. تابع هو:
" لكنني لنْ أقفَ مكتوفَ اليدين يا رغد... سبق و أنْ وافقتِ على الزواج منّي... و هي الآن مسألة وقت... إيّاكِ و التلاعب معي... إيّاكِ... "
و أشار إليَّ بسبّابتهِ مهدّداً... ثمَّ استدار و واصل طريقه داخلاً إلى المنزل...
أمّا وليد فعندما جاء لزيارتي في شقّتي... أخبرني عمّا حصل و وبّخني بشدّة و أثارَ معي شجاراً حامياً...
" لقد كلّفتكَ أنتَ و أعني أنتَ... بأنْ تهتمّ بشؤونها في غيابي... فلماذا تدعُها تخرجُ مع حسام في سيارته مهما كان المشوار؟؟ "
قلتُ مستنكرا:
" يا وليد ! أنتَ تتكلّم عن حسام و كأنّه شخصٌ غريبٌ... إنّه ابن خالتها و مثل أخيها و مثلي و مثلك تماماً و لطالما كان يصطحبُها سابقاً في المشاوير إذا اقتضى الأمر... ليس لها ملجأ غيره و غيرنا و لذلك هي تعتمد عليه... "
غضب أخي كثيراً و قال صارخاً:
" كان ذلك في السابق... في عهد أبي رحمه الله... لكن أنا لا أسمح لها بالخروج معه... و في عهدي أنا يجب عليها أنْ تلتزم بما أقوله أنا "
قلتُ مستاءاً و ساخراً:
" لكنّك لمْ توصِني بألا أسمح لها بالخروج معه... و لمْ تذكر أسماء المسموح لهم في توكيلكَ السامي ذاك "
فاشتطّ أخي غضباً و ضربَ الجدار بيده فجاءتْ ضربته على لوحة معلّقة و أوشكَ أنْ يكسرها... و للعلم فإنّ لشقيقي هذا قبضة فتّاكة جرّبتها أكثر مِنْ مرّة... و لا تزال أمامي تجارب أخرى... كما سترون...
أثار غضبه شيئاً مِنْ الروع في نفسي و إذا به يزمجر:
" أنا لا أمزح هنا يا سامر... أُحَدّثُكَ بمنتهى الجدّية و المسؤولية... فلا تستفزّني... "
فقلتُ مدافعاً:
" و ما أدراني أنا أنَّ هذا سيغضبكَ و إلى هذا الحد ؟ لماذا لمْ تنبّهني مسبقاً ؟ "
" هي تعرف هذا جيداً و سبق و أنْ حذّرتها.. مراراً و تكراراً... لكنّها تضرب بكلامي عرض الحائط... قُلْ لها... أنْ تتوقّف عن عنادها هذا و إلا... ... "
و هو يشير بسبّابته نحوي مهدّدا... فهتفتُ معترضاً:
" و إلا ماذا يا وليد ؟؟ "
و لمْ يردْ و كأنّه لا يجرؤ على النطق بما يدور بخلده مِنْ شدّة فظاعته... فأعدتُ السؤال:
" و إلاّ ماذا بعد ؟ لماذا كل هذه القسوة و الصرامة في معاملتها ؟ "
ردّ أخي بحدّة:
" أعاملها كيفما يحلو لي "
" كلاّ... كلا يا أخي ليس كما يحلو لكَ... أنتَ قاسٍ و فظٌ للغاية... و تصبُّ جام غضبكَ على مَنْ لا ذنب لهم في الإساءة إليكَ... رغد كانتْ مستميتة لأجل لقائِكَ أو التحدُّث معكَ و الاعتذار لكَ على خطأٍ لمْ تقترفه هي مِنْ أجل تطييب خاطركَ، و أنتَ عاملتَها بمنتهى الغلظة و الرعونة... معاملة لا يتحمّلها رجلٌ شديد فكيف بفتاةٍ رقيقة ؟؟ "
هتف وليد بغضب:
" سامر ! "
فقلتُ مسترسلاً:
" نعم يا وليد... أزلْ الغشاوة عنْ عينيكَ... و ميّزْ مع مَنْ تتعامل... إنها فتاةٌ حسّاسة و لا يليق بكَ أنْ تعاملها كهذا "
و عوضاً عنْ أنْ تثير كلماتي الندم و تأنيب الضمير في نفس شقيقي، إذا بي أراه ينظر إليَّ و الشرر يتطاير مِنْ عينيه و يقول:
" و هل ستعلّمني كيف أعامل فتاتي ؟ "
أذهلتْني كلمة وليد هذه و حملقتُ به متفحِّصاً... و قفزتْ كلمات خالتي أم حسام إلى رأسي... قلتُ:
" فتاتك ؟؟ "
و رأيتُ تعبيرات وجه أخي تتغيّر... و كأنّه انتبه للتو للكلمة... فقال محاولاً تغيير أو تصحيح المعنى:
" الفتاة التي تحت وصايتي أنا "
و أضاف ليصرف الانتباه عن الكلمة:
" و ما دامتْ تحت وصايتي أنا فأنا مَنْ يحدِّد و يقرِّر كل شيء يخصُّها... و لا أسمح لأحد بالتدخُّل... فهل هذا واضح ؟؟ "
حيّرني أمر أخي... و لمْ أعرف بم أفسِّر موقفه مِنْ رغد... أهو الحرص عليها أم التسلّط عليها أمْ شيء آخر..؟؟
قلتُ:
" حسناً... إنما أريد أنْ ألفتَ انتباهكَ لما قد يكون غضبكَ قد أغفلكَ عنه... أنتَ لا تدرك حجم المعاناة التي تخلّفها مواقفكَ القاسية في نفسيّتها... إنها مِنْ البشر و ليستْ قطعةً مِنْ الحديد... كل تلك الفترة و هي تحاول الاتصال بكَ لتقدّم لكَ كلمة اعتذار لتُرضيكَ أنتَ بصفتكَ ولي أمرها و في مقام الأب و أكثر لديها... و أنتَ لاهٍ في الخارج لا تكترِث لشيء... و بعد هذا تلومها إنْ هي حضرتْ بحثاً عنكَ في المزرعة؟؟ على الأقل... استمِعْ لما تودّ قوله ثمَّ افعلْ ما تشاء... أي قلبٍ تملكُ أنتَ ؟ "
فجأة أمسكَ وليد بقميصي و أخذ يهزّني بقوّة و يهتف:
" أنا لا أملك قلباً... أنتم قتلتموه... إنّكم السبب... كلُّكم السبب..."
و دفع بي إلى الجدار... ثمَّ جعل يصرخ في وجهي مهدِّداً:
" إياكَ... ثمَّ إياكَ... ثمَّ إياكَ يا سامر... و السماح لهذا بالتكرُّر... هل فهمتَ ؟ "
و أبعد يده عني ثمَّ سار مغادراً الشقة... مخلّفاً بصمات جُمَلِه الأخيرة مطبوعةً على طبلتَي أذنيّ...
في اليوم التالي حضر سامر لزيارتي و أخبرني عن زيارة وليد له البارحة و عن شجاره معه بسبب خروجي مع حسام و بيّنَ لي مدى الغضب الذي اكتسحه و التهديد الذي رماه به، و طلبَ منّي:
" لا تكرّري ذلك ثانية... إذ أنَّ وليد لا يولي حسام ثقةً كبيرةً، أو لِنقُلْ أنّه مستاءٌ مِنْه بسبب الشجار العائلي... "
و أنا أعرف بحقيقة الأمر وقلتُ تلقائياً:
" إنّه لا يطيقه منذ زمن "
فظهر التعجّب على سامر و سأل:
" أحقاً ؟؟ لكن لماذا ؟ "
فانتبهتُ إلى أنّني تسرّعتُ في جملتي السابقة... و حاولتُ تدارك الأمر فقلتُ:
" لأنه... لأنه نعته بألفاظٍ سيِّئة... ذكرتُ لكَ ذلك..."
و طبعاً لمْ أكنْ لأشير إلى موضوع عرض حسام الزواج منّي و رفْضِ وليد له و الشحنات التي نشأتْ بينهما منذ شهور لهذا السبب...
شيٌ مِنْ الغموض اكتسى وجه سامر و سألني:
" أهناك ما لا أعرفه يا رغد ؟؟ "
فقلتُ متظاهرة بالاستغراب:
" عن ماذا ؟؟ "
" عن حسام... عن وليد... أو عنكِ ؟؟ "
فقلتُ مستمرّة في تظاهري:
" لمْ أفهم قصدكَ ! "
" لأنّ وليد كان غاضباً بمقدار فوق المعقول... لسببٍ تافه "
فقلتُ مؤكّدة:
" كما قلتُ. حسام شتم وليد و عيّره بأنّه خرِّيج سجون و أهانه بقسوة و لهذا... وليد لا يطيقه "
و أقنع كلامي هذا سامر و أثناه عن محاولة التعمّق أكثر...
قال أخيراً:
" على أية حال يا رغد... إذا أردتِ أي شيء فاطلبيه منِّي أنا فقط "
فنظرتُ إليه و في عينيّ مزيج مِنْ الامتنان، و الأسى، و الندم... و قلتُ:
" شكراً... و لا أظنّني سأحتاج شيئاً بعد الآن... "
و طأطأتُ رأسي بأسىً...فبعد وليد... لا شيء يستحق الاهتمام. حين أحسَّ سامر المرارة في نبرة صوتي حدّثني بلطفٍ بالغٍ و قال:
" لا تأخذي الموقف بهذه الحساسية... تُوفِّيتْ والدة زوجته قبل أيّام... هذا سببٌ أكبر مِنْ كافٍ لتبدّل أوضاعه... ستمرُّ الأزمة و يعود كما عهدتِه "
لا تحاول مواساتي يا سامر... ما بي أبلغ مِنْ حدَّ المواساة... قلتُ:
" حتّى لو لمْ يرغب في إعادتي لرعايته كما في السابق، حتّى و إنْ اختار الاقتصار على الشقراء... حتّى و إنْ سافر بدوني إلى كوكبٍ آخر... المهم أنْ يصفح عنِّي... و يسمح لي بالاتصال به و رؤيته مِنْ حينٍ لآخر..."
وجّهتُ نظرةً شديدة الرجاء إلى سامر و طلبتُ:
" أرجوكَ... بلِّغه هذا... قلْ له أنّني سألتزم بكل ما يريد... فقط... ليصفح عنّي... "
حدثتْ مجموعة مِنْ أعمال الشغب في المدينة الصناعية و اضطرب الأمن فيها. و هي منذ شهدتْ مأساة القصف في عيد الحج الماضي لمْ تزلْ عُرضةً لحوادث صغيرةٍ متفرّقة تُفقِد أهاليها الأمان للعيش فيها. الكثير مِنْ سكّانها هجروها و اتّخذتْ جماعات مِنْ المتمرّدين المنازل المهجورة بُؤراً لإدارة عمليّات الشغب. و مؤخّرا حُظِر التجوُّل في الشوارع بعد منتصف الليل و تكثّفتْ دوريّات الشرطة و تضاعف عدد نقاط التفتيش و المراقبة.
كنتُ قد مررتُ أثناء سفري بإحدى مُدُن المنطقة... و رأيتُ حالة التخريب الفظيعة التي ألمّتْ بها مؤخّراً بعد أعمال شغبٍ مصحوبة بهجوم ٍ عدائي تعرّضتْ لها... و أوضاع البلد بشكلٍ عام آخِذة في التدهور السريع...
و الآن... أنا جالسٌ في غرفة المعيشة في المنزل الريفي في المزرعة أُتابعُ الأخبار على التلفاز و أُشاهد مناظر بشعةً لجثث قتلى مِنْ المتمرّدين الذين تمّتْ مداهمتهم و إبادتهم. و لقطاتٍ أخرى لمجموعةٍ مِنْ أعضاء منظَّمة سريّة نفّذتْ عمليّة اغتيال لأحد كبار المسؤولين، و تمَّ القبض على بعض أعضائها و هاهم يُقادون بإذلالٍ إلى مأواهم الأخير... السجن...
مناظر تُثير الرهبة في قلبي... خصوصاً بعد تجربتي المريرة خلف القضبان... لا زال جسدي يقشعرُّ منها و قلبي يضطربُ... و معدتي تشتعلُ ناراً على ذكراها...
شربتُ آخر رشفةٍ مِنْ الحليب البارد الذي أدمنتُ على شربه في الآونة الأخيرة كلَّما اشتدّ ألم معدتي، و ابتلعتُ معها القرص المخفِّف للحموضة الذي صار عنصراً رئيسياً مِنْ عناصر وجباتي اليوميّة، و تنفستُ باسترخاء...
خضعتُ مؤخَّرا لعلاجٍ جديد لقرحة معدتي و لكنه لمْ ينجح... و أوجاعها تراودني مِنْ حينٍ لآخر و تقضُّ عليَّ مضجعي...
فيما أنا مغمضٌ عينيّ باسترخاء... سمعتُ صوتاً يقتربُ مِنْ الباب... ففتحتُ عينيّ و التفتُّ إلى مصدره فإذا بي أرى أروى تدخل الغرفة...
أنا و هي لمْ نجتمع اجتماعاً خاصاً و لمْ نتحدَّث إلا أحاديث عاديّة خلال الأيام الماضية، التي تلتْ رحيل الخالة ليندا رحمها الله. و رائحة الكآبة و الحداد كانتْ تفوح و تنتشر بشكلٍ خانق في المزرعة و في المنزل، و قد غابتْ سيّدته بلا عودةٍ تُرجى...
و كان لقائي السابق معها قبل السفر هو أبشع اللقاءات و أفظعها...
قالتْ أروى:
" ماذا تشاهد ؟ "
فقلتُ:
" نشرة الأخبار... "
و استرسلتُ:
" الوضع يزداد اضطراباً في المدينة الصناعيّة "
و جلستْ أروى على أحد المقاعد المجاورة تتابعُ الأنباء معي... خيّم السكون علينا و أصغينا إلى النشرة باهتمام... على الأقل بالنسبة لي. و بعد انتهائها، تركتُ التلفاز مشغلاً و قمتُ بقصد الخروج. عندما اقتربتُ مِنْ الباب اختفى صوت التلفاز فألقيتُ نظرةً للوراء و رأيتُ أروى و قد أوقفتْه ثمَّ سارتْ باتجاهي...
" وليد "
نادتْني... فاستدرتُ إليها كلياً... شعرتُ بأنها ترغب في التحدّث معي و بدا أنَّ قواها تخونها... الحديث عن أي شيءٍ لنْ يكون لائقاً الآن و قبر الخالة رحمها الله لمْ يجف ماؤه بعد. صمِتُّ منتظراً ما ستقول، و لمّا طال تردُّدها قلتُ:
" خيراً إنْ شاء الله ؟ "
و إذا بالدموع تقفز مِنْ مقلتيها، فتنكِّس رأسها و تخفيه خلف يدها. شعرتُ بالأسى عليها فاقتربتُ منها و مددتُ يدي و ربَّتُ على كتفها بحنان... و ما كان منها إلا أنْ أسندتْ رأسها إلى صدري و بكتْ بحرقة...
قلتُ مواسياً:
" تشجّعي يا أروى... كلّنا للموت و البقاء لله الواحد الأحد "
فقالتْ بانهيار:
" لا أتخيَّل حياتي بدونها... إنّني السبب في موتها... أنا السبب "
و كانتْ الخالة قد توفّيتْ بعد عمليّة جراحيّة أُجريتْ لها في القلب، إثر تعرُّضها لنوبة شديدة.
" كيف تقولين هذا ؟ "
" نعم... فهي مرضتْ بعد أنْ... أخبرتُها عن قرار انفصالنا... لو لمْ أخبرْها بذلك... ما ماتتْ "
عضضتُ على أسناني متأثِّراً بهذا الكلام، ثمَّ قلتُ:
" الموت بيد الله وحده... و لكلٍ أجله المقدَّر... لندعوا لها بالرحمة و المغفرة "
قالتْ أروى:
" رحمكِ الله يا أمِّي... كنتِ نِعْمَ الأمهات و خير النساء... عشتِ حياةً مريرةً وحيدةً بعد سجن أبي... و رحيله... شقيتِ في هذه الدنيا و عملتِ دون راحة أعمالاً مُنهِكة يعجز عنها الرجال... و حين ابتسمتْ لنا الدنيا... حين تحسّنتْ أوضاعنا... آه يا أمي... أبعدتكِ الأقدار قبل أنْ تهنئي... ما كان أسرع رحيلكِ يا أمَّاه... "
نحيبها الشجي هيَّج في ذاكرتي ذكرى والدتي رحمها الله. إنّه ما مِنْ مُصاب أفجع على قلب البشر مِنْ فقْد الأحبّة.. على الأقل... أنتِ عشتِ مع والدتكِ و لازمتِها منذ ولادتكِ و حتّى آخر لحظة في حياتها. أمّا أنا... فقد حُرِمتُ مِنْ والديَّ الحبيبين تسع سنين و أنا محبوسٌ في أبشع مكانٍ رأيتُه على الإطلاق، محروم منهما بينما هما حيّان يُرزقان... و ما إنْ خرجتُ إليهما... حتّى داهمهما الموت و أخذهما معاً... و بأشنع طريقة...
لا حول و لا قوّة إلاّ بالله...
و فيما نحن هكذا أقبل العم إلياس... ألقى علينا نظرةً ثمَّ قالَ مخاطباً إيّاي:
" حضر الضيوف يا بُني "
فقلتُ:
" حسناً. أنا قادم "
و هم مجموعةٌ مِنْ تجّار الفواكه كنتُ سأعقد معهم اتّفاق عمل. انصرف العمّ إلياس... فالتفتُّ إلى أروى و قلتُ:
" يريدون شراء محصول العنب و الليمون بالكامل... سنتخلَّص مِنْ عناء بيعه في الأسواق، و قد عرضوا سعراً جيداً.. ما رأيكِ؟ "
نظرتْ أروى إليَّ نظرة لا مبالاة ثمَّ قالتْ:
" افعلوا ما تشاءون "
قلتُ:
"سنكتب وثيقةً رسميّةً و سنحتاج لتوقيعكِ بصفتكِ مالكة المزرعة... سأجلب لكِ العَقْد لمراجعته و توقيعه"
" أرجوكَ... أعفِني مِنْ هذه الأمور فأنا لستُ في وضعٍ يسمح بالتفكير في أي شيء "
و أنا أعلم بهذا و لكن...
" لكن... العمل يجب أنْ يستمر... إنْ أهملنا المحصول فسنخسره "
" افعلوا ما ترونه مناسباً "
و كان هناك في خاطري شيءٌ أودُّ ذكره و أعاقَ الظرفُ الحالي لساني... لكنّني هذه اللحظة وجدتُها فرصةً ملائمة قليلاً فقلتُ:
" و... كذلك بالنسبة للمصنع... هناك أمورٌ معلَّقةٌ في انتظاري... "
نظرتْ أروى إليّ نظرةً جادّةً... فقلتُ متابعاً:
" عليَّ العودة إلى المصنع عاجلاً... لا يجب تركه أطول مِنْ هذهِ المدّة "
فقالتْ و هي تضغط على صدغيها بأصابع يدها اليسرى:
" افعل ما تريد... أنا باقيةٌ مع ذكرى أمِّي و رائحتها العابقة في جو المنزل... "
عندما نقلتُ نبأ وفاة نديم رحمه الله إلى عائلته في العام الماضي، أتذكّر أنَّ أروى أبدتْ صموداً غريباً في وجه الخبر المُفجِع... أمّا الآن... فهي منهارةٌ لوفاة والدتها...
لطالما كنتُ أظنُّها أكثر صلابةً في مواجهة المصائب... و أرى فيها قوّةً و قدرةً كبيرةً على التحمُّل... و وضعها هذا جعلني أرجئ إلى أجلٍ غير مسمَّى موضوعنا السابق... بشأن مستقبل علاقتنا معاً...
فلأترك عنّي همّ أروى... و همَّ رغد... و أتفرَّغ لهمِّ العمل، فهو أرأف بي منهما...
و بعد لقائي بتجّار الفواكه و فيما كنتُ واقفاً في المزرعة أرتّب الوثائق فوجئتُ بضيفٍ غير متوقَّع يدخل المزرعة !
لقد كان حسام...
حيّاني فنظرتُ إلى ما حوله، لاستوثق مِنْ عدم حضور رغد برفقته... لكنّه كان منفرداً... فرددتُ التحيّة و كلِّي حيرة عن سبب حضوره... ثمَّ قُدتُه إلى المقاعد المجاورة و جلسنا متواجهين... تفصلنا طاولةٌ صغيرة... فأمكنَه قراءة تساؤلاتي مباشرةً...
قال موضّحاً:
" أعرف أنّكَ لمْ تتوقّع زيارتي... لكنّني أودُّ التحدُّث معكَ في أمرٍ مهمٍ و إنْ لمْ يكنْ الظرف الحالي مناسباً "
أقلقني كلامه فسألتُ باهتمام:
" ماذا هناك ؟؟ "
فتتأتأ قليلاً... ثمَّ أجاب:
" إنّه... ليس موضوعاً جديداً... و لكن... أودّ تذكيركَ به و تعجيل تنفيذه "
و بسرعة تفتّح في رأسي موضوع أظنُّ أنّه يقصده. قلتُ:
" هاتِ مِنْ الوسط و لا داع للمقدّمات... أي موضوع تعني ؟؟ "
اضطربَ حسام و تغيّر لونه... ثمَّ قال:
" مـو... موضوعي أنا و رغد "
كبحتُ جمح نفسي لئلاَّ أنفجر فجأةً في وجه الضيف في هذه اللحظة و هذا المكان... ثمَّ قلتُ متظاهراً بعدم الفهم:
" موضوعكَ أنتَ و رغد ؟؟ "
نظر إليَّ حسام و قال و هو يزدرد ريقه:
" أعني موضوع... زواجنا "
احتقنتْ الدماء في وجهي و تورّمتْ عيناي غضباً... و بالتأكيد لاحظَ حسام ذلكَ لأنَّ بعض الخوف اعترى تقاسيم وجهه...
قلتُ و أنا أضغطُ على نفسي كيْ لا أثور بركاناً:
" أي زواج ؟؟ "
تردّد ثمَّ قال:
" هل نسيتَ ؟؟ لقد... سبقَ و أنْ عرضنا الأمر عليكَ... أنتَ تعرف أنني... أنني أرغبُ في الزواج مِنْ رغد "
لمْ أستطع تمالك نفسي أكثر... هببتُ واقِفاً باندفاعٍ كان مِنْ القوّة بحيث جعل الكرسي ينقلب مِنْ خلفي و يرتطم بالأرض...
وقف حسام بدوره واجلاً. قلتُ:
" هل فقدتَ صوابكَ ؟ ألا ترى في أي ظروفٍ نحن ؟؟ "
قال حسام معتذراً و مدافعاً:
" لا أقصد هذا أبداً... لسنا نريد ارتباطاً شكلياً علنياً... كل ما نريده هو عقد قران شرعي حتَّى... "
صرختُ غاضبا مقاطعاً:
" حتّى ماذا ؟؟ "
ألجم لسان حسام فكرّرتُ بعصبية:
" حتّى ماذا... أكمِل ؟؟ "
قال باضطراب:
" حتّى نستقر... أنا و رغد... بما أنّها تُقيم عندنا و بما أنها موافقة على الزواج منِّي... "
ضربتُ على الطاولة بعصبيّة و قلتُ:
" و مَنْ قال أنّها موافقةٌ على هذا ؟؟ "
أجاب:
" هي... أعربتْ عن قبولها منذ زمن "
نفثتُ ما في صدري مِنْ نيرانٍ ملتهبة... و ضربتُ الطاولة بقوّةٍ أكبر و قلتُ:
" و مَنْ قال لكَ... أنَّ الأمرَ متوقِّفٌ على قبولها هي ؟؟ "
قال حسام متراجعاً:
" بالطبع أعني بعد موافقتكَ أنتَ... فأنتَ وليُّ أمرها "
فقلتُ بغضب:
" نعم... أنا وليُّ أمرها... و أنا لا أوافق على هذا "
صمتَ حسام برهةً و سأل بعدها:
" لماذا ؟؟ "
فزمجرتُ:
" لا تسأل لماذا... أنا الوصيُّ و أفعل ما أريد "
تغيَّرتْ سحنة حسام مِنْ الرجاء إلى النقمة و قال مهاجماً:
" لكن... هذا لا يعطيكَ الحقَّ في التحكُّم برغد... ما دامتْ موافقة "
استفزّتْني الجملة فصرخت ُ مُنذِراً:
" حسام !! "
و حسام أطلق العنان لثورته و قال:
" أي نوعٍ مِنْ الأوصياء أنتَ ؟؟ و لماذا هذا العناد ؟ "
صرختُ مجدداً:
" حســـام... يكفي... "
لكنّه تابعَ بعصبيّة:
" أخبرني ما هي حُجَجُكَ ؟ إذا كان بشأن الدراسة فنحنُ لنْ نتزوّج الآن و إنّما بعد التخرُّج و لكنني أريد أنْ ارتبط بها رسمياً و أريح مشاعري و قلبي "
انفجرتُ... ثرتُ... انقضضتُ على كتفيه فجأة و صرختُ بقسوة:
" أي مشاعر وأي قلب أيها الــ... "
حسامحاول إبعاد يدي عنه و هو يقول:
" إنني أحبُّها و لنْ أسمحَ لكَ بالوقوف في طريقي "
و بانفلاتٍ تام... سدَّدتُ لكمةً إلى وجهه ثمَّ دفعتُ به بعيداً... و أنا أصرخ:
أوشكتُ أنْ أنفلتُ أكثر و أنقض عليه و أوسعه ضرباً... غير أنَّ العم إلياس ظهر فجأةً و رأى الاضطراب الحاصل بيننا فتساءل:
" ما الأمر ؟؟ "
حسامسار إلى الخلف مبتعداً و هو يقول:
" لا ترحمُ و لا تدعُ الرحمةَ تهبط مِنْ السماء؟؟... لكنني لنْ أسمحَ لكَ بالتحكُّم بهذا و إنْ لزم الأمر سألجأ للقضاء و أخلِّصها مِنْ سطوتكَ نهائياً... أسمعتَ ؟ "
صرختُ مهدداً:
" أُغربْ عنْ وجهي هذه الساعة قبل أنْ تندم... انصرِف فوراً... "
" سأذهب... لكن سترى ما سأفعل... سنتزوّج رغماً عنْ أنفكَ و قبضتكَ و جبروتكَ..."
هممتُ بالإمساك به فأقبل العمّ إلياس و حال دون ذلك. و احتراماً للرجل العجوز و للمكان الذي نحن فيه... تركتُه يفلتْ مِنْ قبضتي لكنني هددتُه:
" ابتعد عنها نهائياً... نهائياً... ماذا و إلا... فأقسِم بربِّ السماء... أنني سأمحيكَ مِنْ على هذا الكوكب... و قبل أنْ تصلَ إلى ما تصبو إليه نفسُك... سيتعيَّن عليكَ أنْ تدوس على قبري أولاً... ما مِنْ قوَّةٍ في الأرض ستجبرني على تحقيق هدفكَ... مطلقاً... أيّها المراهق الأبله "
و بعد أنْ غادر حسام سألني العمّ عمَّا حصل فاعتذرتُ عن الإجابة و خرجتُ مِنْ المزرعة غاضباً أبحث عنْ شيءٍ أنفث فيه غضبي بعيداً عن الأنظار...