هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شراع الصداقة
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد!يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى
بكل عباراتـ التهانيـ... بكل الحب
والامانيـ...بكل احساس ووجدانيـ...كل عام وانتمـ بخيرالثلج هدية الشتاء ... والشمس هدية الصيف .... والزهور هدية الربيع .. وأنت يا منتدانا هدية العمر
ارتسمتْ الدهشة على وجهي حين أخبرتْني نهلة بأنَّ حسام ذهب شخصياً إلى وليد عصراً و فتح موضوع زواجنا أمامه، و أنّ وليد رفضَ الموضوع و لكَم َحسام بعنفٍ على وجهه.
قالتْ:
" هذا ما أخبرني به... و هناك كدمةٌ مريعةٌعلى وجهه و تورّمٌ فظيع ! "
قلتُ:
" يا إلهي! ما الذي دفعه لهذا الجنون ؟ يذهب إليه بنفسه و بمفرده و في هذه الفترة ؟؟ هل فقد صوابه؟؟ "
قالتْ نهلة:
" يحبّكِ يا رغد و لا يطيق صبراً... و أراد اغتنام فرصة تواجد ابن عمِّكِ في المنطقة. لو لمْ يكنْ سامرخطيبكِ السابق لكان طلب يدكِ منه! و الآن وصيّكِ الرسمي يهدِّده بألا يعود لطرح الأمر ثانيةً و إلا محاه مِنْ الوجود... تهديد صريح بالقتل و أمام أحد الشهود ! "
قلتُ حانقةً و مهاجمة:
" إلامَ تشيرين؟؟ "
" أنتِ أدرى "
فازداد غضبي وخاطبتُها بحدّة:
" لا أسمح لكِ... ابن عمِّي ليس سفَّاحاً... و إذا كان قد ارتكب جريمةً في السابق فإنّه... "
و انتبهتُ لكلامي و أخرستُ فمي، فقالتْ نهلة متحدّية:
" فإنّه ماذا ؟؟ "
و لمْ أملك إجابة، فنظرتْ إليّ نهلة بجديّة و قالتْ:
" فإنّه قد يفعلها ثانيةً "
زمجرتُ:
" توقفي... أنتِ لا تعرفين شيئاً... كلّكم ظالمون... اتركوا وليد و شأنه و إياكم و إهانته ثانيةً... أنتم تهينونني أنا و تجرحونني أنا... ألا تحسُّون بذلك ؟؟ "
و تراجعتْ نهلة عن موقفها لمّا رأتْ عصبيّتي... و قالتْ:
" حسناً يا رغد، لا تنفعلي "
" كيف لا أنفعل و أنتم كلَّما جيء بذكر وليد نعتُّموه بألفاظٍ قاسية ؟ رأفةً به و بي... هذا كثير... كثير... "
و فيما أنا في غمرة انفعالي طُرِق الباب و دخلتْ سارة تقول مخاطبة إياي:
" ابن عمّكِ هنا و يريدكِ "
قفزتُ واقفةً و قفز قلبي معي... و دارتْ بي الأفكار و أرسلتْني إلى البعيد... فقلتُ بهلعٍ:
" وليد ؟؟ "
فردّتْ سارة و هي تحرّك رأسها حركةً طفولية:
" لا ! بل سامر "
و سُرعان ما أُصِبتُ بخيبة الأمل... إلى أين ذهبتْ أفكاركِ يا رغد ؟؟ يا لكِ مِنْ مسكينة واهمة ! طبعاً سيكون سامر... ألا زلتِ تعتقدين بأنَّ وليدسيعود إليكِ ذات يوم...؟؟ كان الوقتُ ليلاً... و ليس مِنْ عادة سامر زيارتي في الليل و دون سابق موعد... إلا لأمورٍ طارئةٍ أو ضرورية... ارتديتُ حجابي و عباءتي و ذهبتُ لملاقاته في غرفة المجلس كالعادة. و هناك و مِنْ أوّل نظرةٍ ألقيتُها عليه لاحظتُ أنَّ هناك ما يقلقه... و عرفتُ أنّ للزيارة سبباً قاهراً...
بعد التحيّة و السؤال عن الأحوال... سألتُه:
" ماذا هناك ؟؟ "
و فاجأني عندما قال:
" وليد يريد أنْ ترافقيني الآن إلى الشقة... إنّه هناك و ينتظرنا..."
هل سمعتم ؟؟ يقول... أنَّ وليد يريد مقابلتي... هل هذا ما قاله ؟؟ هل هذا ما يُفهم مِنْ كلامه؟؟ تسمّرتُ في مكاني مأخوذةً بالمفاجأة و نظرتُ مِنْ حولي أتأكَّد مِنْ أنَّني لا أتخيّل ! وليديريد مقابلتي... أخيراً ؟؟
قطع عليَّ حبلَ شرودي صوتُ سامر و هو يقول بنبرة قلقة:
" لا يبدو بمزاج ٍ جيِّد... لا أعرف ما الطارئ الذي يشغل باله لكنَّه طلب أنْ آخذكِ إلى الشقّة في هذا الوقت... "
عرفتُ... لقد فهِمتُ... موضوع حسام... لا محالة... لمْ أُحرّك ساكِناً... مِنْ شدَّة القلق... إلى أنْ قال سامر يحثُّني على الاستعجال:
" هيّا يا رغد فالوقتُ ليس مِنْ صالحنا... "
وصلنا إلى الشقّة أخيراً... و مع وصولنا وصلتْ ضربات قلبي إلى أقصى سرعة... و بدأتُ أُحِسُّ بالنبضات في شرايين عنقي. و فيما سامر يستخرج مفتاح الشقّة عند الباب حدّثني بصوتٍ خافتٍ قائلاً:
" أنبِّهكِ يا رغد... يبدو أنَّ شياطين رأسه تسيطر عليه... "
أرعبتْني جملته فبلعتُ ريقي و قلتُ:
" هل... هو غاضبٌ جداً ؟؟ "
فأجاب و هو يُخفِض صوته:
" يشتعل بركاناً... حاولتُ أنْ أعرف ما القصّة فلمْ يخبرني و رفضتُ إحضاركِ فهدَّدني بأنّه إنْ ذهبَ بنفسه إلى منزل خالتكِ فسوف يحرقه بمَنْ فيه. لا استبعد هذا... فوجهه ينذر بالشر... "
وضعتُ يدي اليسرى على عنقي فزعاً... و رددتُ رأسي للوراء... فقال سامر محاولاً بعد كل هذا طمأنتي:
" سأكون معكِ... "
و فتح الباب... لملمتُ شظايا قوّتي و ذكرتُ اسم الله... و دخلتُ الشقة.
في الداخل وقعتْ عيناي مباشرةً على العينين الملتهبتين... القادِحتين بالشرر... اللتين لمْ أحظَ برؤيتهما منذ أيّام... و لمْ أحظَ برعايتهما... منذ أسابيع... كان وجهه كتلةً مِنْ الحمم البركانية المتوهِّجة... عابس التعبيرات... قاطب الحاجبين أحمر العينين... تلك الحمرة النارية التي تكسو وجه وليد و عينيه عندما يشتطُّ غضباً... و كان يتنفَّس عبر فمه... و تكاد ألهبة مِنْ النار المتأجِّجة تخرج مع زفيره... و كان يقف وسط الشقة و على أهبّة الهجوم...
يا لطيف...!
أردتُ أنْ أبدأ بالتحيّة... غير أنّه لمْ يكن لها مجالٌ هنا... مع وجهٍ مرعبٍ يقدح شرراً... و عندما أغلقَسامر الباب خلفه تكلّم وليد فجأةً:
" مِنْ فضلكَ يا سامر ابقَ في الخارج قليلاً "
تبادلتُ النظر مع سامر... الذي رأى اضطرابي و قرأ توسّلاتي... فقال:
" هل الموضوع سرِّيٌ لهذا الحد ؟؟ "
فقال وليد بصبرٍ نافذ:
" رجاءاً ابقَ في الخارج إلى أنْ أستدعيكَ... "
فنظر إليَّ سامر و قال:
" سأدخل غرفة النوم "
فزمجرَ وليد بحدّة:
" قلتُ في الخارج... لو سمحتَ "
فلمْ يتحرّك سامر بل أصرَّ:
" لنْ أخرجَ يا وليد "
هنا هتف وليد بغضب:
" سامر... رجاءاً أُخرج الآن و لا تضيِّع الوقت... "
قال سامر:
" يبدو عليكَ الغضب الشديد... لماذا لا تسترخي أولاً ؟؟ "
صرخَ وليد:
" أنا لستُ غاضباً... "
واضح جداً ! ماذا تريد أكثر مَنْ هذا !!؟؟ قال سامر:
" لكن يا أخي... "
فقاطعه وليد بفظاظة:
" انصرِف يا سامر أرجوكَ و لا تُغضِبني بالفعل..."
و لمْ يملك سامر مِنْ الأمر شيئاً... فنظر إليَّ نظرةَ عطف و إشفاق... ثمَّ فتح باب الشقَّة... و قال محذِّراً:
" إيّاكَ أنْ تقسوَ عليها... "
و ألقى عليّ نظرة أخيرة و خرج... بقينا أنا و المذنّب المتوهّج وليد بمفردنا في الشقّة.. هو ينفث الأنفاس الغاضبة الحارقة.. و أنا أرتجف هلعاً... و بعد أنْ التهم عدّة أنفاس... قال أخيراً:
" اجلسي يا رغد "
رفعتُ بصري إليه و لمْ أتحرّك. كنتُ مضطربةً و قلبي تركض نبضاته بسرعة... و لا أقوى على السير مِنْ فرط توتّري... و لمّا رآني متصلِّبة في مكاني قال بصوتٍ حاد:
" اجلسي يا رغد هيا "
فزعتُ و ارتددتُ للوراء... و حين لاحظ ذلك قال:
" ما بكِ تنظرين إليَّ بهذا الذعر؟؟ هل أبدو كالغول المفترس؟؟ أم هل تظنّين أنّني سألكمكِ أنتِ أيضاً؟ "
خفتُ... و أومأتُ رأسي بـ (لا)... فأشار إلى المقعد... فسرتُ مذعنة... أعرِجُ في خطواتي... إلى أنْ جلستُ على طرف المقعد... و وضعتُ حقيبتي إلى جانبي...
وليدكان مُرعباً لحدٍ كبير... و كنتُ أسمع صوت الهواء يصطدم بفمه كالإعصار... و كلَّما أطلق نفَساً قوياً جذب نفساً أقوى... حتَّى أوشكَ الهواء على النفاذ مِنْ الشقَّة...
فجأة اقترب خطوةً منِّي فأرجعتُ ظهري إلى الوراء تلقائياً... خشيةَ أنْ تحرقني أنفاسه أو تلسعني نظراته... توقّف وليد على بعد خطوتين منِّي ثمَّ قال:
" أظنّكِ تعرفين لِمَ أنتِ هنا "
رفعتُ رأسي إليه و أومأتُ بـ (لا)... فهتف بسرعة:
" بل تعرفين "
أفزعني صوته... فغيَّرتُ موقفي و أومأتُ رأسي بـ (نعم)... و أنا متوقِّعة أنْ يكون الموضوع هو موضوعحسام. قال:
" تعرفين أنَّ ابن خالتكِ العزيزة... قد أتى إليَّ خصِّيصاً هذا اليوم ليطلب موافقتي على خطبتكما "
تصاعدتْ دفعةٌ كبيرةٌ مِنْ الدماء إلى وجهي... و هويتُ بأنظاري نحو الأرض حرجاً... وَ لمْ أقلْ شيئاً... فتابع هو:
" أتى بمفرده و بكل شجاعة... بل بكل وقاحة... بعد الإهانات الفظيعة التي رموني بها في منزلهم... و بدون اعتبار للظروف المُفجِعة التي نمرُّ بها في المزرعة... بلا احترام لي و لا لعائلتي... أتى إليَّ طالباً تحويل مشروع زواجكما المزعوم إلى واقع... بكل بساطة "
و أيضاً لم أقلْ شيئاً... بل لمْ أجرؤ حتّى على التنفس. قال:
" و حجّته... أنّكما متّفقان على الارتباط... و منذ زمن.. و أنّه يريد أنْ يريح مشاعره و قلبه ! "
فطأطأتُ برأسي نحو الأسفل أكثر فأكثر... أكاد أكسر عنقي مِنْ حدّة الطأطأة... و أفجّر عروق وجهي مِنْ غزارة الدماء المتدفّقة فيها...
فتابع وليد:
" و ربِّما مشاعركِ و قلبكِ أنتِ أيضاً "
ذُهِلتُ، فرفعتُ بصري إليه بطرفة عينٍ، ثمَّ غضضتُه ثانيةً، في حرجٍ بالغ... و لمْ أرفعه إلى أنْ سمعتُ صوت اصطفاق كفَّي وليد ببعضهما البعض... نظرتُ إليه فشاهدتُ حشداً مِنْ ألسنة النار تغادر عينيه هاجمةً عليَّ...
" ما هو رأيكِ ؟ "
و لمْ أتكلّم فردّد السؤال بغلظة:
" ما هو رأيكِ ؟ أجيبيني ؟؟ "
فأطلقتُ لساني بتلعثم:
" في ماذا ؟ "
فقال بعصبيّة:
" في هذا الأمر قطعاً "
فلمْ أُجبْه لكنّني حملقتُ فيه... فاقترب منِّي أكثر و سأل بعصبيّةٍ و جفافٍ بالغين:
" لا تحملقي بي هكذا بلْ أخبريني ما هو رأيكِ الآن يا رغد ؟؟ تكلَّمي "
فقلتُ مفزوعةً مِنْ صوته:
" لا أعرف "
" لا تعرفين؟؟ كيف لا تعرفين؟؟ أخبريني ما هو رأيكِ الصريح ؟ "
أجبتُ في خوف:
" كما ترى أنتَ "
قطب حاجبيه أقصاهما و قال:
" كما أرى أنا ؟؟ "
فكرّرتُ:
" كما تريد أنتَ... أنتَ وليُّ أمري و ما تطلبه سأنفِّذه "
وليدفجأة ضربَ مِسند المِقعد المجاور و رأيتُ سحابة مِنْ الغبار تطير مفزوعةً مِنْه... ثمَّ قال:
" قولي لي يا رغد... ما هو رأيكِ أنتِ ؟؟ و هل اتّفقتِ معه على أنْ يأتي لتقديم عرضه في المزرعة ؟ "
فرددتُ نافيةً:
" لا... كلاّ لمْ أتّفق معه... لقد أتاكَ مِنْ تلقاء نفسه... لمْ أعرف إلا مِنْ نهلة قبل حضوري إلى هنا مباشرة "
و نظر إليَّ بتشكُّك فأكَّدتُ:
" لمْ أتّفق معه على شيء صدّقني "
فسأل:
" و لا على الزواج ؟ "
فصمتُّ... و كرَّر هو سؤاله بحدّة:
" و لا على الزواج يا رغد ؟؟ هل سبقَ و أنْ اتفقتما على ذلك ؟؟ أجيبي...؟؟ "
في الواقع... كنتُ قدْ أعربتُ عن قبولي المبدئي لفكرة الزواج، عندما أعيد طرحها خلال فترة إقامتي في بيت خالتي، في الشتاء الماضي.
قلتُ معترفة:
" أجل "
و ما كدتُ أنطق بالكلمة إلا و يدا وليد تطبقان فجأة على كتفيَّ و تهزَّانني... و إذا به يصرخ في وجهي:
" كيف تجرئين على فعل ذلك ؟؟ مَنْ سمحَ لكِ باتّخاذ قرارٍ في موضوعٍ كبيرٍ كهذا دون إذني أنا ؟؟ كيف تتّفقين معه على الزواجِ دون علمي ؟ "
فقلتُ مدافعةً و مفزوعةً في آنٍ واحد:
" أنتَ تعلم بذلكَ... لقد عُرِضَ الموضوع عليكَ مِنْ قبل... تعرف كل شيء "
فقال و هو يهزُّني:
" و أنتِ تعرفين أنّني رفضتُ الموضوع مُسبقاً... و حذَّرتُكِ مِنْ إعادة طرحه أو التفكير به مجدَّداً... ألمْ أحذِّركِ يا رغد؟؟ ألمْ أحذِّركِ؟؟ "
" بلى.. لكن... "
" لكن ماذا ؟؟ أكملي "
ابتلعتُ ريقي و أرغمني الخوف مِنْ صوته على النطق فقلتُ:
" لكنّكَ... أنتَ لمْ ترفضْ الموضوع بل رفضتَ توقيته... و حسام... حسام هو الذي أعاد فتحه الآن... هو مَنْ رغِب في تعجيله "
صرخَ وليد:
" و أنتِ متَّفقةٌ معه أليسَ كذلك ؟؟ "
" ليس كذلك... قلتُ لكَ أنّني لمْ أعلمْ عن زيارته لكَ إلا مِنْ نهلة قبل حضوري "
فضغط وليد على كتفيَّ و قال:
" لكنكِ موافقة ألستِ كذلك؟؟ "
و شعرتُ بالألم مِنْ قوّة قبضته... و الفزع مِنْ نظراته المهدّدة... قلتُ:
" سأفعل ما تطلبه منِّي أنتَ "
فزاد ضغطه على كتفي و هتف:
" موافقة على ذلك؟ أجيبيني؟؟ أترغبين بالزواج مِنْ ابن خالتكِ المخبول هذا؟؟ أجيبيني؟؟ "
أطلقتُ صيحة ألمٍ و قلتُ و الدموع تقفز مِنْ عينيَّ فجأة:
" آه... أنتَ تؤلمني... "
وليددفع بكتفيَّ نحو المسند و ابتعد سائراً نحو الباب... أنا أخفيتُ وجهي خلف يدي المصابة و أخذتُ أذرف شُحنة الدموع المخزّنة في عيني... و تأوّهتُ مِنْ قسوةوليد عليَّ... قسوة لمْ أعهدها و لمْ أكنْ أنتظرها منه... بعد كل ذلك العطف و الحنان اللذين غمرني بهما طوال سنين... و بعد كل الفراق و الجفاء و المقاطعة التي فرضها عليَّ منذ أسابيع...
عندما أفرغتُ كل دموعي أزحتُ يدي عنْ عيني... و شاهدتُه يدور حول نفسه تارةً و يسير يميناً و شمالاً تارةً أخرى... و هالةٌ مِنْ اللهيب الأحمر تحيط به...
و حين رآني أنظر إليه صرخ فجأةً: " ألمْ أحذِّركِ مِنْ مغبّة فتح هذا الموضوع يا رغد ؟؟ ألَمْ أفعل ؟؟ "
و لمْ يمنحني فرصةً للردِّ بل تابع مُزلزلاً:
" لكنّكم تستخفُّون بي... و ترونني مُجرماً حقيراً خرِّيج سجون... لستُ أهلاً لتولِّي الوصاية على فتاةٍ يتيمة... و لا أؤتمَن عليها... "
أردتُ أنْ أنطق ("كلاّ") لكن وليد لمْ يعطِني المجال و واصلَ:
" سأريكم... ما الذي يستطيع المجرمون فعله... سترون أنَّ كلمتي أنا... هي النافذة... و أنَّه ما مِنْ قوَّةٍ في الأرض سترغمني على الموافقة على هذا الزواج مهما كانتْ..."
و اقترب منِّي مجدَّداً... و رمقني بنظرات التهديد الشديدة... و قال:
" ستحقِّقين أمنيتكِ بالزواج مِنْهُ فقط بعدما أموت يا رغد... هل تفهمين؟؟ "
و عندما لمْ يرَ منِّي أيّ ردّةِ فعلٍ تصوّر أنني لمْ أفهمه أو لمْ أعرْ كلامه اهتماماً... فأطبق على كتفيَّ كالصقر المنقضِّ على فريسته... بمنتهى الخشونة و راح يصرخ:
" أُكلُّمكِ يا رغد... أصغي إليَّ جيداً... و احفظي كلامي بالحرف الواحد... أنا المسؤول عنكِ هنا... و أنا مَنْ يقرّر كلَّ شيءٍ يتعلَّق بكِ... صغيراً كان أمْ كبيراً... شئتِ أمْ أبيتِ... تركَكِ أبي تحت عُهدتي أنا... و ليس تحت عُهدة خالتكِ و عائلتها... و إنْ أبقيتُكِ هناك كل هذا الوقت فهذا لأنّني أنا أريد إبقاءكِ... و ليسَ لتتصرَّفي كما يحلو لكِ... أنتِ و ابن خالتكِ المراهق الأبله... و متى ما شئتُ أنا... سآتي و آخذكِ... و خالتكِ... و زوجها... و أبناؤها... كلُّهم لا يملكون الحقَّ في تسيير أموركِ... و حسام بالذات... و بالذاتحسام... و اسمعيني جيِّداً... هذا الفتى بالذات... سيكون آخر آخر آخر شخصٍ على وجه الأرض... سأسمح له بالاقتراب مِنْكِ... و لنْ يكون ذلك إلا بعد موتي... أفهمتِ ذلك يا رغد؟؟ أفهمتِ ذلك ؟؟ "
كل هذه الصواريخ في وجهي... و الضغط العنيف على كتفيَّ... و الأعاصير النارية المنطلقة مِنْ عينيكِ و تريد منِّي ألاَّ أفهم ؟ صحتُ بخوفٍ و أنا أحاول استعطافه و النجاة مِنْ بطش يديه:
" نعم... فهمتُ... "
فضغط على كتفيّ بخشونة أشدّ و قال:
" فهمتِ جيِّداً؟؟ أنا لنْ أعيدَ كلامي في المرّة المُقبلة إنْ تكرَّر الأمر... و لنْ أكتفي بلكم وجهه... بل سأهشِّم عظامه كلّها.. و أطحن رأسه... أَوعيتِ هذا ؟؟ "
" فهمتُ... فهمتُ... أرجوكَ... دعني "
و واصل عصر كتفيَّ بقبضتيه و هو يُجبرني على النظر في عينيه و يخترقني بنظرته الثاقبة المهدّدة و يقول:
" لا تضطرّيني لتصرّفٍ لا تُحمد عُقباه يا رغد... أحذِّركِ... أحذِّركِ... ما أنا فيهِ يكفيني... التزمي بكلامي و إلا... ... "
أطلقتُ إجابتي مع زفرة ألم:
" حاضر... فهمتُ... سأفعل ما تأمر به... هذا موجِع... أرجوك أُتركني... "
و انخرطتُ في البكاء مِنْ الألم... فأطلقَ سراح كتفيَّ و ابتعد... جعلتُ أمسّد كتفي الأيمن بيدي اليسرى لأخفِّف الألم... و لمْ أرفعْ رأسي مجدداً... حلَّ سكونٌ مخيفٌ بضع دقائق... ثمَّ سمعتُ صوتَ باب الشقّة ينفتح فرفعتُ رأسي ونظرتُ إلى وليد فشاهدتُه يغادر...
وقفتُ بسرعةٍ و سألتُ:
" إلى أين تذهب؟؟ "
لكنّه أغلقَ الباب و لمْ يجبني... أسرعتُ أسير بعكَّازي إلى الباب و أردتُ فتحه فإذا بي أسمع صوت قِفله يُدار... ضربتُ الباب و هتفتُ بفزع:
" وليد إلى أين تذهب؟ افتح الباب "
فسمعتُه يقول مِنْ خلف الباب:
" سأرسل إليكِ سامر "
" لا تتركني وحدي... أرجوكَ لا تفعل... افتح الباب "
و لكنه لم ْيفتحه، و لمْ أعد أسمع صوته. بقيتُ واقفةً عند الباب في انتظار عودة وليد أو سامر... و مرَّتْ بضع دقائق و لمْ يظهر أيٌ منهما... انتابني الذعر... و عدتُ إلى المقعد و استخرجتُ هاتفي مِنْ حقيبتي و اتَّصلتُ بوليد فلمْ يجبني... و اتصلتُبسامر فوجدتُ الخط مشغولاً...
انتظرتُ دقيقةً ثمَّ أعدتُ الاتصال بسامر فردَّ عليَّ و أخبرني بأنّه في صالون الحلاقة أسفل المبنى و سيصعد بعد خمسة عشر دقيقة...
" لكنني وحدي في الشقَّة... ذهب وليد و تركني أرجوكَ تعال الآن "
قال سامر:
" لمْ يذهبْ. أخبرتُه أنْ يبقى و ينتظرني. سيأتيكِ الآن "
و أنهيتُ المكالمة و نظرتُ نحو الباب في انتظار عودة وليد... و لكنّه لمْ يعدْ. أخذ القلق و الخوف يتفاقمان في صدري... و إنْ هي إلا دقائق حتى عاودتُ الاتصال بسامر و أخبرتُه بأنَّ وليد لمْ يعدْ و رجوتُه أنْ يوافيني في الحال. فقال إنّه قادم... و أقبلتُ نحو الباب في انتظاره... و عندما اقتربتُ منه خُيِّل إليَّ أنني سمعتُ صوتاً مِنْ خلفه ففزعتُ... أصغيتُ بسكون... فتكرَّر الصوت و أجفل قلبي...
" سامر ؟؟ "
ناديتُ بحنجرة مخنوقة... و لمْ أسمعْ رداً... لكنّني أحسستُ بحركةٍ ما... و كأنّ أحدهم يقف خلف الباب مباشرة أو يستند إليه... سألتُ:
" وليد ؟ "
فلمْ يأتني جواب. اقشعرَّ جسدي و انطلقتْ خفقات قلبي تركض بسرعة... و كنتُ لا أزال أحسُّ بحركة هناك. قلتُ و ركبتاي تكادان تخرّان أرضاً و صوتي يرتجف:
" أهذا أنتَ وليد؟ رُدْ أرجوك! "
فسمعتُ صوت وليد يردّ:
" نعم، هنا "
لقد كان وليد قلبي يقف خلف الباب... مستنداً إليه... عندما سمعتُ صوته حلَّتْ الطمأنينة في قلبي... فألقيتُ بثقل جسمي على الباب... و خُيّل إليَّ... أنني أحسستُ بالحرارة تتخلّله منبعثةً مِن جسم وليد...
يفصل بيني و بينه بابٌ خشبي... و عشرات المشاكل و مئات الشحنات... و المشاعر المتضاربة و المواقف الملاطمة... و الكلمات القاسية... و المعاملة الجافة... التي أثخن قلبي و جسدي بخدوشها قبل قليل...
تلمّستُ كتفي... فألفيتُ الألمَ قد انقشع... و تلمّستُ الباب فوجدتهُ دافئاً حنوناً... و ألصقتُ أذني به... فتوهّمتُ أنني أسمع نبضات قلب وليد... تناديني...
أفقتُ مِنْ أوهامي على صوت خشنٍ زاجر... أصدره وليد...
" أقول لكَ انتظرني ها هنا فتذهب إلى الحلاّق ؟؟ "
ثمَّ أتى ردٌ بصوت سامر:
" لمْ أتوقَّع أنْ تُنهيا الحوار بهذه السرعة كما و أنني لمْ أشأ الوقوف هكذا كالبوّاب "
فقال وليد متضايقاً:
" قلتُ لكَ أنني لنْ أطيل الكلام و كما ترى فالوقت ليل و لا يزال أمامكَ مشوار إعادتها... تعرف أنَّ التجوّل محظور آخر الليل هناك... "
ثمّ سمعتُ صوت المفتاح يُدخَل في ثقبه فابتعدتُ بسرعة. كان سامر هو مَنْ فتح الباب فدخل و لمْ أرَ أحداً مِنْ خلفه. استدار للوراء ثمَّ التفتَ إليَّ و أغلق الباب مِنْ بعده و سألني:
" هل كل شيء على ما يُرام ؟؟ "
" نعم "
فاقترب و هو يحملق في عينيَّ و يرى أثر الدموع ثمَّ سأل:
" ماذا أراد مِنْكِ ؟؟ "
فطأطأتُ برأسي و لمْ أُجِبه. فألحَّ عليَّ بالسؤال غير أنني اعتذرتُ عن الإجابة. " إذن الموضوع سرِّي بينكما ؟ "
ألقيتُ نظرة سريعة عليه ثمَّ نظرتُ إلى الأرض لأبعد عينيَّ عن عينيه... خشية أنْ يكتشف شيئاً...
سأل برجاء:
" ألنْ تخبريني؟ "
فلم أردْ. كيف أُخبركَ و بِم ؟؟! سيضرب هذا على وتركَ الحساس المؤلم... أأقول لكَ أنَّ حسام طلب يدي مِنْ وليد...؟؟ احترم سامر موقفي و قال متراجعاً:
" كما تشائين. إنّما أردتُ المؤازرة. فإذا ما أساء إليكِ أخي بأي شكل فأخبريني حتّى أوقفه عند حدّه "
فشددتُ على قبضتي و لمْ أتفوّه بشيء. بعد ذلك، أعادني سامر إلى منزل خالتي. و لأنَّ المسافة بين المدينتين التجارية و الصناعية طويلة نسبياً، فقد وصلنا في ساعة متأخّرة مِنْ الليل.
أمّا وليد فكان قد اختفى فور ظهور سامر عند باب الشقّة، و لا أعرف إنْ كان قد عاد إلى مزرعة الشقراء أمْ أنّه بات في شقّة أخيه تلك الليلة.
وجدتُ خالتي و نهلة في انتظاري و عيونهما ملأى بالتساؤلات... أخبرتُهما بأنّه لا شيء يستحقُّ القلق و ذهبتُ إلى غرفتي فتبعتْني نهلة، و التي سهرتْ في انتظار عودتي على نار ٍهادئة لتعرف ما حصل.
" لا شيء "
تعجبّتْ مِنْ قولي و سألتْ:
" لا شيء؟؟ كل هذا الوقت و تقولين لا شيء؟؟"
" تعرفين... الوقت ضاع في قطع المسافة مِنْ هنا إلى شقّة سامر... ذهاباً ثمَّ إياباً "
سألتْني بصبرٍ نافذ:
" المهم ماذا حدثَ و فيمَ تكلَّمتما ؟ و هل تصالح معكِ... ؟؟ "
أجبتُ بإعياء:
" أسكتي يا نهلة أنا مُتعبة و لا طاقة لي بالحديث "
و ألقيتُ بثقل جسمي على السرير... و مددتُ أطرافي... لكن نهلة لمْ تعتقني:
" أرجوكِ يا رغد أخبريني بما حصل الفضول يخنقني ؟؟ "
قلتُ أخيراً و أنا أنظر إلى السقف و أتنفَّس الصعداء باسترخاء بعد كل ذلك التوتّر...:
" تشاجر معي... فجَّر صواريخ فتّاكة في وجهي... و هدّدني بأنْ... ... "
قالتْ نهلة بلهفة:
" بأنْ ماذا...؟ أكملي !؟ "
فوجهتُ بصري نحوها و قلتُ:
" بأنْ يهشّم عظام حسام إنْ عاود طرح موضوع الزواج ثانية... "
حملقتْ بي نهلة بدهشة... ثمَّ قالتْ مستنتجة:
" هكذا إذنْ... "
ثمَّ أضافتْ:
" تهديد صريح آخر... "
حينها قلتُ بجديَّة و صراحة:
" إنّه ينوي شراً... أخبري حسام بأنْ يبتعد عنِّي و أنْ يُلغي الفكرة نهائياً مِنْ رأسه لينجو بنفسه... "
غضبتْ نهلة مِنْ كلامي الصريح الجارح... و قالتْ و هي تستدير مغادرة:
" أخبريه أنتِ بذلك... أنا لنْ أجرحَ شعور أخي بهذه القسوة... أنتِ عديمة الإحساس"
رفض كلٌ مِنْ أخي و رغد إطلاعي على موضوع الحوار الذي دار بينهما، لكنّي لمْ أسكتْ على الدموع التي رأيتُ آثارها في وجه رغد ليلتها.
" حسناً... أنا لن أطلبْ مِنْكَ إخباري بتفاصيل الموضوع و سأنسى أنني مَنْ جلبها و أعادها في قلب الليل و أنَّ الحديث دار في شقّتي أنا... لكنني لنْ أتغاضى عن جرحكَ لها و جعلها تبكي يا وليد ! "
نفثتُ كلامي أمام أخي، الجالس بصمتٍ يشرب الماء البارد... و يبتلع قطع الجليد الصغيرة السابحة في الكأس. تجاهل أخي كلامي فغضبتُ و قلتُ:
" أكلِّمكَ يا وليد ألا تسمع ؟ "
نظر أخي إليَّ مِنْ خلال زجاج الكأس الشفاف الذي يحمله في يده و أجاب:
" ليس مِنْ شأنكَ يا سامر و أرجوكَ... أنا مُتعب كفاية... دعني أسترخي "
فقلتُ مستنكراً:
" ليس مِنْ شأني ؟؟ كيف تقول هذا؟ إنّها ليستْ ابنة عمِّكَ وحدكَ... "
و كأنّ الجملة أثارتْ أخي فقال بحدة:
" الأمر لا يعنيكَ يا سامر فأرجوكَ كل الرجاء ألاَّ تتدخَّل "
فقلتُ غاضباً:
" بل يعنيني... أنا لا أسمح لأحدٍ بأنْ يقسوَ على رغد و يسبِّب لها الألم... "
وقف أخي فجأةً... و ألقى بالكأس بعنف نحو الأرض فتكسَّر... ثمَّ صرخ غاضباً:
" أما زلتَ تفكِّر بها ؟؟... سامر... أيها الأحمق... إنّها لا تكترثُ بِكَ "
جفلتُ و لمْ يمكنني التعقيب. اقترب أخي منِّي حتّى صار أمام وجهي مباشرةً و إذا به يسألني:
" ألا زلتَ تحبُّها ؟؟ "
ففارتْ الدماء في وجهي... لمْ أكنْ أتوقّع منه هذا السؤال و هكذا مباشرة... أخي أمسكَ بذراعي بقوّة و قال:
" لقد رأيتُ ما تُخبِّئه في خزانتكَ... يا لكَ مِنْ بائسٍ يا سامر!!... تخلَّص منها تماماً... إنها لا تفكِّر بكَ... و لنْ تعود إليكَ... لا تتعِب نفسكَ... انسها نهائياً "
و طعن كلام أخي على جرح قلبي مباشرة... فأبعدتُ يده عنِّي فعاد و أمسكَ بي و أعاقني عن الحركة و قال:
" أخرِجها مِنْ رأسكَ نهائياً يا سامر... و لا تدافعْ عنها فهي خائنةٌ و تستحقُّ العقاب "
عند هذا لمْ أتمالك نفسي و دفعتُ بأخي بقوَّة حتى ارتطم بالجدار. و أوليتُه ظهري قاصداً الخروج مِنْ المكان غير أنّه أمسكَ بي فجأة و جذبني في اتجاهه و لوى ذراعي... و هو يقول:
" أجبْ على سؤالي أوَّلاً "
حاولتُ الفكاك منه و لكنه كان يطبق عليَّ و يعيق حركتي كلما أردتُ التملّص.
" اتركني يا وليد "
و رفستُ بطنه بركبتي حتّى أبعده عنّي. و بصراحة رفستي لمْ تكن قويّةً... لكنّ أخي أطلق صرخة ألم و اندفع مبتعداً عنّي... و أمسك ببطنه و راح يتلوّى. ثمَّ إذا به يجثو على الأرض بالضبط فوق شظايا الكأس المكسور دون أنْ ينتبه لها... و يحني رأسه إلى الأرض و يتقيّأ الماء الذي شربه قبل قليل... ممزوجاً بالدم....
هلعتُ لمنظر أخي... و أقبلتُ أليه قلِقاً و مددتُ يدي نحوه، غير أنّه أبعدها بفظاظة و أخذ يتلوَّى و يئنُّ... و أخيراً نهض و سار نحو الباب.
" إلى أين ؟؟ "
فالوقت كان قد تجاوز الواحدة ليلاً... و يُفترض به المبيت عندي... و وضعه لا يسمح بالمغادرة... تبعتُه و حاولتُ استيقافه إلا أنَّه صدَّني و غادر الشقّة... و قبل غروب الشمس التالية اتصل بي و أخبرني بأنه في طريقه إلى المطار... مسافراً إلى الجنوب.
سافر أخي إلى المدينة الساحلية... و غاب عنَّا بضعة أسابيع. جاء سفره مفاجِئاً و دون سابق تخطيط و تهيئة... و توقّعتُ أنْ أواجه موقفاً صعباً مع رغد لدى إبلاغها عن هذا... فكتمتُ النبأ عمداً في البداية...
و في الآونة الأخيرة لاحظتُ إنَّ رغد لحدٍ ما قد هدأتْ... أعني أنّها لمْ تعدْ تثور و تغضب بسرعة... بل بدتْ مستسلمةً و خاضعةً لما نقوله لها بدون جدال. صحيح أنَّ حالتها هذه لمْ ترضِني لكنها على الأقل أفضل مِنْ التهيُّج الشديد الذي سبقها، و كذلك أبدتْ تجاوباً جيداً مع برنامج العلاج في المستشفى و حضرتْ المواعيد التالية بلا اعتراض... و الأهم... أنها توقّفتْ عن الاتصال بهاتف وليد و عن السؤال عنه...
اعتقدتُ أنَّ ما دار بينهما تلك الليلة قد أراحها بشكلٍ ما... و أنَّ اعتقادها أنَّ وليد في الجوار هدَّأ نفسيّتها... و خشيتُ إنْ أنا كشفتُ لها حقيقة سفره الآن أنْ تتقلَّب بها الأحوال، فواصلتُ كتم النبأ إلى أنْ حلَّ هذا اليوم... و الذي قرَّر فيه الطبيب نزع جبيرة يدها.
بعد أنْ نُزِعتْ الجبيرة... و حرّكتْ رغد يدها... رأيتُ ابتسامة تشعُّ على وجهها و لأوَّل مرَّة مُذ قَدُمَتْ مِنْ الجنوب... و بمجرَّد أنْ غادرنا عيادة الطبيب قالتْ لي:
" سأتّصل بوليد و أخبره بأنّني استطيع تحريك يدي كالسابق. لابدّ و أنّه سيفرح للخبر ! "
و استخرجتْ هاتفها و اتّصلتْ به و لمْ يرد، فحمدتُ الله في داخلي... لكنّها سرعان ما فكَّرتْ بالاتصال بالمزرعة و السؤال عنه... حينها لمْ أجدْ مناصاً مِنْ إطلاعها على الحقيقة...
ساعتها تجهّم وجه رغد و اختفتْ تماماً آثار الابتسامة التي مرَّتْ على وجهها مرور الكرام... أحسستُ بالندم على تسببي بقتل بهجتها القصيرة... و لكي أشجِّعها أدّعيتُ أنَّ وليد قد أعرب لي عن عزمه اصطحابنا معه في المرَّة المقبلة.
و مضتْ الأيام و الأسابيع و هي على حالٍ مستمرَّة مِنْ العزلة و فقدان الاهتمام بأي شيء. حتّى أنّها نحلتْ أكثر مما هي نحيلة و انطوتْ على نفسها أكثر ممّا هي منطوية و ما عدتُ أطيق رؤيتها بهذا الوضع.
الشيء الوحيد على الأقل... الذي صرفتْ إليه بعض الاهتمام... كان الرسم. و لكي أشجِّعها على الانشغال به و طرح الأحزان جانباً جلبتُ لها عدّة الرسم كاملة، و وعدتُها كذلك بشراء حاسوب محمول مع ملحقاته عمَّا قريب...
أمّا عنْ وليد فكما فاجأني بسفره فاجأني بعودتِه ذلك اليوم...
صُدمتُ للوهلة الأولى عندما دخلتُ شقَّتي و رأيتُه جالساً يشاهد التلفاز... و قد كان وجهه شاحباً هزيلاً ملتحياً، و قد خسر جسمه عدّة أرطال. و لمْ يبدُ أنّه قد حلق شعره أو ذقنه منذ لقائي الأخير به قبل أربعة أسابيع... وقف ليحييني و يصافحني، فحييتُه و سألتُه:
" ماذا حلّ بجسدكَ ؟؟! "
فابتسم و ردّ:
" القرحة حرمتنا مِنْ الطعام... "
" هل تراجع طبيباً ؟ "
" لا وقت لذلك، العمل مضغوطٌ جداً و بالكاد نتنفَّس "
و تبادلنا حديثا قصيراً عرفتُ فيه أنّه عائدٌ مِنْ أجل شؤون عمل تتطلَّب توقيع زوجته شخصياً على بعض الوثائق الهامّة...
" و لكن... ألستَ موكَّلاً للتصرُّف بكل شيء... توكيلاً شاملاً و رسميّا ً "
" بلى، لكن هناك بعض الاستثناءات الضرورية "
أطرقتُ برأسي برهة، و راودني سؤالٌ طارئ لمْ يسبق لي أنْ طرحته على أخي:
" متى ستتزوَّجان ؟ "
ألقى عليَّ أخي نظرة لا مبالاة، ثمَّ أدار وجهه بعيداً عنّي... و استخرج مِنْ أحد جيوبه قرصاً دوائياً و وضعه في فمه. ثمَّ جذب نفساً عميقاً ثمَّ قال:
" أي زواج و أي فرح... ألا ترى ما نحن فيه الآن ؟؟ "
إشارةً إلى حادثة وفاة أمّ خطيبته. ثمَّ تابع:
" إنني أريد على الأقل... أنْ تسير أمور المصنع كما يجب. أروى لا تفكِّر في حجم الخسائر التي ستلمُّ بثروتها إنْ هي بقيتْ عالقةً في الشمال و أملاكُها مزروعةٌ في الجنوب. لولا السيد أسامة المنذر بعد الله لفاتها الكثير... ليس جميع موظَّفي المصنع و الشركة بأمانة المنذر. يجب أنْ يُبقي صاحب الأملاك عينه مفتوحةً على ثرواته... يجب أنْ تعود إلى الجنوب "
فهمتُ حرص أخي على أموال زوجته، و تفانيه في العمل لأجلها، و قلتُ:
" البركة فيكَ يا أخي "
فنظر إليَّ و أوشكَ أنْ يقول شيئاً لكنَّه تراجع و التزم بالصمت. ثمَّ عاد فقال:
" أنا لا أريد العيش وحيداً هناك... أريد عائلتي مِنْ حولي... المنزل كبير و كئيب... "
فانتهزتُ الفرصة و سألتُ:
" ماذا عن عودتنا أنا و رغد ؟ "
و كأنَّ السؤال أوجعه أو صبَّ خل الليمون الحامض على معدته، فإذا بي أرى وجهه يتألّم و يده ترتفع إلى موضع معدته و فمه يطلق آهة مريرة...
قلتُ قلِقاً:
" أأنتَ بخير ؟ "
و ما كان مِن وليد إلاّ أنْ وقفَ و استدار باتجاه الباب. قال أخيراً و هو ينصرف:
ذات نهارٍ... و فيما أنا حبيسةٌ في غرفتي لا أفعل شيئاً غير محاولة تذكُّر ملامح وجوه أحبابي البعيدين... و رسمها على الورق... أمّي... أبي... دانة... و وليد... وليد قلبي الحبيب الغائب... طُرِق الباب...
" رغد هل أنتِ مُستيقظة ؟ "
و كان صوت حسام. أجبتُه بنعم، فأخبرني بأنَّ لديه ما يعطيني إيّاه. طبعاً كنّا أنا و هو نتحاشى الجلوس أو التحدُّث معاً ما أمكننا... بعد الذي حصل... أغلقتُ كرّاستي و قمتُ و ارتديتُ حجابي و فتحتُ الباب فرأيتُه يحمل صندوقاً ورقياً كبيراً و ثقيلاً على ما بدا... سأل:
" أين أضعه ؟؟ "
قلتُ مستغربةً:
" ما هذا ؟ "
فأجاب مستغرباً:
" أليستْ أغراضكِ داخل الصندوق ؟ "
سألتُ متعجِّبةً:
" أغراضي أنا ؟ "
" بعث به ابن عمّك... "
و تذّكرتُ الحاسوب المحمول الذي وعد سامر بشرائه لي بعد نزع جبيرة يدي... و استنتجتُ أنْ يكون هذا هو. قال حسام:
" أين أضعه ؟ فهو ثقيلٌ و لنْ تستطيعي تحريكه "
قلتُ و أنا أشير إلى الطاولة الصغيرة عند الزاوية:
" هناك مِنْ فضلكَ "
و سرتُ خلفه و أنا أقول:
" لابدّ أنّه الحاسوب المحمول... "
وضع حسام الصندوق على المكتب و هو يسأل:
" حاسوب ؟ عظيم ! مِنْ أي صنف ؟ "
و أخذ يطالع جوانب الصندوق بحثا ًعنْ أي ملومات و لمْ نجد شيئاً قلتُ:
" افتحْ لنرى "
و بادر حسام بفتح الصندوق، و دُهِشنا حين وجدنا محتواه مجموعة مِنْ الكتب و المجلات و الكراسات... و أدوات الرسم... !
استخرجتُ الكتب فإذا بها كتُبي الدراسية !! أخذتُ أقلّبها متعجّبة و قلتُ:
" هذه... كتبي الدراسيّة !! "
و عدتُ أتأمَّل المجموعة و أستخرجها واحداً بعد الآخر... و أقول و أنا مندهشة:
" عجباً!! كيف أحضرها سامر ؟! "
قال حسام:
" وليد مَنْ بعثها "
وليد !؟.... وليد ؟؟؟ اسم عادي... اسمعه عشرات المرَّات في اليوم... بيني و بين نفسي... أو بين وجهي و صورته في المرآة... أو بين قلمي و كراستي و رسماتي... أو حتَّى مِنْ لسان أي شخص مِنْ حولي... وليد... هو الاسم الذي يلفظه قلبي مع كل نبضةٍ و يزفره صدري مع كل نَفَس... اسم معتادةٌ حواسي على استقباله كل حين... لكن العجب كل العجب... أنْ يقشعرَّ جسدي فجأة... حالما لُفِظَ هذه المرّة... فجأة... إذا بي أُحسُّ بطوفان هائلٍ مِنْ الدماء يصعد إلى وجهي و يجتاح قسماته... و يوشك على تدمير ملامحه و طمس معالمه...
و أعدتُ التحديق في محتويات الصندوق... و استخراجها و تلمِّسها... و كأنني أبحث عن بقايا بصماتوليد عليها...
آه يا وليد... تبعث إليَّ بكتبي الدراسية و أدوات رسمي... ألازلتَ تهتم بي؟؟... نعم أنتَ كذلك... أنتَ كذلك... لو لمْ يكنْ حسام إلى جانبي ساعتها لأكببتُ على الصندوق و ما حوى مصافحةً و معانقة. التفتُّ إلى حسام و سألتُه مستغربة:
" و لكن... كيف بعثها بها؟ عبر البريد الجوي؟؟ "
نظر حسام إليّ نظرة هادفة ثمَّ قال:
" أحضرها بنفسه "
عفوا ً؟؟ ماذا تقول ؟؟ ! حملقتُ في حسام مطالبةً بأنْ يعيد الجواب... فأنا اليوم صمَّاء و لا أسمع...
" أحضرها... بماذا ؟؟ بالـ.... بالبريد ؟؟ "
و نظرتُ إليه منتظرة أنْ يقول نعم، لأنني لنْ أصدّق غير ذلك، لكنه قال:
" بنفسه "
ملأتْ الدهشة عينيّ و رددتُ:
" بنفسه ؟؟ "
فأومأ نعم... فسألتُ بسرعة:
" ماذا تعني ؟؟ وليد... وليد جاء... إلى هنا ؟؟ "
فأومأ بنعم... شهقتُ و رفعتُ يدي إلى صدري تلقائياً... ربَّما لأهدِّئ مِنْ الاضطراب المفاجئ الذي اعتراه...
" لكن... آه... كيف ؟؟ وليد مسافر.. إنه... إنه... "
فقال حسام:
" إنه مَنْ جلبها و قد استلمتُها مِنْ يده مباشرة "
هتفتُ و أنا مذهولة:
" متى ؟؟!! "
أجاب:
" الآن "
قلتُ و عيناي ينفتحان أوسعهما:
" الآن !! "
قال و هو يرى انفعالي:
" نعم. اتصل بوالدي قبل قليل و قال أنّه سيمرُّ لإيصال شيءٍ لكِ "
انتفض جسمي... و قلتُ مرتبكة:
" هل... تعني... أنّه... كان هنا ؟؟ كان هنا ؟؟ "
حسام نظر إليّ نظرة حادة ثمَّ أجاب:
" تركتُه واقفاً مع أبي في الفناء... و أتيتُ أسلِّمكِ الصندوق "
ارتجّ دماغي إثر ذلك... ترنّحت في وقفتي كما لو كنتُ أقف على كُرة متدحرجة... وليد هنا ؟؟ هنا ؟؟
حسام رأى التعبيرات القوية على وجهي... و رآني و أنا أندفع فجأة مهرولة نحو الباب... و أسير بسرعة... بسرعة... بكل ما أوتيتُ على ضعفي مِنْ قوّة... بسرعة... قبل أنْ يرحل وليد...
سمعتُ حسام يلحق بي و يناديني... لكنني تجاهلتُه و سرتُ عرجاء واطئة على رجلي المصابة و رافعة ثقلها مرّة... و مستندة إلى عكازي مرّة أخرى... متجاهلةً الألم الذي اشتعل في رجلي كصعقة الكهرباء... فقط لأدرك وليد قبل أنْ يرحل...
و أخيرا وصلتُ إلى الباب الرئيسي للمنزل... و ما إنْ فتحتُه حتّى رأيتُ عمِّي أباحسام مقبلاً نحوه...
قلتُ بلهفة:
" أين وليد ؟؟ "
استدار للوراء ينظر إلى مَنْ كان يقف بجواره قبل قليل... نظرتُ إلى بوابة السور الخارجي فرأيتُ وليد يفتح البوابة الخارجية على وشك الخروج...
هتفتُ بأعلى صوتي:
" وليــــــــــــــــــــــــد... "
خشيتُ أنْ يكون صوتي قد خرج هزيلاً بالكاد لامس الهواء قرب فمي... لكنّه وصل إليه... رأيتُه يتوقّف و يستدير...
خرجتُ عبر الباب و هبطتُ العتبات بسرعة متجاهلةً ألم رجلي... و هرولتُ و أنا أعرج حافية... أدوس على الرمل و الحصى... و بقايا أوراق و أغصان الأشجار العالقة في الممر... قاطعةً المسافة الطويلة بين البوابتين... حتى صرتُ قريبةً منه... للحد الذي... لو تخطّيتُه... لانصهرت مِنْ وهج حرارته...
كان الوقت ظهراً... و الشمسُ حارّة... و قويّة السطوع... تعشي العين عن الرؤية... و حاربتُها حتّى أُرسِل نظراتي إلى وليد...
نعم... إنّه وليد... بدمه و جسمه... بطوله و عرضه... بكيانه و هيئته... و الهالة مِنْ اللهب الأحمر المتوهّج... التي تحيطُ به...
كان يضع نظارةً شمسية تُخفي عن شوقي إي نظرة انتظرتُ إنْ أصافحها في عينيه... بعد فراقٍ طويلٍ قاسٍ... و كان شعره طويلاً بعض الشيء و مبعثر... لاعبه النسيم الصيفي الحار لحظة هبوبه...
وليد بقي واقفاً في مكانه... لمْ يتحرّك... و لمْ يُظِهر أي حركة تشير إلى أنّه يكترث لظهوري... وقفتُ أستردّ أنفاسي التي نُهِبتْ مذ علمتُ بوجوده... و أحاول خرق نظّارته السوداء و رؤية ما تخفيه عدستاها خلفهما...
لمْ أرَ شيئاً...
اقتربتُ منه أكثر... صرتُ أمامه... تفصلني عنه ثلاثة أمتار... وقفتُ صامتةً لا أعرف ماذا أقول... مِنْ أين أبدأ و أين أنتهي؟؟ دعوني... فقط أتأمّل وليد... و أملأ قلبي مِنْ الإحساس الجميل الذي ينتابني بقربه...
ماذا حلَّ بي؟ لماذا لا استطيع التحدُّث ؟؟ هيا يا لساني اِنطلقْ... أما اكتفيتَ حرماناً ؟؟ أرجوكَ... قُلْ شيئاً...!
" وليد... "
نطقتُ باسمه و عيناي توشكان على التهامه... و أذناي على أهبّة الاستعداد لخطف أي كلمةٍ تصدر مِنْ لسانه قبل مغادرة فمه...
" وليد... أأأأ... لمْ أعلم أنّكَ هنا "
لمْ يرد. قلتُ:
" كنتُ... أعتقد أنّك... مسافر "
لمْ يردْ. قلتُ:
" متى عُدتَ ؟ "
أجاب أخيراً:
" قبل أيّام "
قبل أيّام؟؟ أنتَ هنا منذ أيّام... و أنا لا أعرف ؟؟
" لمْ... يُخبرني سامر عن عودتكَ... !! "
ثمَّ أضفتُ:
" حمداً لله على سلامتكَ "
ردّ مقتضباً:
" سلّمكِ الله"
انتظرتُ منه أنْ يخبرني عنْ أي مبررٍ لعدم إحاطتي علماً بعودته... أو بمجيئه إلى منزل خالتي الآن... و لمّا لمْ أرَ منه المبادرة لشيء سألتُ:
" و....كيف هي أحوالكَ ؟ "
فنطق مجيباً ببرود:
" بخير "
و لمْ يسألني عن حالي أنا. سمعتُ صوت باب المنزل الرئيسي ينغلق فالتفتُّ إليه و رأيتُ حسام و أباه يقفان هناك... يراقبانني عن بعد... و عندما عدتُ بنظري إلى وليد رأيتُه و قد مدَّ يده إلى قبضة بوّابة السور يوشك على فتحها.
قلتُ:
" هل أنتَ مستعجل ؟ هل ستذهب الآن ؟؟ "
" مررتُ لجلب الكتب قبل سفري "
توقّف قلبي عن النبض و انحشرتْ أنفاسي في صدري...
قلتُ مذهولة:
" ستسافر ؟؟ "
" نعم "
" متى؟"
" غداً "
صعقني الخبر... ستسافر يا وليد ؟؟ هكذا... دون أي اعتبار لي؟؟ دون أنْ تخبرني لا عن حضوركَ و لا عن سفركَ... دون أنْ تفكِّر بالمرور عليَّ و لو لإلقاء تحيّةٍ عابرة ؟؟
قلتُ و أنا أنهار مِنْ خيبة الأمل:
" ستعود... إلى بيتنا ؟؟ "
" نعم "
" و هل ستمكث هناك... طويلاً "
" ربّما "
و رفع يده ينظر إلى ساعته ثمَّ قال:
" بعد إذنكِ "
و همَّ بالانصراف فهتفتُ مسرعة:
" وليد انتظر "
توقّف و لمْ يتكلّم فقلتُ بلهفة:
" أرجوكَ... أريد أنْ أتحدَّث معكَ "
فأجاب دون أنْ يُلقي بالاً لي:
" فيما بعد... لا وقت لديَّ "
فسرتُ خطوتين نحوه و أنا متشبّثة به بكل كياني... لا تذهبْ أرجوكَ...!
قلتُ:
" متى إذن ؟ أنتَ ستسافر... لمْ تزرني... و لا ترد على اتصالاتي "
فلم يعلّق. و لمْ استطع قراءة شيء في وجهه بسبب النظارات...ثمَّ إذا به يقول:
" مع السلامة "
و أدار ظهره لي، و أدار قبضة البوابة و فتحها.
و أنا أراه يوشك على الرحيل... بعد لقاءٍ شديد البرودة... في حين أنَّ شوقي إليه يكاد يقتلني... لمْ أصمد...
هتفتُ:
" انتظر يا وليــــــــــــــد "
و هرولتُ باتجاهه متناسيةً حالة رجلي... التي خانتْني فجأةً فتعثَّرتُ بخطواتي و هويتُ أرضاً...
رآني وليد أقع... فأغلق البوابة و سار باتّجاهي بضع خطوات و سأل:
" هل أنتِ بخير ؟ "
و كذلك سمعتُ صوت حسام يُقبل مِن الخلف و هو يسأل ذات السؤال.
نفضتُ يديَّ مِنْ الرمال التي علقتْ بهما، ثمَّ مددتُهما إلى السور المحيط بالأشجار و المجاور لي و استندتُ عليه محاولةً الوقوف لكن قواي المنهارة بسبب وليد لمْ تسعفني...
اقترب وليد منِّي أكثر... و رأيتُه ينحني و يمدُّ يد العون لي... نظرتُ إليه بتدقيق... لمْ تمكِّنني النظارة السوداء مِنْ رؤية ما كنتُ أبحث عنه...
مددتُ إليه يدي اليمنى... و التي كانت مجبّرة فيما مضى... و طليقة الآن... و أحسستُ به يتردَّد قبل أنْ يقرِّب يده يريد الإمساك بها ليساعدني على النهوض، غير أنّني تجاوزتُ يده و مددتُ يدي أكثر نحو وجهه... و انتزعتُ نظارته...
الآن... يمكنني أنْ أسبح في بحر عينيه... الآن... استطيع أنْ أغوص في أعماقِه و أبحث عن نبضاته... عن الحنان الذي يغلّفني به... عن الرعاية التي يحيطني بها... عن العطف الذي يغمرني به...
لكن... للذهول... لمْ أقرأ شيئاً مِنْ هذا في عينيه...
كانتا باردتين برود الرياح المثلجة في القطب الجنوبي... جامدتين جمود الجبال الجليدية... خاليتين مِنْ أي دفء... أي شوق... أي اهتمام... و أي معنى...
ارتجف فكِّي الأسفل مِنْ برودة وليد... التي أوشكتْ أنْ تصيِّر صيف ذلك النهار شتاءاً قاسياً... اهتزّ قلبي... و ارتعدتْ يدي فأوقعتُ النظارة أرضاً...
كان حسام قد وصل يتبعه أبوه... يسألاني إنْ كنتُ بخير...
وليد سحب يده التي كانتْ ممدودة إليَّ... و مدّها إلى النظارة يريد التقاطها... فحرّكتُ يدي و أمسكتُ بيده أريد أنْ أشعر بأي ذرة دافئة فيه...
وليد أراد سحب يده فأحسستُ به يستل خنجراً كان قد طعنه في صدري... لمْ أقوَ على ذلك... فاضتْ الدموع في عيني و هتفتُ و أنا أجذب يده و أنهض معتمدةً عليها و أقول منهارة أمامه:
" لا تفعل هذا بي يا وليد... أنا لا أتحمَّل... "
و زفرتُ زفرات باكية بألمٍ و أنا متشبِّثة بذراعه و هو واقفٌ كشجرةٍ جامدة... لمْ يحرّك ساكناً...
سلطتُ النظر على عينيه... و الآن... أرى فيهما الكثير... الكثير... إنهما عينا وليد قلبي اللتان ما فتئتا تحيطاني بالرعاية منذ طفولتي...
لكنّ وجهه كان مختلفاً... بارز العظام عابس القسمات بارد التعبيرات... و رأيتُ الحمرة تعلوه و زخّات مِنْ العرق تسيل على صدغيه... أهذا بسبب الشمس الحارقة؟؟ أمْ بسبب النار المضرمة في صدري أنا...؟؟
قلتُ و أنا متعلّقة بذراعه:
" خُذني معكَ... "
علتْ الدهشة وجه وليد فقلتُ:
" أريد العودة معكَ... إلى بيتنا "
وليد نظر إلى مَنْ خلفي ثمَّ عاد ينظر إليَّ و أراد تخليص ذراعه مِن يدي... فما كان منّي إلا أنْ شددتُ الضغط عليها أكثر و قلتُ:
" خُذني معكَ أرجوكَ "
وليد قال:
" إلى أين ؟ "
" لا يهم. سأذهب معكَ إلى أي مكان "
وليد أزاح يدي عن ذراعه... و رأيتُ عينيه تلقيان نظرةً عليها و شعرتُ بيده تشدُّ بلطفٍ عليها... ثمَّ تركها و رجع خطوة للوراء... و قال:
" يجب أنْ أذهب الآن... زوجتي تنتظرني "
و استدار مولياً ظهره إليَّ... و ببساطة اختفى عن ناظري... مثل السراب...
زوجتي تنظرني... زوجتي تنتظرني... زوجتي تنتظرني...
لفّتْ الجملة برأسي حتَّى أصبتُ بالدوار و ترنحتُ و جثوتُ فجأةً على الأرض...
رأيتُ حسام يظهر أمامي مُنحنياً على الأرض و هو يقول:
" هل أنتِ بخير ؟؟ "
أغمضتُ عينيّ فأنا لمْ أقوَ على تحمّل سطوع الشمس المعشية... و حالما فتحتُهما لمْ أجد غير حسام قريباً منّي... بحثتُ يُمنةً و يسرةً... هل كنتُ أحلم؟؟ هل كان وليد هنا؟؟ لا لمْ يكن... كان وهماً... خيالاً... تهيؤاً رسمه قلبي الشغوف به و عيني المتلهفة للقائه...
نظرتُ إلى البوابة... إلى الحيّز الذي توهّمتُ أنّ وليد كان يشغله قبل قليل... تمنّيتُ لو أنَّ طيفه بقي عالقاً هناك... أردتُ أنْ أنهض و أعانق جزيئات الهواء التي لامستْ جسده... لكنني عجزتُ إلا عن الانهيار بجدعي على السور...
سمعتُ صوت حسام يناديني... و أحسستُ بيديه تمسكان بي... نظرتُ إليه فإذا بي أراه يحملق بي بقلق و عطف... و يقول:
" لا بأس عليكِ... هلمِّي بنا إلى الداخل "
و ساعدني على النهوض. و فيما أنا أنهض لمحتُ نظارةً شمسيّةً سوداء ملقاة على الأرض بالقرب منّي... التفتُ إلى حسام و سألتُ بضياع:
" لمَنْ هذه ؟؟... هل كان وليد هنا حقاً ؟؟ "
و لمْ يقل حسام شيئاً... فانحنيتُ و التقطتُ النظارة و تأمّلتها و هتفتُ:
" لقد كان وليد هنا... لقد تركني و رحل... رحل مع الشقراء... آه... لماذا فعل هذا بي ؟؟ "
و هُيّأ لي... أنني رأيتُ حسام يسحب النظارة مِنْ يدي و يلقى بها بعيداً على العشب... و توهّمتُ أنّني سمعتُ صوته يهمس في أذني...
في طريق عودتنا مِنْ مكتب الشؤون المدنية القابع في المدينة الصناعية حيث استخرجنا بعض الوثائق اللازمة للعمل، مررنا على منزل خالة رغد و قال وليد أنّه سيوصل إليها بعض الحاجيات. و بعدما عُدنا إلى المزرعة لاحظتُ شروده و انشغال باله. و لكي أكون دقيقةً أكثر أقول أنني لاحظتُ ذلك منذ أنْ غادر وليد منزل خالة رغد.
كان وليد قد عاد قبل ثلاثة أيام مِنْ المدينة الساحلية جالباً معه حقيبة عمله و الكثير مِنْ الأوراق و الوثائق المهمّة التي يريد منِّي الاطلاع عليها و قبولها أو رفضها. حسابات... عقود... فواتير... مشاريع... و أشياء مزعجة اعتاد وليد على أنْ يُقحِمني فيها حينما كنَّا في المدينة الساحلية.
شؤون العمل هي كل ما دار نقاشنا حوله خلال الأيام القليلة التي قضاها هنا، و لمْ نتحدّث عن أي شيء آخر، و كأننا لسنا خطيبين... فرَّقتْ بينهما عدة أسابيع و التقيا أخيراً. و ها هو الآن يستعد للمغادرة و يأخذ حقيبته مِنْ فوق المكتب و يخطو وسط الغرفة... باتِّجاه الباب. كان يريد الذهاب إلى أخيه ليقضي الليلة معه و ليصطحبه إلى المطار غداً. كنتُ أراقبه و هو يتحرّك، فلاحظ تحديقي به فتوقَّف و سأل:
" أهناك شيء ؟ "
هناك أشياءٌ كثيرة و لكن لا مجال لطرحها الآن. أجبته بعد تردد قصير:
" لا... لاشيء... فقط... أتساءل... لِمَ لا تقضي الليلة هنا ؟؟ "
فنظر إليَّ نظرة ذات مغزى، فقلتُ:
" سأعدُّ لكَ عشاءاً غنياً. لا يبدو أنّكَ كنتَ تأكل شيئاً منذ أسابيع "
و خشيتُ أنْ يستسخف الفكرة لكنَّه لمْ يشأ إحراجي فقال:
" لا بأس. لكن يجب أنْ يكون عشاءاً مبكِّراً، إذْ سيتعيَّن عليَّ الخروج باكراً صباحاً "
فابتسمتُ بسرور، و انصرفتُ مِنْ فوري إلى المطبخ و عملتُ بنشاط. و فيما أنا منشغلةٌ مع طهوي أقبل خالي إلى المطبخ و حيّاني و وقف يراقبني لحظة ثمَّ طرح عليَّ سؤالاً:
" هل تكلَّمتما ؟ "
مشيراً إلى موضوع زواجنا المعلّق. فمنذ يوم طلبتُ مِنْه أنْ ننفصل و حتى يومنا هذا وليد لمْ يفتح الموضوع و لمْ يخبرني عن قراراته و لا ما يجول بخاطره، و لمْ يجمع بيننا لقاءٌ خاص أو حوارٌ خاص... أو حتَّى مائدة طعام. وفاة والدتي رحمها الله شغلتنا عن التفكير بأنفسنا. علاقتنا كانت باردة كالثلج... و هو وجد في العمل مهرباً مِنْ التصادم معي... و لكن إلى متى ؟؟ أجبتُ على سؤال خالي:
" ليس بعد "
فحزن و تنهّد. كان قلقاً جداً عليَّ. قلتُ له:
" إنه لمْ يُقم هنا غير ثلاثة أيام. كان مشغولاً مع الوثائق و الأوراق. لمْ تسنح الفرصة "
فقال خالي:
" الشاب ينتظر منكِ أنتِ فتح الموضوع يا بنيَّتي فهو لن يجرؤ على هذا في ظلِّ ظروفنا الحالية "
قلتُ بصراحة:
" لا أعرف مِنْ أين أبدأ و لا كيف. أنا مشوَّشة يا خالي و فقد والدتي أربك حياتي "
و سكتُّ برهة ثمَّ واصلتُ:
" استطعتُ دعوته للبقاء هنا الليلة، و تناول العشاء معي. سأحاول أنْ ألمِّح للموضوع أثناء ذلك، و أرى إنْ... كان على استعداد للتطرُّق إليه الآن... "
شدَّ خالي على يدي و قال:
" أصلح الله أمركما و بارك فيكما... تشجعي بنيّتي... "
ثمَّ غادر...
تركتُ الطعام ينضج على النار... و ذهبتُ إلى حيث وليد. كان جالساً في غرفة المعيشة يطالع الصحيفة باهتمام، و قد ترك حقيبة سفره على المقعد إلى جانبه. هممتُ بأنْ اقترب مِنْه و أبعد الحقيبة و أجلس بجواره... و لكن خانتني شجاعتي. حين انتبه وليد لحضوري قال معلِّقاً على خبر قرأه في الصحيفة:
" سيحظرون الرحلات الجوية مِنْ جديد... لا نعلم لِكَمْ مِنْ الزمن... سيزداد الأمر سوءاً و مشقَّة "
و قطب حاجبيه استياءاً... و تابع القراءة. أردتُ التفوه بأي تعليق غير أنَّ هاتفه سبقني بالرنين فأجابهوليد، و سمعتُه يتحدَّث باهتمام إلى الطرف الآخر و الذي أدركتُ مِنْ مضمون الكلام أنّه شقيقه يسأله عن موعد حضوره ثمَّ يطلب مِنْه أمراً مُلحَّاً...
هتفَ وليد و هو يقف منفعلاً:
" رغد ؟؟ "
فأصغيتُ لحديثه باهتمام... و كانتْ آخر جملة قالها:
" حسناً أنا قادم "
و أنهى المكالمة. سألتُه بفضول:
" خيراً ؟؟ "
فنظر إليَّ نظرة سريعة ثمَّ قال:
" يجب أنْ أغادر الآن... أنا آسِف "
أصبتُ بخيبةٍ كبيرة... و قلتُ معترضة:
" و العشاء ؟؟ "
فقال معتذراً:
" تناولاه بالصحة و العافية... لنْ أستطيع مشاركتكما "
غضبتُ و قلتُ:
" لقد أعددتُه مِنْ أجلكَ أنتَ يا وليد... ألا تقدّر هذا ؟؟ "
أطرق وليد برأسه ثمَّ قال معتذراً:
" بلى يا أروى طبعاً أقدِّر... لكن... "
فقاطعتُه منفعلة: " لكن حبيبة القلب أولى بكل التقدير "
نظر إليِّ وليد و الدماء آخذة في الصعود إلى وجنتيه. و لمْ يجرؤ على التفوّه بكلمة. أما أنا فقد اختلَّ ميزاني لحظتها و أطلقتُ لساني قائلة:
" سأذهب إلى شقيقي، يطلب حضوري حالاً و الأمر مقلِقٌ "
" لكنه أمرٌ متعلِّقٌ برغد... أليسَ كذلك ؟؟ "
و لمْ يجب وليد فقلتُ:
" لنْ يمكنكَ الإنكار "
هنا قال:
" لا أعرف ماذا هناك يا أروى... سامر لمْ يوضِّح لكنه أقلقني... ربّما حدث شيءٌ لا قدَّر الله "
فقلتُ:
" أو ربَّما الصغيرة الغالية تتدلَّل على وصيِّها الحنون النبيل ! "
نظر إليّ وليد بانزعاج فقلتُ:
" إنها بالمرصاد لأي شيء يسعدني... ألا تلاحظ هذا ؟؟ "
زفر وليد الكلمات بضيق:
" هذا ليس وقته... أرجوكِ... "
و أولاني ظهره و تناول حقيبته هاماً بالمغادرة. لمْ أقدر على السيطرة على نفسي حينها، و شعرتُ بالإهانة و الخذلان و الغيظ، فهتفتُ مجنونة:
" وليد...إذا خرجتَ الآن فلا تعدْ إلى هنا ثانيةً "
توقّف وليد و استدار إليَّ... و رأيتُ في عينيه دهشةً ثمَّ مرارة كبيرة... لكنني فقدتُ التحكم بنفسي... في أحوج الأوقات إليه تركني و سافر... و الآن مع أوَّل بادرة للتصالح بيننا و فيما أنا أشغل تفكيري و جهدي فيه و لأجله... يتركني و ينصرف إليها...
أشاح وليد وجهه دون تعليق و سار نحو الباب. فهتفتُ مجدداً:
" قلتُ... إذا خرجتَ فلا تعدْ ثانيةً... أبداً... هل سمعتَ ؟ "
و لمْ يكترثْ بكلامي، فصرختُ في غيظٍ:
" هل سمعتَني يا وليد ؟؟ "
استدار آنذاك بعصبيّة و نظر إليَّ و هتف بغضب:
" نعم سمعتُ "
ثمَّ أضاف:
" كم يؤسفني هذا مِنْكِ... أورى... أولاً أنا قلتُ أنني سأذهب إلى شقيقي... يعني إلى المدينة التجارية و ليستْ الصناعية و الطريقان مختلفان و متباعدان... و ثانياً ليس بالوقت المناسب لتقليب المواجع... دعينا نفترق بسلام الآن "
" لنْ يكون هناك مرَّة قادمة... إذا خرجتَ الآن فلا تعدْ... أنا لمْ أعدْ أتحمَّل... هذا كثير... أي نوع مِنْ الأزواج أنتَ ؟؟ "
و هرولتُ منصرفةً عن غرفة المعيشة و عائدة إلى المطبخ و أسندتُ جبيني إلى الثلاجة و أخذتُ أبكي. بعد قليل سمعتُ صوت وليد يناديني و لمْ أُجِبه. أحسستُ به يقف عند الباب ثمَّ يقترب منِّي، ثمَّ سمعتُه يقول لي:
" أروى... لا تزيديني هماً على هم "
و استمررتُ في ذرف عبرات الخذلان و الأسف... إنَّ الهمَّ الأكبر هو همُّ امرأةٍ تحب زوجها و تعرف أنَّ قلبه مشغولٌ بحب امرأة غيرها. هذا هو الهمُّ الأدهى و الأمر...
قلتُ:
" إذا كنتَ متعلِّقاً بها لهذا الحد و لا تستطيع الاستغناء عنها فاذهب إليها. أنا لنْ أُجبركَ على البقاء معي و لا على حبِّي... ما حاجتي إلى رجلٍ مشغول القلب بغيري...؟؟... اذهبْ... و لا تعدْ إليَّ ثانيةً "
" أجِّل سفركَ يا وليد و دعنا نسوِّي الأمور و نحلُّ المشاكل أولاً "
قال بانزعاج:
" أتجلبني مِنْ المزرعة إلى هنا مفزوعاً على وجه السرعة... مسبِّباً ما سبّبتَ هناك... لتقول لي أجِّل سفركَ ؟ يا سامر وضِّح ماذا لديكَ؟ و ما بها رغد ؟ "
أجبتُ بكل جديّة:
" ألمْ تقلْ أنّكَ لا تريد إخطارها عن حضوركَ ؟ ألمْ أقلْ لكَ أنَّ هذا سيحزنها ؟؟ إذنْ لماذا ذهبتَ إلى بيت خالتها اليوم و قابلتَها ؟ و بطريقة جافّة ؟ ألا تعرف كم مِنْ الحزن سبَّبتْ لها معاملتُك هذه ؟ إذا كنتَ قد ضقتَ ذرعاً بها و لا تريد تحمُّل أعباء مسؤوليتها بعد الآن و لا تطيقها بسبب خلافكَ مع أهلها فانقل الوصاية الكاملة عليها إليَّ و اتركها في عهدتي "
دوهم أخي و حملق فيَّ... و أنا أركِّز في عينييه بحدّة و شدّة... ثمَّ سألني:
" ماذا تعني ؟؟ "
فأجبتُ منفعلاً:
" أعني أنْ تتنازل عن الوصاية عليها لي أنا... و أخلِّصكَ مِنْ هذا العناء تماماً "
و إذا بالحمرة تلوّن وجه وليد و إذا به يقول مهدِّداً:
" كيف تجرؤ ؟؟ "
فأجبتُ بحدَّة:
" على الأقل... أنا سأعاملها معاملةً حسنةً تليقُ بها كابنة عمٍ وحيدة و يتيمة الأبوين "
وقفَ وليد فجأة و هتف غاضباً:
" أتعني أنني لا أحسن معاملتها يا سامر ؟ "
فوقفتُ تباعاً و رددتُ بصوتٍ قوي:
" هل تسمِّي هذه القسوة و الصرامة و الخشونة... معاملة حسنة؟؟ وليد... لقد كنتُ أزورها قبل اتصالي بكَ. اتصلتْ بي الخالة و طلبتْ منِّي أنْ أذهب إليها. أخبرتْني بأنكَ ذهبتَ إليهم ظهراً و قابلتَ رغد و الله الأعلم ماذا قلتَ لها، و جعلتَها تحبس نفسها في غرفتها منذ ذلك الحين و لا تفتح الباب لأحد... حاولتُ أنْ أكلِّمها لكنّها طلبتْ منّي الانصراف... أنا لا أعرف ما الذي قلتَه لها و جعلتَها تغرق في الحزن أكثر مما هي غارقة... ثمَّ تريد السفر بلا مبالاة... و تتركني أنا أواجه الأمر و أرمِّم ما تهدمه أنتَ... أتسمِّي هذه معاملةً حسنة؟؟ "
وليدنظر إلى ساعة يده... و بدا متوتّراً... ثمَّ قال:
" اتّصِل بها "
و لمْ أتحرّك... فقال وليد:
" الآن "
فقلتُ:
" أقول لكَ إنني قدمتُ مِنْ عندها قبل ساعتين و هي منزويةٌ على نفسها... و هاتفها مغلقٌ منذ النهار "
قال:
" إذنْ اتصل بهاتف المنزل و اسأل عنها و دعني أكلّمها "
بقيتُ واقفاً في موضعي... أنظر إلى أخي بتشكّك... ثمَّ سألتُه:
" أخبرني أوَّلا... ما الذي قلتَه لها ؟؟ لماذا ذهبتَ إليها ؟؟ "
فأجاب مندفعاً:
" أنا لمْ أذهب لزيارتها بل مررتُ لسببٍ آخر... و لمْ أقلْ شيئاً "
" إذنْ لماذا هي محطَّمة هكذا؟ لابد أنّكَ قلتَ أو فعلتَ شيئاً جارحاً حتّى لو لمْ تدركه "
و هذه الجملة استفزّتْ أخي فهتف بغضب:
" و هل تراني وحشاً ذا مخالب و أنياب ؟؟ "
قلتُ غاضباً:
" لا أراكَ تقدِّر شيئاً أو تفهم شيئاً... ألا تعرف ما تعني لها و ما يعني رضاكَ أو غضبكَ ؟؟ إمّا أنْ تكون أعمى أو بلا إحساس... و في كلتا الحالتين لا تصلح لرعاية رغد... فدعني أتولَّى أمرها بنفسي مِن الآن فصاعداً "
سكتَ وليد مبهوتاً و تبعثرتْ نظراته ثمَّ استجمعها و استردَّ رباطة جأشه و قال:
" اتّصل الآن "
ألقيتُ عليه نظرةً مستهجنة ثمَّ توجّهتُ نحو الهاتف و اتصلتُ بمنزل الخالة فأجابتني هي و علمتُ منها أنَّرغد لا تزال حبيسة غرفتها و طلبتُ منها استدعاءها للتحدُّث معي فلمْ تستجبْ، و قلتُ لخالتي بأنْ تخبرها بأنَّ وليد يريد التحدُّث معها و لكنها أيضاً لمْ تستجب.
حين وضعتُ السماعة على الهاتف رأيتُ أخي ينظر إلى ساعة يده ثمَّ يقول:
" إذن دعنا نذهب "
انطلقنا مِنْ فورنا بسيارتي إلى المدينة الصناعية. عندما وصلنا إلى منزل أبيحسام لمْ يخرج وليد مِنْ السيارة بل قال:
" تعال بها "
التفتُ إليه و قلتُ:
" لِمَ لا تأتي معي و نسوِّي المشكلة مع العائلة الآن ؟ "
فردّ:
" ليس هذا وقتُه "
و تركتُه في انتظاري في السيارة و دخلتُ إلى المنزل. لمْ تفتح رغد الباب إلا بعد أنْ أقسمتُ لها مراراً و تكراراً أنّ وليد قد حضر معي و يريد مقابلتها. و عندما فتحتْه ذهلنا للسواد الذي لوَّن وجهها الكئيب حتّى غدا مضاهياً لسواد وشاحها. نقلتْ بصرها بيننا ثمَّ سألتْ:
" أينَ هو ؟ "
فأجبتُ:
" ينتظرنا في السيارة "
و بدا عليها عدم التصديق و نظرتْ إلى خالتها تبحث عن تأكيد فقالتْ أمُّ حسام:
" لقد أحضره سامر و لكنه لا يريد دخول منزلنا كما تعرفين "
فأطرقتْ رغد برأسها و قالتْ:
" أنتم تكذبون عليَّ "
و تراجعتْ خطوة بعكازها إلى الخلف فقلتُ بسرعة:
" و لماذا سنكذب عليكِ يا رغد؟ تعالي و تأكَّدي بنفسكِ "
بعثرتْ رغد علينا نظرات الريبة ثمَّ قالتْ:
" إذا اكتشفتُ أنكم تخدعونني... "
فقاطعتها الخالة و قالتْ:
" يهديكِ الله يا رغد... انظري إلى حالكِ و حالنا معكِ... اذهبي معه و أرحمي نفسكِ و ارحمينا "
و رافقتْني رغد يدفعها الأمل خطوة و يوقفها الشكُّ أخرى حتى صرنا أمام السيارة و رأتْ وليد بأمّ عينيها... نظرتْ إليَّ غير مصدِّقة فقلتُ مؤكداً:
" هل صدّقتِني الآن ؟ "
ثمَّ فتحتُ لها الباب الخلفي فجلستْ خلف مقعدي و رأيتُ أخي يلتفتُ إليها و سمعتُه يلقي التحية. جلستُ على مقعدي و التفتُّ إلى أخي و سألتُ:
" إلى أين ؟ "
فأجاب:
" جولة قصيرة "
و سرنا يرافقنا الصمتُ الشديد. ربّما كانت أفئدتنا تتخاطب و أفكارنا تتصافح دون أنْ نشعر بها. بمحاذاة الكورنيش طلب منِّي أخي أنْ أوقف السيارة و أشار بيده نحو المقاعد الإسمنتية العامة قائلاً:
" دعونا نجلس هناك "
و سبقنا بالخروج مِنْ السيارة و التوجُّه نحو المقاعد. التفتُّ إلى رغد فرأيتُها قابعةً في مكانها و التوتّر منقوش على وجهها و يدها ممسكة بطرف وشاحها. سألتُها:
" ألنْ تنزلي ؟ "
فأجابتْ بصوتٍ وجِل:
" ماذا... يريد ؟؟ "
فقلتُ مُطمئِناً:
" ممَّ أنتِ خائفة؟ ألستِ تريدين التحدُّث معه ؟؟ هو هنا ليسمعكِ... "
و إنْ كنتُ غير واثق مِمَّا سيقوله... و إذْ بدا على رغد التردُّد، شجّعتُها قائلاً:
" فرصتنا لنقول كل ما نريد و نضع الحروف على النقط... طلبتُ مِنْه أنْ يؤجِّل سفره حتّى نحل المشاكل العالقة. هيّا قبل أنْ يغيّر رأيه "
و خرجنا مِنْ السيارة و ذهبنا نحو وليد. تردّدتْ رغد في الجلوس فأخرجتُ منديلاً و مسحتُ المقعد لأنظفه و قلتُ:
" تفضَّلي "
و عندما جلستْ جلسنا جوارها ثمَّ التفتُّ إلى وليد و قلتُ:
" ندخل في الموضوع مباشرة... يجب أنْ تؤجِّل رحلة الغد و تعيد الحسابات "
قال وليد:
" لا مجال... سفري ضروري للغاية "
ثمَّ التفتَ نحو رغد و قال:
" لا يمكنني أنْ آخذكِ معي الآن يا رغد "
و ما كاد يُنهي الجملة حتى انهارتْ رغد فجأة... و كأنَّ جملة وليد كانتْ الدبوس الذي فجَّر البالون... قالتْ و هي شديدة التهيّج و تكاد تمزّق طرف وشاحها المشدود بين يديها:
" أنا لستُ متواطئةً مع خالتي... و لستُ راضيةً عمّا قالتْ... و لنْ أُحدِث أي مشاكل مع أروى بعد الآن... سأهتمُّ بدراستي فقط... لنْ أسبِّبَ لكَ أيّ إزعاج... و أي شيء سأحتاجه سأطلبه مِنْ سامر... سأبقى مُنعزلةً في غرفتي أدرس و أرسم... و سأنفِّذ كل تطلبه منِّي... لكن أرجوكَ... دعني أعود إلى بيتي و جامعتي... فأنا ليس لي غيرهما و لا أريد أنْ أتشرَّد و يضيع مستقبلي أكثر مِنْ هذا أرجوكَ... !"
و انخرطتْ رغد في بكاءٍ قويٍ مؤثِّر... كأنها كانتْ تربطه عنوةً على طرف حنجرتها و أفلتَ منها بغتةً دفعةً واحدة... كان منظرها مؤلماً جداً.
وقفتُ كما وقف أخي و سرنا مقتربين مِنْها... وصرنا أمامها مباشرة.
قال وليد:
" ما الذي تقولينه ؟! "
فقالتْ رغد بنفس الانفعال:
" سأفعل ما تطلبه منِّي لكن لا تتركني هنا أرجوكَ... أعِدني إلى بيتي و جامعتي... سأطلب مِنْ أقاربي أنْ يعتذروا مِنْكَ... الآن إذا شئتَ... و سأتصالح مع الشقراء و أنسى أنها مَنْ تسبَّب بإصابتي... قُلْ لها أنّني لنْ أزعجها أبداً و لنْ تشعر بوجودي في المنزل... أرجوكَ لا تذهب بدوني... أرجوكَ... "
كدتُ أبكي مع رغد. أخرجتُ مناديل و قدَّمتُها لها لتمسح دموعها و أنا أقول:
" رغد أرجوكِ... تماسكي "
و نظرتُ إلى شقيقي فرأيتُه يحملق فيها مُندهِشاً مِنْ سوء حالتها... ثمَّ يجلس على المقعد بجوارها و يُسنِد مرفقيه إلى ركبتيه و جبينه إلى كفَّيه و يجذب عدَّة أنفاس قوية ثمَّ يلتفتُ إليها و يقول:
" رغد... أروى لنْ تأتي معي هذه المرّة و لذلك لا استطيع أخذكِ "
فالتفتتْ رغد إليه و مسحتْ دموعها. تابع وليد:
" عندما تتحسَّن الأوضاع سنعود جميعاً... لكن الآن... صعب "
فقالتْ رغد:
" لماذا ؟ "
فأجاب أخي:
" قلتُ لكِ... لأنّ أروى لنْ ترافقنا و هي ما تزال غارقةً في الحزن على فقد والدتها رحمها الله... لا نستطيع الذهاب أنا و أنتِ و سامر... لنْ يكون هذا مقبولاً و لنْ توافق خالتكِ "
فقالتْ رغد بسرعة:
" لا تأبه بكلام خالتي "
فردّ وليد:
" ليستْ خالتكِ فحسب... إنْ كانَ هذا تفكيرها هي فكيف بتفكير الآخرين ؟ "
فردتْ رغد:
" أنا لا آبه بتفكير أحد... أنتَ في مقام أبي... وسامر أخي... أنتما عائلتي الحقيقية و ليس لي ملجأ غيركما "
" حسناً يا رغد عندما آتي في المرَّة المقبلة... ... "
و لمْ يتم كلامه لأنّ رغد قاطعته منفعلة:
" كلاّ.. لنْ يكون هناك مرّة مقبلة... سأذهب معكَ الآن... أرجوكَ لا تتركني "
فقال وليد:
" سأسافر باكراً يا رغد... لمْ نرتِّب لسفركِ و سامر "
فقلتُ:
" أجِّل سفركَ يوماً أو يومين على الأكثر و سيكون كلُّ شيءٍ مرتَّباً "
فالتفت أخي إليَّ و قال:
" لا يمكن. لدي اجتماعٌ مهمٌ للغاية صباحاً... أمرٌ مُعدٌ له بصعوبة منذ أسابيع "
فقالتْ رغد مصرّة:
" سآتي معكَ "
فنظر وليد إليها و قد علاه الانزعاج و قال:
" يستحيل ذلك الآن. سنناقش الأمر في المرَّة التالية "
فقالتْ رغد و هي تنهار مجدَّداً و تفقد تماسكها:
" أنتَ تكذب عليَّ... لا تريد أخذي معك... تماطل إلى أنْ أملَّ و أكفَّ عنْ ملاحقتكَ... قُلها صراحةً يا وليدأنّكَ لمْ تعدْ تريد كفالتي... تريد أنْ تتخلّص منِّي حتَّى تكسب خطيبتكَ و يصفو لها الجو معكَ وحدكَ "
أصابتنا الدهشة مِنْ كلام رغد... و وقفَ وليد غاضباً و هتفَ بخشونة:
" ما هذا الكلام المجنون يا رغد ؟ "
فهتفتْ رغد:
" هذهِ هي الحقيقة... لقد اخترتَها هي و تنازلتَ عنِّي... "
هنا أطلق وليد زجرة قويّة:
" رغد يكفي "
بصوتٍ عالٍ و فظٍ جداً لدرجة أنَّ رغد انتفضتْ فزعاً ثمَّ بلعتْ صوتها و كتمتْ أنفاسها، ثمَّ سار مُبتعِداً متَّجهاً إلى السيارة... ثمَّ توقَّف و استدار نحونا و قال:
" هل هذا ظنُّكِ بي يا رغد؟ فيم ستختلفين عن أقاربكِ؟ كلكم تبخسونني قدري و تسيئون إليَّ "
و أولانا ظهره و اقترب أكثر مِنْ السيارة حتى مدَّ يد ليفتح الباب و وجده مقفلاً... فركل السيارة برجله و هتف:
" تعال و افتحها "
وقفتْ رغد و نادتْ:
" وليد "
ثمَّ التفتتْ إليَّ و أمسكتْ بذراعي و قالتْ متوسلة:
" لا تدعه يذهب أرجوكَ "
عضضتُ أسناني و قلتُ:
" لا تقلقي "
ثمَّ خاطبتُ أخي:
" سأتّصل بشركة الطيران و أرى ما إذا كان لديهم مقاعد شاغرة على رحلة الغد "
و التفتُّ إلى رغد قائلاً:
" فهي رحلاتٌ يوميّة و لا بد أنَّ مقعدين على الأقل لا يزالان شاغرين "
و هذه فكرةٌ طرأتْ على بالي للتو... أنتَجها قلقي على رغد و تخوّفي مِمَّا قد يعتريها بعد هذا. حثثتُها على السير إلى أنْ صرنا عند وليد فخاطبته سائلاً:
" ما قولكَ ؟؟ "
فلمْ يجب، فقلتُ:
" دعنا نمرُّ الآن بمكتب الطيران و نرى ما يمكن فعله "
" الوقتُ متأخِّر على فكرة كهذه "
" إما هذهِ... أو امنحني تصريحاً بالسفر مع رغد و سنلحق بكَ عاجلاً "
فزفر بضيق و قال:
" افتح الأبواب "
و ركبنا السيارة و سرنا في الطريق و عندما اقتربنا مِنْ مفترق طرق أردتُ الانعطاف بالسيارة يساراً لأسلكَ الشارع المؤدي إلى مكتب الطيران فقال:
" أسلُك اليمين "
و هو الطريق المؤدِّي إلى بيت أبي حسام؛ فقلتُ:
" دعنا نمرُّ بالمكتب أوَّلاً "
" إلى المنزل يا سامر و كفى "
هنا هتفتْ رغد:
" كلا... لا أريد العودة إلى منزل خالتي... لا أريد "
فالتفتَ وليد إليها و قال:
" افهمي يا رغد هذا صعبٌ جداً الآن "
و لكنها ألحَّتْ:
" لا تسافر عنِّي... لا تفعلْ هذا بي "
أما أنا فقد انعطفتُ يساراً و انطلقتُ بأقصى سرعةٍ ممكنة في الطريق إلى مكتب الطيران.
أثناء هذا وردتْني مكالمةٌ مِنْ أمِّحسام تطمئنُّ فيها على رغد فطمأنتُها و أخبرتُها بأننا سنعود بعد قليل. توقفتُ عند مكتب شركة الطيران و فتحتُ الباب و قلتُ:
" سأتحقَّق و أعود "
و حالفني الحظ و اشتريتُ تذكرتين و عدتُ أزفُّ البشرى إلى رغد... غير آبهٍ برأي وليد. تهلَّل وجهها حينما أخبرتُها و مع ذلك أخذتْ تنظر نحو وليد -و الذي كان ينظر عبر النافذة إلى الخارج- و على وجهها القلق و كأنّها تسأله عن رأيه و تطلب موافقته. لمْ يعلِّق أخي فاعتبرنا صمته بمثابة الضوء الأخضر، و تابعنا المسير. أظنّه خاف على رغد و أدركَ إلى أي حدٍ وصلتْ بها نفسيّتها...
عُدنا أدراجنا إلى منزل أبي حسام و لمّا فتحتُ الباب لها تردَّدتْ في الخروج. و إذا بها تخاطب وليد قائلة:
" لا تفعلها و تسافر عنّا "
فأجاب:
" و هل سأقود الطيارة و أهرب مثلاً ؟ "
" لكن... إذا تعرقل سفري لأي سبب... فسوف... فسوف... ... "
فالتفتَ وليد إليها:
" فسوف ماذا ؟ "
و لمْ تكمل رغد، و خرجتْ مِنْ السيارة و رافقتُها إلى داخل المنزل و أخبرتُ العائلة بأنّنا اشترينا التذكرتين و سنسافر مع وليد.
فور أنْ أنهيتُ إعلام الخبر رأيتُ رغد تنظر إلى خالتها و تقول مهدِّدة:
" لا تحاولي منعي يا خالتي و إلا فإنني سأحبس نفسي في الغرفة إلى أنْ أموتَ و ألحق بأُمِّي "
فلمْ تتفوَّه أم حسام بكلمة. و رنّ هاتفي فإذا به أخي يستعجل خروجي و يوصيني:
" قل لرغد ألاَّ تنام دون عشاء و أنْ تتناول فطوراً جيداً قبل المغادرة صباحاً. أكِّد عليها هذا مراراً "
و نقلتُ وصيّته إليها فردّتْ و السرور يتجلَّى على وجهها:
" حاضر "
و عدتُ إلى السيارة و نظرتُ إلى أخي فرأيتُه شارداً... يفكِّر بعمق. قلتُ:
" صدّقني وليد... هذا أفضل حلٍ... و إلا فإنَّ نفسيّة رغد ستتدهور إلى الحضيض "
التفتَ أخي إليَّ و تنهّد و قال:
" لقد أحدثتَ مشكلةً كبيرةً جداً لي مع أروى يا سامر... "
سألتُه بقلق:
" أي مشكلة ؟ "
" تصرَّفتَ و كأنَّ الأمر يعني رغد فقط... و حين تعرف أروى بأنَّ رغد عائدةٌ معي فستنقلب الدنيا رأساً على عقِب "
فكَّرتُ قليلاً... بعدها قلتُ:
" إذن قلْ لها أنَّ رغد عائدةً معي أنا و ليس معكَ "
فرمقني أخي بنظرةٍ غامضة و أوشكَ على قول شيء، لكنّه حبس لسانه و لاذ بالصمت.
مِنْ الصباح الباكر... اتصلتُ بسامر لأتأكَّد مِنْ أنَّ كل شيء يسير بخير... و تناولتُ فطوري و بقيتُ جالسةً في الحديقة مع أقاربي و حقائبي، في انتظار مجيء ابنَيْ عمّي. و عندما أتى سامر... عمد إلى الحقائب يحملها... و خرج عمِّي أبو حسام لملاقاة وليد، الذي لمْ يدخل المنزل. عانقتْني نهلة بحرارة... أمّا خالتي فقد ذرفتْ الدموع و هي تضمُّني إلى صدرها، و أبقتْني في حضنها طويلاً، إلى أنْ سمعتُ صوت سامر يقول:
" هيَّا بنا "
ابتعدتُ عن خالتي، فمسحتْ على رأسي و قالتْ:
" انتبهي لنفسكِ جيِّداً يا رغد... "
أومأتُ بنعم... فالتفتتْ نحو سامر و قالتْ:
" اعتني بها و صُنْها كعينكَ يا بنيَّ... و لا تدعْ أخاكَ يقسو عليها "
فقال سامر:
" توصينني أنا يا خالتي ؟؟ "
" أذكِّر... علِّ الذكرى تنفع المؤمنين "
فأكَّد لها:
" اطمئنِّي... رغد بعنقي "
ثمَّ التفتَ إليَّ و قال:
" هيا و إلا تأخّرنا "
جلتُ بنظري لألقي نظرة الوداع على أقاربي، و افتقدتُ حسام الذي كان نائماً و لمْ ينهض لوداعي. و أخيراً... غادرتُ المنزل... و رحلتُ عائدةً إلى منزلي الحقيقي... في الجنوب. وصلنا إلى المنزل الكبير ضحىً... وليدأسرع بالاستحمام ثمَّ غادر المنزل على عجل و هو يقول:
" اهتمّ بكلِّ شيء... سأعود عصراً... اتصل بي عند الحاجة "
و اختفى بسرعة. أمّا سامر ففي البداية أخذ يتجوَّل في أنحاء المنزل مستعيداً الذكريات الماضية... و شاعراً بالألم لتذكُّر والديَّ. و لأنَّني لا استطيع صعود الدرج فلمْ أرافقه عندما واصل جولته في الطابق العلوي. إنّما ذهبتُ إلى غرفتي السفليَّة و استلقيتُ على سريري باسترخاء و أغمضتُ عيني.
آه... أخيراً أنا هنا. كأنَّ ما حصل... حلم طويل... لقد مضتْ فترة طويلة منذ غادرتُ هذه الغرفة، على أمل العودة إليها بعد أيام... و بدون الشقراء.
يا للأيام... يا للأحلام... و لم أدرِ بنفسي و أنا أستسلم لنوم عميق... عميق جداً... عوضتُ فيه سهر الليالي المؤرقة التي قضيتُها بعيداً عن وليد.
عدتُ مِنْ عملي قبيل المغرب فوجدتُ شقيقي متمدِّداً على الكنبة في غرفة المعيشة الرئيسية، غارقاً في النوم، و التلفاز مشغلاً و المصابيح مطفأة، و على الطاولة إلى جواره علبة فواكه مشكَّلة فارغة و قارورة ماء. ما إنْ هتفتُ باسمه مرتين حتّى استيقظ و راح ينظر إلى ما حوله ثمَّ يتثاءب و يمدِّد ذراعيه ثمَّ يقول:
" عُدتَ أخيراً ؟!... تأخرتَ "
فقلتُ:
" أخبرتكَ أنني سأعود متأخِّراً. كان أمامي الكثير لأنجزه اليوم "
ثمّ أضفتُ:
" و على فكرة يمكنكَ استلام وظيفتك رسمياً ابتداءاً مِنْ الغد، و قد خصّصتُ سيارة تابعة للمصنع لتستخدمها إلى أنْ نجلب سيّارتكَ مِنْ الشمال "
قال:
" عظيم... ممتاز... و أين ستعيّنني ؟ "
قلتُ:
" معي يا سامر... نائب عني و مساعدي الأوَّل "
و أضفتَ:
" مثل السيد أسامة... و أريدكَ أنْ تتقِنَ الوظيفة بسرعة لتحمل العبء معي، خصوصاً و أنَّ المنذر يطالب بإجازة منذ زمن و أنا أرفضها "
سألني أخي:
" هل أسامة المنذر هذا موضع ثقة ؟ "
" نعم، و هو مَنْ كان يدير المصنع و يرعى ثروة أروى و أملاكها إلى أنْ تسلَّمتْها. إنّه رجلٌ أمينٌ، و جديرٌ بالثقة "
" و ماذا عن بقية الموظفين ؟ الإداريين بالذات ؟؟ "
" لا أولي الثقة المطلقة في حياتي إلا لخمسة رجال؛ سيف و أبيه... وعمِّي إلياس... و السيد أسامة... و أنتَ "
ثمَّ مددتُ يدي و ربَّتُ على كتف شقيقي و قلتُ:
" و أنتَ أوَّلهم يا شقيقي... سأعتمد عليكَ كثيراً... "
ابتسم سامر و قال:
" بكل تأكيد... "
ثمَّ أضاف مازحاً:
" المهم أنْ تسبغ عليَّ الرواتب و العطايا الكريمة ! دعني أتذوَّق طعم الثراء و الترف!! "
و ضحكنا بابتهاج،ثمّ سألتُه:
" ماذا عن رغد ؟ "
فحكَّ شعر رأسه و قال:
" ربّما نائمة... لمْ أرها منذ ساعات "
" منذ ساعات ! "
" نعم فهي قد دخلتْ غرفتها المجاورة بعد انصرافكَ و لمْ تجبْ عندما ناديتها قبل أنْ أنام... "
أثارتْ الجملة قلقي فقلتُ:
" تعني أنكَ لمْ ترها منذ الصباح ؟؟ و أنا مَنْ اعتمدتُ عليكَ ؟ "
و خرجتُ مِنْ غرفة المعيشة و ذهبتُ إلى غرفة رغد و تبعني أخي. طرقتُ الباب و ناديتُها بضع مرّات فلمْ تجبْ. قال أخي:
" أظنها نائمة، فقد كانتْ مُتعبة مِنْ عناء السفر كما أنها لمْ تنم البارحة "
" يجب أنْ نتأكَّد "
و طرقتُ الباب بقوّة أكبر و هتفتُ مناديا إياها بصوتٍ عالٍ، و لم تُجِب... فما كان منّي إلا أنْ أمسكتُ بقبضة الباب و فتحتُه... و أخي يهتف:
" ماذا تفعل !!؟ "
لمْ أدخلْ الغرفة بل ناديتُ رغد بصوتٍ يعلو مرّة بعد مرّة إلى أنْ سمعتُ صوتها أخيراً يردُّ:
" نعم ؟؟ "
" رغد هل أنتِ بخير ؟؟ "
" أجل،... ماذا هناك ؟؟ "
" لا شيء، نطمئن عليكِ. معذرةً "
و أغلقتُ باب الغرفة و ابتعدتُ. لاقاني أخي بنظرات استهجان فشرحتُ له:
" داهمها الإغماء مِنْ قبل و شارفتْ على الموت، بسبب الجوع "
و اتجهتُ إلى المطبخ و جلستُ على أحد المقعد أرخي أعصابي و عندما لحق بي أخي قلتُ:
" ستكون الخادمة هنا غداً. و سأعمل على توظيف طاهية أيضاً "
قال سامر متجاوباً:
" على ذكر الطعام أنا أتضوَّر جوعاً "
و اتصلنا بأحد المطاعم و طلبنا وجبة غنية تناولنا نصيبنا أنا و أخي منها فور وصولها.
" أين سأنام ؟ "
سأل أخي و نحن على مائدة الطعام، فأجبتُ:
" في أي غرفة تشاء... لكن الغرف بحاجة إلى تنظيف أولاً و غرفتكَ السابقة ظلَّت مقفلة. استخدم غرفتي الليلة "
" و أنتَ ؟ "
" أنام في غرفة المعيشة على مقربة مِنْ رغد. فهي تخشى المبيت بفردها في الطابق الأرضي "
و فوجئتُ بأخي يرد:
" إذن لا بأس. سأنام في غرفة المعيشة و ابق أنتَ في غرفتكَ "
و كتمتُ في صدري شيئاً لمْ أشأ إخراجه ساعتها.
و مع مرور الأيام بدأتْ تصرُّفات أخي تزعجني... فهو نصَّب نفسه مسؤولاً أوَّلاً عن رغد و حلَّ مكاني في رعايتها. كنّا نتناوب في الذهاب للعمل و البقاء في المنزل مع رغد، و كنتُ أسهر كل ليلة لمتابعة العمل أولاً بأوّل. و مع الوقت تحسَّن وضع رغد أكثر وصار بالإمكان أنْ تعود إلى الجامعة، حسب رأي الطبيب.
أمّا أنا فسأضطر للذهاب إلى المزرعة نهاية هذا الأسبوع، لأعالج مشاكلي مع أروى... و التي ترفض الحديث معي منذ ليلة العشاء الذي أفسدتُه قبل سفري...
شهقتُ مندهشة لمّا أعلمنا وليد عن نيّته في الذهاب إلى المزرعة غداً... و رجَّحتُ أنْ يكون الهدف هو جلب الشقراء. لمْ استطع شيئاً و كتمتُ اعتراضي في داخلي. لا يهمُّ إنْ كانتْ الشقراء ستأتي... لا يهمُّ إنْ كانتْ قد انتصرتْ عليَّ؛ المهم أنْ أبقى تحت سقفٍ واحد مع وليد و أحظى برؤيته كل يوم. إنني رأيتُ الموت مِنْ دونه... و سأقبل بأي شيء لقاء أنْ أظلَّ على مقربة منه و يظل طيفه يجول مِنْ حولي. و منذ أنْ أخبرنا بالخبر و أنا واقفةٌ على أعصابٍ مشدودة في انتظار ما ستسفر عنه سفرته هذه.
لمْ يكن وليد يجالسني أو يتحدَّث معي إلا بكلام عابر، و كان يقضي معظم الوقت في مكتبه يعمل. كنتُ سأجنُّ لو أنّه لمْ يُحضرني معه. لمْ تكنْ شمس النهار التالي لتطلع عليَّ و بي عقل... بعد مقابلته البليدة عند بوابة منزل خالتي...
على فكرة... نظارته الشمسية أصبحتْ ملكي الآن !
اتفقنا أنا و زميلتي مرح على أنْ نحضر اليوم لزيارتي، و تجلب معها بعض المحاضرات الهامة لأطلع عليها. سأعود للجامعة قريباً و أشغل وقتي في الدراسة مِنْ جديد... و أبعد عن رأسي التفكير في الشقراء. الساعة الآن الواحدة ظهراً و نحن - أنا و سامر - نتناول طعام الغذاء في المطبخ... و وليد في عمله.
" ما بك يا رغد ؟؟ فيم أنتِ شاردة ؟؟ "
سألني سامر و هو يرى يدي تقلّب الحساء بالملعقة طويلاً... دون أنْ أرشف منه شيئاً. قلتُ تلقائياً:
" هل تظن أنَّه سيُحضِرها معه ؟؟ "
فردّ سامر:
" أظن ذلك، و هذا شأنهما "
فازداد توتّري... فقال سامر:
" مِنْ الطبيعي أنْ يجلب زوجته معه "
تناولتُ رشفة مِنْ الحساء بلعتُها و دون أنْ أشعر بطعمها... ثمَّ قلتُ:
" المهم... أنْ تقبل بوجودي... لأنّ وليد... فيما لو رفضتْ... سيعيدني إلى خالتي "
فاستغرب سامر و قال:
" و ما علاقة هذا بذاك ؟؟ "
" إنها لا تريد أنْ أعيشَ معهما "
" أهكذا ؟ "
" نعم. لأنّ الانسجام بيني و بينها مستحيل "
تجلَّى على سامر بعض التردد ثمَّ تجرّأ و سأل:
" هل تدرك هي أنّكِ... ... "
طأطأتُ رأسي و نظرتُ إلى وعاء الحساء الموضوع أمامي حرجاً... ففهم سامر إجابتي. سامر يفهمني جيداً... و هو معي دائماً صريحٌ و مباشِر، ليس فيه الغموض و لا ينشر الحيرة و التساؤل و الذهول أينما حلَّ، كما هو وليد...
قال بعد صمتٍ قصير:
" إذن وليد يعرف... الآن تأكَّدتُ "
فرفعتُ بصري إليه و سألتُ:
" يعرف ماذا ؟؟ "
فهوى ببصره إلى أطباق طعامه و تظاهر بالانشغال بتقطيع قطعة اللحم... و قال:
" أنّكِ تحبّينه "
شددتُ على يديَّ و فارتْ الدماء في وجهي و أبعدتُ نظري عن عيني سامر و قلتُ بصوتٍ ضعيف:
" أأأأ...لا... ليس كذلك "
و أمسكتُ بطرف مفرش مائدة الطعام و جعلتُ أشدُّ و أرخي فيه باضطراب. سامر وضع قطعة اللحم في فمه و راح يمضغها ثمَّ بلعها و قال:
" بل يعرف "
فرفعتُ إليه بصري باهتمام فوجدتُه يرفع كأس العصير و يشرب جرعةً منه... متظاهراً بالبرود...
قلتُ:
" كيف ؟ "
قال و هو يتابع تناول طعامه:
" هو ليسَ بهذا الغباء "
و أحسستُ بقلبي يخفق بقوّة... هل يمكن أنْ يكون وليد... قد اكتشف أنَّني أحبُّه... أكثر مِنْ حبِّ ابنة لأبيها؟؟ و فيما أنا شاردة في تفكيري سمعتُ سامر يقول بجديّة:
" لكن ذلك لنْ يغيِّر شيئاً يا رغد. وليد رجلٌ متزوِّجٌ و يكبركِ بعشر سنين... هو يعتبركِ ابنة أو أُختاً صغيرة يتيمة تكفَّل برعايتها، لا أكثر. لذلك عاملكِ بقسوة كي تستفيقي مِنْ غفلتكِ "
فقدتُ شهيتي للطعام فجأة و توجّم وجهي حزناً. و لاحظ سامر التغيرات التي اعترتْني فوضع شوكته جانباً و خاطبني بنبرة أكثر جديّة و واقعيّة:
" يا رغد... ستستفيقين يوماً و تدركين أينَ كنتِ تتخبّطين. لكنّني لا أريد أنْ تُصابي بصدمةٍ قاسية. فكِّري ملياً في وضعكِ و قيِّمي الأشياءَ تقييماً عقلانياً و ليس عاطفياً بحتاً. ما هي نهاية حبِّ رجلٍ مرتبطٍ بفتاةٍ أخرى، لا يملك أيَّ سبب ليتخلَّى عنها ؟ و لا أي دافعٍ ليفكِّر في غيرها "
أصبتُ بعُسر هضم و تلوّتْ معدتي... و رفعتُ عينيّ بانكسار و أبرزتُ يديّ على المائدة و قلتُ:
" حتّى لو تزوَّجها... سأبقى معه... تحتَ وصايته "
" ستكبرين... و لنْ تحتاجي وصيّاً... و هو سيتزوَّج و يكرِّس جهده لعائلته الجديدة. هذا هو المسار الطبيعي للحياة "
" و أنا ؟؟ "
فصمتَ سامر... ثمَّ قال:
" أنتِ أيضاً... ستتزوَّجين و تعيشين حياتكِ... مع مَنْ يستحقُّكِ و يقدِّركِ "
و تبادلنا نظرات عميقةً... ثمَّ قال:
" القرار بيدكِ "
فأخذتُ أنظر إلى يديَّ... أتأمَّل راحتيهما... و الخطوط التي تملأهما و كأنَّني أفتِّش عن القرار بينها... و أراهما خاليتين جوفاوين... لا تحملان شيئاً.
مددتُهما نحو سامر أريه باطنهما الأجوف و أنا أقول:
" يداي لا تملكان شيئاً "
فمدَّ سامر يده نحو يدي و قال:
" ما في يدي هو مُلككِ "
و كانتْ عيناه تحملقان بي تملؤهما المعاني العميقة. شعرتُ بمرارة في حلقي... كأنني تجرّعتُ دواءاً مركَّزاً... و انهارتْ تعبيرات وجهي أمام نظرات سامر فإذا بي أقول دون تفكير:
" ألا زلتَ تحبِّني ؟ "
و كانتْ إجابته بأنْ شدَّ قبضة يده و أغمض عينيه كمَنْ يعتصر ألماً...
نعم يحبُّني... أعرف ذلك... كان مهووساً بي... يغمرني بلطفهِ و يُمطِرني بهداياه و يغلِّفني بعواطفه. لمْ يكنْ خطيبي فقط... كان أخي و صديقي المقرَّب... و كان يشاركني كل شيء... و لمْ أشعر يوماً و هو معي بأنني بحاجة لأي شيء... لماذا لا تزال تحبُّني يا سامر... بعد ما فعلتُه بكَ... ؟؟ آه... كم يؤلمني قلبي... كمْ يقرصني ضميري... كم أنا أنانية... كم أنا حزينة مِنْ أجلكَ...
رفعتُ رأسي أريد أنْ أرمي به إلى الوراء لعلَّ الأحزان تتساقط منه... فإذا بعينيَّ تقعان فجأةً على وليد...!! جفلتُ و سحبتُ يدي نحو صدري أمسِكُ نَفَسي الذي انحشر فجأة في شعيباتي الهوائية إثر ظهور وليدالمباغت... و أحسَّ سامر بحركتي السريعة ففتح عينيه و التفتُ إلى الوراء... إلى الباب... فوجد وليد يقف هناك...
" أهلاً وليد... كيف كان يومكَ ؟ "
بادر سامر بالسؤال فردّ وليد:
" كان حافلاً جدا ً "
" قرصنا الجوع فشرعنا بالأكل قبلكَ "
" بالهناء و العافية "
و توجَّه نحو المغسل فغسل يديه و أقبل و اتخذ مقعده... على رأس المائدة...
" ماذا لدينا اليوم ؟ "
فأجاب سامر متظاهراً بالمرح:
" مشويات طلبناها مِنْ مطعم... و حساء أعدّته رغد "
فطأطأتُ رأسي خجلاً مِنْ الحساء المتواضع الذي أعددتُه... و بدأ وليد يعدُّ أطباقه و سكب لنفسه شيئاً مِنْ الحساء... و أخذ يرتشفه... و لمْ ينطقْ بأي تعليق. و سامر عاد يتناول طعامه و يطرح على وليد الأسئلة حول العمل... حيث أنّه سيذهب بعد قليل... و يجيبوليد أجوبة مختصرة... إلى إنْ سمعتُه يقول:
" لِمَ لا تأكلين ؟ "
انتبهتُ على سؤاله فرفعتُ رأسي و نظرتُ إليه نظرةً سريعة ثمَّ أخفضتُ رأسي و أجبتُ بصوتٍ خافت:
" اكتفيتُ، الحمد لله "
و أمسكتُ بعكَّازي الموضوع إلى جواري و قمتُ عن المائدة. سامر قال:
" لمْ تأكلي شيئا رغد "
فقلتُ:
" الحمد لله "
و سرتُ متَّجهةً إلى الباب، فاستوقفني صوت وليد يقول:
" على فكرة هل لديكِ استعداد لزيارة الطبيب اليوم ؟ "
فتذكَّرتُ صديقتي مَرَح و قلتُ و أنا لا أجرؤ على رفع بصري إليه:
" اليوم ؟ أأأأ ...ستأتي مَرَح لزيارتي "
فقال:
" ماذا عن الغد أو بعده ؟ "
" بعد الغد... "
" لا بأس "
ثمَّ تابعتُ طريقي إلى غرفتي. فيما بعد زارتْني صديقتي مَرَح، و علمتُ منها أنَّ المعرض الفنّي الذي سبق و أنْ أخبرتْني عنه، و الذي يقيمه أخوتها، مُقامٌ الآن، و أنّها شاركتْ فيه بإحدى لوحاتها، و تمنَّتْ لو أنّني تمكّنتُ مِنْ المشاركة أيضاً.
" يا ليت! خسارة!! كنتُ أحلم بالمشاركة "
" صحيح خسارة، لكن اطمئنّي، فأخي عارف مهووسٌ بإقامة المعارض، و لنْ يفوتكِ معرضه التالي "
و ابتسمتْ و أضافتْ:
" حصلتْ إحدى لوحاته على المرتبة الأولى، و سيُقام حفل تكريم خاص على شرفه غداً "
" عظيم ! "
" أنا و زميلاتنا سنحضر الحفل. رغد ألا يمكنكِ المجيء؟ "
أشرتُ إلى جبيرتي و قلتُ:
" مع هذه؟ صعب ! "
" حاولي ! سأساعدكِ "
" يا ليتَ. كم أتوق لرؤية اللوحة الفائزة و بقية اللوحات المبهرة... و الفنانين المبدعين ! "
قالتْ مرح و هي ترفع يديها نحو فكِّها و تشبك أصابعها:
جاء شقيقي سامر مساءاً يحمل معه عشاءاً مِنْ أحد المطاعم و كيساً يحوي معتبرة مِنْ كرات البوظة المختلفة الأنواع قال عنها:
" و هذه لرغد ! ستدهشها "
و ذهب مباشرةً ليريها إيَّاها... و لأنَّ المطبخَ قريبٌ مِنْ غرفة رغد فمِنْ السهل سماع الحوار الذي يدور عند الباب... كانتْ مسرورة... و سمعتُ ضحكتها و ضحكة سامر تنطلقان بمرحٍ و تطرقان أذنيَّ بتحدّي. و على مائدة العشاء كانا يأكلان بشهيّة و يتبادلان الحوار بأريحية، و كأنّهما نسيا أنّهما لمْ يعودا مرتبطين. تجاهلتُ ذلك و خدَّرتُ أعصابي لتمرّ الليلة بسلام.
و قبل أنْ آوي إلى فراشي باكراً عاودتُ الاتصال بالمزرعة و تفقُّد أحوال أروى و العم إلياس. و قد رفضتْأروى التحدّث معي و طلب عمِّي منِّي الحضور لحلِّ المشكلة... فأخبرتُه بأنني سأعود نهاية الأسبوع كما خططتُ.
أويتُ إلى فراشي و بعد منتصف الليل استيقظتُ بسبب ألم معدتي. ذهبتُ إلى المطبخ لأتناول دوائي و أشرب الماء و سمعتُ صوت التلفاز في غرفة المعيشة... توقّعتُ أنْ يكون أخي قد نام تارِكاً الجهاز مشغلاً و ذهبتُ بقصد إيقافه و فوجئتُ حين أطللتُ برأسي فرأيتُ أخي و رغد يشاهدان التلفاز معاً... و يلتهمان الفشار و البوظة...
و لمْ أجد أي تعليق أعقِّب به... فانسحبتُ و عدتُ إلى فراشي. لكن معدتي شاءتْ تعذيبي ساعةً مِنْ الزمن حتّى هدأتْ... و سلَّمتني للأفكار و الهواجس... تلعب بي بقيّة الليلة...
سامر و رغد، عادتْ علاقتهما تنتعش و تُزهِر بسرعة، و نواقيس الخطر أخذتْ تدقُّ في رأسي...
رتّبتُ للسفر إلى الشمال يوم الغد الخميس، على أنْ أعود ليلة السبت. كان لابدّ مِنْ العودة إلى أروى و حلِّ المشاكل العظمى معها. و قد كنتُ مداوماً على الاتصال بالمزرعة غير أنّها تهرّبتْ مِنْ مكالماتي و لَمْ يصف لي عمِّي إلياس عنها حالاً مطمئِنة. وصلتْ الخادمة إلى منزلنا هذا الصباح و سأكون مطمئناً للسفر و تركها للعناية برغد، مع أخي.
الانسجام التام يسود علاقتهما و المسافة بينما تصغر. و أنا مضطرٌ لتقبُّل الوضع و السكوت، إذْ لا خيار أفضل عندي...
" أخيراً انتهينا "
قلتُ و أنا أغلِّق آخر الملفات خاتماً عمل هذا اليوم، و الذي كان طويلاً مرهقاً. ابتسم السيد أسامة و قال:
" أعطاكَ الله العافية "
" عافاكَ الله، شكراً على جهودك "
شدَّ السيّد أسامة ابتسامته و قال:
" لا شكر على واجب "
ثمَّ قال:
" بهذا نكون قد انتهينا مِنْ هذا المشروع على خير و لله الحمد. هل بقي شيء ؟ "
" لا. و لا أريد أنْ نبدأ عملاً جديداً قبل أسبوعين على الأقل. أريد أنْ استرخي "
فقال:
" أراحكَ الله. إذن... ليس لديكَ عملٌ شاغلٌ هذا المساء "
" سأنعم بنوم طويل و هانئ يريحني قبل السفر "
فقد كنتُ خلال الأسبوع الماضي أعمل ليلاً و نهاراً... و أحياناً أسهر إلى ساعةٍ متأخِّرة على حاسوبي و بين وثائقي. كان أسبوعاً حافلاً جداً.
قال السيّد أسامة:
" هل يناسبكَ أنْ أزوركَ الليلة ؟ "
فنظرتُ إليه... و ابتسمتُ و قلتُ:
" مرحباً بكَ في كل وقت. تشرّفنا أنّى حللتَ "
" الشرف لنا سيِّد وليد. شكراً لكَ. إذن سنزوركَ أنا و أخي "
و عندما عدتُ إلى المنزل، أخبرتُ شقيقي عن الضيفين و طلبتُ منه العودة باكراً ليستضيفهما معي. و في العصر اصطحبتُ رغد إلى الطبيب الذي كان يشرف على علاجها قبل سفرها إلى الشمال، فأعطانا موعداً لنزع الجبيرة بعد أسبوع.
في المساء حضر السيد أسامة مع السيد يونس، يرافقهما الأستاذ عارف، ابن أسامة الأكبر، و هو فنان و يعمل كمدرّس رسم في أحدى المدارس.
قضينا مع الضيوف وقتاً طيّباً تجاذبنا فيه الأحاديث الممتعة و تبادلنا التعارف أكثر فأكثر. و قد سُرّ الأستاذ عارف كثيراً عندما اكتشف معرفته المسبقة بسامر و لمْ يكن قد ميَّزه مباشرةً لأنّ أخي قد أجرى عملية تجميل في عينه اليمنى، و التي كانت مشوّهة منذ الطفولة.
و جيء بذكر معرضٍ فنّي شارك فيه عارف، و فازتْ لوحةٌ له بالمرتبة الأولى، و احتفى به جمهوره في حفل عظيم! و اتّخذ الحديث مجراه حول المعارض و مهارة الرسام عارف و موهبته النادرة، و كيف يعلِّم طلبته في المدرسة و كيف هي علاقته بهم و بزملائه المدرسين و الفنانين و بأصدقائه و معارفه و ما إلى ذلك... حتّى خشيتُ أنْ يكون هذا الأستاذ مُصاباً بداء الغرور أو أنَّ أباه و عمِّه مولعان به لأقصى حد !
دار الحديث عن عارف و كأنّه نجم السهرة ! لمْ أجد تفسيراً لهذا الاستعراض الغريب إلى أنْ فوجِئتُ بالسيّد أسامة يقول:
" سيكون مِن دواعي سرورنا و تشرّفنا أنْ نناسبكم "
دقّتْ نواقيس الخطر في رأسي فجأة... حملقتُ في السيد أسامة بذهول... ثمَّ التفتُ إلى شقيقي فرأيتُه لا يقلُّ ذهولاً عنِّي... ارتبكتُ و لمْ أعرفْ إلى أين أرسل نظراتي... و إذا بي أسمع يونس يقول:
" يشرِّفنا أنْ نطلب يد كريمتكم لابننا الغالي عارف... عسى الله أنْ يوحِّد النصيب و يجعل البركة فيه "
صعِقتُ... ذهِلتُ... شُللتُ فجأة... غاب دماغي عنْ الوعي... و غشيتْ عينيَّ سحابةٌ سوداء داكنةٌ حجبتْ عنّي رؤية أي شيء...
مرّت لحظة و أنا في حالة الذهول الشديد... لا أفقه ما يدور مِنْ حولي !! و سمعتُ صوت السيد أسامة بعدها يقول:
" يبدو أنَّ الموضوع فاجأكَ ! "
فاجأني فقط ؟؟ أتريد أنْ تُفقِدني صوابي؟؟ كيف تجرؤ!! تخطب فتاتي منِّي؟؟ هل أنتَ مجنون؟؟ هل كلّكم مجانين؟؟ ألا ترون؟؟ ألا تسمعون ما يقول هؤلاء؟؟
شددتُ على يديَّ و تمالكتُ أعصابي لئلاَّ أنكبُّ على الضيوف صفعاً... عضضتُ على أسناني و جررتُ بضع كلمات مِنْ لساني أخرجتُها عنوةً:
" أأ... فاجأتَني جداً...!!! "
ثمَّ سألتُ، في محاولة غبيّة لتفسير الموضوع على غير ما هو واضح:
" مـ... مَنْ تعني ؟؟ "
تبادل السيدان أسامة و يونس النظرات ثمَّ أجاب أوّلهما:
" كريمتكم... ابنة عمِّكَ... ليس لديكم غير ابنة عمٍ واحدة على ما أعرف "
التفتُّ إلى أخي فوجدتُ الاحمرار يلطِّخ وجهه... كان صامتاً متسمِّراً في مكانه، كتمثالٍ شمعي يوشك على الانصهار...
ما بكَ ؟؟ ألا تسمع؟؟ ألا تعي ؟؟ يريدون خطبة رغد منِّي!! هل أضحك ؟؟ هل أصرخ ؟؟ قُل شيئاً... افعل شيئاً...
قال أسامة:
" يبدو أنّ الفتاة لمْ تخبركما "
و أضاف:
" فابنتي قد حدّثتها حسب علمي "
و أردف:
" و كنّا نرغب في فتح الموضوع منذ زمن و لكن كريمتكم أُصيبتْ و سافرتْ لفترة... أمّ عارف كانتْ ستزوركم لو كانتْ حرمكم هنا "
و تكلَّم المحامي يونس قائلاً:
" أردنا أنْ نؤجِّل لحين حضورها بالسلامة لكن... "
و نظر إلى الأستاذ عارف و هو يبتسم متمماً:
" عارف ألحَّ علينا لتعجيل الخطبة ! "
فعقّب عارف في خجل:
" خير البر عاجله "
كل هذا و أنا جامدٌ في مكاني... كالجبل...
أحسستُ بالاختناق... ففتحتُ ربطة عُنقي و تحسَّستُ نحري... كان حاراً يسبح في العرق... زفرتُ آخر نَفَسٍ جذبته مع شهقة المفاجأة... فخرج بخاراً ساخناً مِنْ فرط اشتعالي...
اهدأ يا وليد... تمالكْ نفسكَ يا وليد... هؤلاء... المجانين... لا يعرفون شيئاً.... سايرهم على قدر فهمهم... و احترم كونهم ضيوفكَ... اصبر إلى أنْ يغادروا... ثمَّ انسف المنزل بمَنْ فيه...
قال السيد أسامة مستدراً ردّي:
" أ نقول على بركة الله ؟؟ "
أي مبروك يا هذا ؟ أمسكْ لسانكَ و إلا......
و أمسكتُ أنا بلساني و قلتُ:
" على رسلكَ... الموضوع مفاجئ و... لمْ أستوعبه بعد "
فقال المحامي يونس:
" خذوا وقتكم... الشاب كتابٌ مفتوح و اسألوا عنه مَنْ تشاءون. و سنكون غاية في السرور إذا ما توافق النصيب و ارتبطتْ العائلتان بهذا النسب المشرِّف "
ثمَّ تمتمَ هو و أخوه و ابن أخيه بكلامٍ لمْ يجدْ في ذاكرتي متَّسعٍ لتخزينه فضلاً عنْ سماعه... و أخيراً شكرونا على حسن الضيافة، و استأذنوا منصرفين...
غادر الضيوف... مخلِّفين خلفهم صمتاً موحشاً...
مرَّتْ الدقيقة تلو الأخرى... و نحن... أنا و شقيقي في حالة تيهٍ و تشتُّت... كان أحدنا يلقي بنظرة على الآخر بين الفينة و الفينة... منتظراً منه أي تعليق، و لا تعليق...
أخيراً سمعنا صوت حركة في المنزل... تحديداً... كان صوت اصطفاق عكّاز رغد بالأرضية الرخامية... و كان الصوت يقترب منّا... حتّى توقَّف... عند الباب.
التفتْنا إلى الباب مترقّبَين ظهور وجه رغد... فسمعنا صوتها يقول:
" هل أدخل ؟ "
و لمْ يجبْ أيّنا... ثمَّ سمعناها تنادي باسمينا... و لا مِنْ مجيب، فقد أكلتْ الصدمة لسانينا. ربّما شكّتْ رغد في وجود أحد في الغرفة فأطلّتْ برأسها بحذر و اندهشتْ حين رأتْنا نحن الاثنين جالسَين في الداخل، واجمين و كأنَّ على رؤوسنا الطير...
قالتْ:
" ماذا هناك ؟؟ "
تبادلنا النظرات أنا و أخي، ثمَّ تجرّأ لساني و نطق:
" لا شيء... "
لكن رغد و هي تحملق فينا أحسَّتْ بأنَّ في الأمر شيءٌ... أو ربّما كانتْ تعرف أصلاً ماذا هناك، و تتظاهر بالجهل... ألمْ يقل أسامة أنَّ ابنته أخبرتها؟؟
قلتُ:
" تفضّلي رغد "
فسارتْ بحذر حتّى جلستْ على أحد المقاعد، و نقلتْ بصرها بيننا ثمَّ سألتْ:
" هل حصل شيء ؟؟ لا تبدوان طبيعيين ؟! "
و هل تتوقّعين منِّي أنْ أبدو طبيعيّاً... و قد غادر المنزل خاطبٌ لكِ قبل قليل؟؟ لماذا يا رغد ؟؟ لماذا تفعلين هذا بي؟؟ لماذا أنتِ مصرَّة على الخيانة؟؟ يئستِ مِنْ حسام ففتّشتِ عنْ غيره؟؟ إنّني سأقتله قبل أنْ يتمكَّن أي رجلٍ مِنْ الصول إليكِ... سأبيدهم جميعاً...
عادتْ رغد تسأل:
" ماذا ؟؟ "
فنطقتُ أخيراً و عيناي ملؤهما الغضب:
" رغد... هل تعرفين مَنْ الضيوف الذين زارونا الليلة ؟؟ "
و قبل أنْ تُجيب نطق أخي رادعاً:
" ليس وقتُه وليد "
تجاهلتُ كلام أخي، أما رغد فقد ألقتْ عليه نظرةً حائرة ثمَّ عادتْ إليَّ و قالتْ:
" كلا... ما أدراني ؟؟ "
فقلتُ و أنا أعضّ على أسناني:
" إنه السيد أسامة المنذر... والد صديقتكِ "
و تفحّصتُ عينيها بدقَّة لأرصد أي تعبير يظهر منهما دالاً على أي شيء... و لمْ أجدْ غير الحيرة و التساؤل... قلتُ بذات الحدّة و الشرر المتطاير مِنْ عينيَّ:
" أتعرفين مَنْ جاء برفقته؟؟ "
فهتف أخي بانفعالٍ:
" ليس وقته يا وليد دعنا نناقش الأمر فيما بيننا أنتَ و أنا أولاً "
فالتفتْنا إلى شقيقي... هي تعلوها الحيرة و أنا يجتاحني الغضب. سامر نظر إلى رغد و قال:
" رغد عودي إلى غرفتكِ مِنْ فضلكِ "
تأمّلتْه رغد بقلقٍ ثمَّ نظرتْ إليَّ و علائم التعجّب تحيط برأسها مِنْ كل جانب. سألتْ:
" ماذا هناك ؟؟ "
فتولّى أخي الإجابة قائلاً:
" لا شيء يا رغد. مِن فضلكِ اذهبي الآن "
و أنا صامتٌ لا أعلِّق... فتفاقم القلق و الحيرة على وجهها و وجّهتْ إليَّ السؤال:
" ما الخطب وليد؟؟ "
فابتلعتُ غيظي و حبستُه في جوفي و قلتُ محاولاً أنْ يظهر صوتي لطيفاً قدر الإمكان:
" عودي إلى غرفتكِ "
و أرادتْ أنْ تجادلني و لكنّها رأتْ الإصرار في عينيَّ و الشرر المتطاير منهما... فتراجعتْ... و قامتْ و غادرتْ الغرفة.
بعد ذهابها قام سامر و أغلق الباب ليضمن عدم تسرُّب صوتينا إليها ثمَّ قال:
" و الآن... ما موقفكَ ؟ "
رفعتُ رأسي إلى أخي و قلتُ:
" أي موقف بعد ؟ "
فقال:
" أعني فيمَ تفكّر ؟ "
فأطلقتُ زفرة ضيق مِنْ صدري و مرَّرتُ أصابعي بين خصلات شعري مشتتاً... ثمَّ أجبتُ:
" الأمر... خلف حدود التفكير أصلاً... إنّما أنا مُفاجأ... لمْ يذكر لي السيّد أسامة شيئاً... و لا حتَّى بالتلميح أو الإشارة... أنّهم يفكِّرون بهذا... مع أنَّ.. خالتي متوفَّاة مؤخَّراً... "
قال أخي:
" و رغد ؟؟ "
نظرتُ إليه نظرة مطوّلة... شاعراً بأنَّ في صدري خنجراً يُغرس و يُنزع و يُغرس مراراً و تكراراً... مِنْ رغد...
سألَ:
" أتظنّها تعرف ؟ كما قال أسامة ؟؟ "
زممتُ شفتيَّ غيظاً ثمَّ قلتُ و أنا أضغطُ على أسناني أخرج الحروف مِنْ بينها:
" لا استبعد.. واردٌ جداً... "
قال أخي:
" لا... لا أظنّ "
فرميتُه بنظرة اعتراض فقال:
" رغد لنْ تفكِّر في هذا "
فقلتُ و أنا أحاول السيطرة على نفسي قدر الإمكان:
" بل تفكِّر... و الله الأعلم بما يدور في رأسها و ما الذي تخطِّط له... إنّه ليس العرض الأوَّل... "
و انتبهتُ إلى أنّني تهوّرتُ في الإفصاح عمّا في نفسي... فسألني أخي:
" ماذا تعني... بأنّه ليس العرض الأوَّل ؟؟ "
و كان التعجُّب و الهلع يغمران وجهه... فقلتُ مُنسحِباً:
" لا يهمّ. الفتاة ليستْ للزواج على أيّة حال. و الموضوع مستبعدٌ تماماً إلى أنْ تُنهي دراستها الجامعية "
و صمتنا برهة، أحسستُ بوجه شقيقي يسترخي، ثمَّ سألني و التردد يُلحظ على نبرة صوته:
" و بعد ذلك ؟ "
بعد ذلك ؟؟ بعد ذلكَ ماذا ؟؟ لمْ أجدْ جواباً لكنّ نظرات أخي راحتْ تطاردني فاضطررتُ لقول:
" لنْ نفكِّر الآن فيما بعد ذلك. نترك الموضوع برمَّتِه إلى أوانه. الآن... هي ستدرس فقط و فقط "
لمْ يبدُ أنَّ شقيقي اقتنع بالتوقف هنا، كان واضحاً في عينيه المزيد مِن الكلام... و إذا به يقول:
" و ستنتهي الدراسة ذات يوم... و ربَّما يَقبَل عريسُ الغفلة هذا بالانتظار، أو ربَّما... ربَّما يزوركَ عرسانٌ آخرون... هكذا هي الطبيعة..."
هببتُ واقفاً مِنْ تأثير الكلمة عليَّ... أي عرسان و أي آخرين؟؟ هذا ما كان ينقصني... أردف أخي قائلاً:
" أجل... فهي فتاةٌ رائعة... ابنة عائلة راقية و عالية الأخلاق و طيِّبة السمعة... و لها مواصفات مرغوبة و لنْ تخطئها العين الباحثة عنْ عروسٍ مثالية "
فرددتُ بعصبيّة:
" ماذا تعني ؟؟ "
فوقف أخي و قال:
" أعني أنّه سيأتي اليوم المناسب و الظروف المناسبة لتوافق على زواج رغد... مهما طال الأمد فهذه سنَّة الحياة "
رددتُ بانفعال:
" قلتُ أنَّ الموضوع سابقٌ جداً لأوانه... لماذا أشغل دماغي في التفكير به أو الحديث عنه ؟؟ لِمَ لا ننهي الحوار العقيم هذا ؟؟ "
قال أخي:
" أريد أنْ أعرف فقط... ما هو موقفكَ مِنْ زواج رغد مستقبلاً ؟ "
قلتُ بضيق:
" و لِمَ أنتَ مهتمٌ هكذا ؟ "
فأجاب أخي و قد تبدّلتْ تعبيرات وجهه إلى المرارة... و فضحتْ خوالجه قبل أنْ يفصح عنها لسانه:
" لأنني أنا... أولى بها مِنْ أي شخصٍ آخر... و إنْ كنتَ ستزوِّجها ذات يوم... فيجب أنْ تعيدها إليَّ "
و اجتاحتْ قلبي زوبعةٌ مجنونة... لفَّت به مئة مرّة حول المنزل... و رشَّتْ دماءه على أسواره و جدرانه... و سقتْ الحديقة الخلفية الجرداء... و عادتْ إليَّ.. خالية اليدين...
كان أخي يحدّق بي... ينتظر ردّة فعلي و التي أكاد أعبّر عنها بقبضتي...
كيف تجرؤ يا سامر..؟؟ ألمْ تكفِ الضربة المدمِّرة التي تلقّيتُها قبل قليل؟؟ أنتَ أيضاً تتحدَّث عن أخذها منِّي؟؟ هل خلتْ الدنيا مِنْ النساء... إلا رغد ؟؟ لماذا يريد الجميع سرقتها منِّي؟؟ هل يستكثرون عليِّ أنْ أحظى في هذه الدنيا بها ؟؟ أنا لا أريد مِنْ الدنيا شيئاً غيرها... إنّها خُلِقتْ لي أنا... كيف يتجرؤون على التفكير في شيءٍ يخصُّني أنا؟؟ رغد هي فتاتي أنا... هي جزءٌ منِّي أنا... حبيبتي أنا... حُلُمي و واقعي أنا... و ستكون و تظلُّ لي أنا... أتسمعون؟؟ لي أنا... أنا و أنا فقط...
كان سامر لا يزال ينتظر ردّي... و إنْ هو تأمّل التغيرات التي اجتاحتْ قسمات وجهي لأدركَ مدى خطورة جريمته.. لكنّني أوليتُه ظهري و خطوتُ نحو الباب، محاولاً الابتعاد قبل أنْ أفقد السيطرة على يدي.
سامر ناداني:
" وليد إلى أينَ ؟ "
فقلتُ دون أنْ أستدير إليه:
" النقاش منتهٍ. و لا تعدْ لفتح الموضوع ثانيةً أبدا ً "
لكنّ أخي لمْ يستمع لكلامي بل قال مردفاً:
" أريدكَ أنْ تجيبني فقط على هذا السؤال... هل ستعيدها إليَّ ؟ "
ثار بركاني لأقصى حد... و لا بد أنّكم ترون الدخان الأسود يتطاير مِنْ جسدي... رددتُ و أنا لا أزال مولياً إيّاه ظهري:
" سامر قلتُ لكَ و أكرِّر و للمرّة الأخيرة... لا تتحدَّث في الموضوع ثانيةً، و التزم الصمت أسلم لكَ "
فقال سامر بعصبيّة:
" لنْ يدوم صمتي طويلاً... لقد تعبتُ مِنْ هذا يا وليد... إمّا أنْ تعطيني أملاً في أنْ تعيدها إليَّ كما فرّقتَها عنّي... و إلا فإنّني لنْ أستمر في العيش معكما و تمثيل دور البليد... أنتَ لا تشعر بمقدار ما أعانيه "
هنا... انطلقتْ شياطين رأسي أخيراً و باندفاع جنوني... لا استطيع السيطرة على نفسي... لا استطيع... التفتُ إلى أخي و رشقتُه بسهامٍ حادّة... ثمَّ سرتُ نحوه... و انقضّتْ يداي على ذراعيه بعنفٍ... و صرختُ في وجهه:
" حذّرتُكَ مِنْ الاستمرار يا سامر... لمْ أعد أملك السيطرة على غضبي... أنتَ المسؤول "
حاول أخي إبعاد يديَّ عنه و هو يقول:
" ابعِد يديكَ يا وليد... ما الذي يُغضِبكَ الآن...؟ كأنّكَ لا تعرفُ أنّني أحبُّها و أنّها كانتْ عروسي قبل أنْ تظهرَ أنتَ و تُفسِد كلَّ شيء... أنا لمْ أتوقَّف عن التفكير بها "
صرختُ و أنا أجرُّ أخي ثمَّ أدفع به نحو الباب مُستسلِماً لثورتي:
" سأكسر جمجمتكَ... و أخرجها مِنْ رأسكَ عنوة... و أريحكَ... أيها المسكين !! "
و بدأ العراك بالأيدي...
كلانا استسلم للغضب... و سلَّم قبضته للشيطان... تبادلنا اللكمات و الركلات... الضرب و الصفع... و حتى الدوس و الخنق... كانتْ ساعةً مجنونة... مجنونة جداً... أجنّ مِنْ أنْ نملك السيطرة عليها... مشاعرنا كانتْ هائجةً كأمواج البحر الثائرة في ليلة إعصارٍ عنيفٍ مدمِّر...
أنا سأحطِّم جمجمة كل رجل... يفكّر في رغد...
كنتُ أمسِكُ بذراع أخي و ألويها بشدَّة بينما أُلصق رأسه بالجدار و أصرخ:
" إنْ فكَّرتَ بها ثانيةً فسأسوى رأسك بهذا الجدار... هل سمعتَ ؟؟ "
ثمَّ شددتُه و دفعتُ به نحو المقعد... و أخذنا نلهثُ مِنْ التعب... و نتأوَّه مِنْ الألم... بعد قليل... سمعتُ نشيج أخي... و رأيتُ دمعاً يسيل مِن عينيه فشعرتُ بها دماءاً تقطر مِنْ قلبي...
ذهبتُ إليه و جثوتُ إلى جانبه و أمسكتُ برأسه بلطف و قلتُ بعطفٍ:
" أخي... أنا لا أريد أنْ أفعلَ بكَ هذا... ليتَ ذراعي تُقطع قبل أنْ أؤذيكَ... سامحني... لكن... لماذا استفززتَني؟؟ "
و تأمّلتُ وجهه المتألِّم... و قلتُ:
" يجب أنْ تنساها... إنّها لا تريدكَ يا سامر... لو كانتْ ترغب بكَ بالفعل لما أوقفتْ زواجكما في آخر الأيام... لما عرَّضَتكَ لكلِّ ما حصل... رغد لا تحبُّكَ... إنّها لا تحبُّكَ يا أخي فلا تتعبْ قلبكَ "
و كان ردُّ أخي أنْ لكم وجهي لكمة قويّة أوقعتْني أرضاً... و أدمتْ أنفي... ثمَّ نهضَ و مسح وجهه براحتيه و قال:
" أنتَ السبب يا وليد... ليتكَ لمْ تخرج مِنْ السجن إلا بعد عشرين سنة مِنْ الآن... ليتكَ تعود إليه و تخلّصنا مِنْ وجودكَ... أنتَ أفسدتَ عليَّ حياتي... حطَّمتَ حُلُمي... ضيَّعتَ مستقبلي يا وليد... اِنعم بالحياة مِنْ بعدي إذنْ... "
و استدار و سار نحو الباب و فتحه و صفعه بالجدار بقوة... و غادر المنزل....
غرفتي الحالية بعيدةٌ عن مجلس الضيوف الذي استقبل فيه ابنا عمِّي ضيوفهما. و لكننّي سمعتُ صوتَ جلبة فخرجتُ مِنْ غرفتي و وقفتُ في الممرِّ... فتناهى إلى مسمعي صوت شجار بين ابنَي عمِّي و ربَّما عراك أيضاً...
داهمني القلق و سرتُ في اتجاه مجلس الضيوف و لمّا سمعتُ صوت ارتطام شيءٍ بالباب... ذعِرتُ.. و تراجعتُ للوراء.. ثمَّ عدتُ إلى غرفتي خائفة...
وقفتُ عند باب الغرفة مضطربةً تنقصني الشجاعة للذهاب إلى مجلس الضيوف و استكشاف ما الأمر، إلى أنْ سمعتُ صوت ارتطام بابٍ بجدار... كان صوتاً قويّاً انتقلتْ ذبذباته إلى باب غرفتي فاهتزّ ذعراً... و زادني فوق قلقي قلقاً...
أصغيتُ جيّداً فسمعتُ وقع خطوات قوية و سريعة تعلو ثمَّ تنخفض مبتعدة... ثمَّ صوتُ الباب الرئيسي ينفتح ثمَّ ينغلق... ثمَّ يخيّم الهدوء في المكان...
أحدهما قد خرج... و مِن وقع أقدامه على الأرض... يظهر أنّه كان غاضباً... وليد !؟؟
خرجتُ مِن غرفتي هلِعةً... و سرتُ بعكازي إلى أنْ بلغتُ مجلس الضيوف. كان الباب مفتوحاً. أطللتُ برأسي مِنْ خلال فتحته فوقعتْ عيناي على وليد يجلس على الأرض بجانب المقعد و يُسند رأسه إليه...
هوى قلبي إلى قدميَّ و خارتْ قوَّتي فجأة لدى رؤيته على هذا الوضع فاستندتُ إلى الجدار و شهقتُ ثمَّ قلتُ مفزوعة:
" وليد ما بكَ ؟ "
انتفض وليد فجأةً و أدار وجهه إليَّ بسرعة... فإذا بي أرى سيلاً مِنْ الدماء يتدفَّق مِنْ أنفه. حملقتْ عيناي فيه أوسعهما.. و انحبس نَفَسِي في قفص صدري و كاد العكاز أنْ ينزلق منِّي و يوقعني أرضاً.
وليد وقف و تلفَّتَ يميناً و يساراً حتّى لمح علبة المناديل فسار إليها و تناول بعضها و جعل يمسح الدماء...
و كان واضحاً أنّه تعاركَ مع سامر... كانتْ ربطة عنقه مفتوحة كليّاً... و ملوثةً ببقع الدماء الهاطلة مِنْ أنفه... كان شعره مبعثراً و هندامه غير مرتّب... و وجهه شديد الاحمرار و التعرّق...
لمْ يُجِبْ وليد على سؤالي، بل تهالك على المقعد و هو يرفع برأسه للأعلى و يضغط بالمناديل على أنفه ليوقف نزف الدماء، فخطوتُ نحو الداخل يسوقني الفزع و القلق. و حين صرتُ بمحاذاته خاطبتُه:
" وليد... ماذا حدث؟؟ أخبرني! "
أبعد وليد المناديل الغارقة بالدم عَنْ وجهه و وجَّه بصره إليَّ... و حدَّق بي طويلاً... و لمْ يتكلّم. كانتْ عيناه تتكلَّمان... كأنّهما تتَّهمانني... أو تعاتبانني... أو تتشاجران معي! و لكن ما الذي فعلتُه أنا...؟؟
" وليد.. "
ناديتُه مجدَّداً فما كان مِنْه إلا أنْ قال:
" عودي إلى غرفتكِ "
ماذا ؟؟ أعود إلى غرفتي و أنا أراكَ بهذا الشكل؟؟
" لكنْ... أخبرني أرجوكَ ماذا حدث؟ "
فكرّر وليد:
" عودي يا رغد "
" لا استطيع... طمئنِّي أوَّلاً ما الذي يحدث؟؟ لماذا تعاركتُما و إلى أين ذهب سامر ؟؟ "
فأشاح وليد بوجهه عنِّي. لمْ استطع إلا الانصياع لقلقي... كيف أنصرف و أنا أراكَ هكذا وليد؟؟ لا أقدر...
جلستُ على المقعد بجواره... تركتُ العكَّاز جانباً و مددتُ يديَّ و أمسكتُ بذراعه بحنان... التفتَ وليد إليَّ... نظر إليَّ نظرةً قصيرة ثمَّ أغمض عينيه و أسند رأسه إلى مسند المقعد و تنفَّس بعمق...
بقيتُ ممسكةً بذراعه أكاد أحضنها... و أكاد أفقد صوابي و أمدُّ يدي و أمسح على رأسه و أطبطِب على كتفيه... رغم جهلي بحقيقة ما يحصل، أشعر بأنَّ وليد قلبي يتألَّم... و أنا لا أتحمّل ألمه...
" وليد... كلِّمني! "
توسلتُ إليه... ففتح عينيه و نظر إليَّ ثمَّ قال:
" أرجوكِ يا رغد... اذهبي إلى غرفتكِ الآن و لازميها... لا تتعبيني أكثر "
أنا أُتعِبُكَ ؟؟ أنا مَنْ يتعبُ لتعبكَ... لكن إذا كان وجودي الآن يُتعِبكَ فأنا ذاهبة...
قلتُ:
" حاضر "
و سحبتُ يدي مِنْ حول ذراعه و أمسكتُ بعكازي، ثمَّ انصرفتُ دون أنْ أنطق بحرفٍ واحد.
في صباح اليوم التالي استيقظتُ متأخِّرةً. ذهبتُ إلى المطبخ كالعادة لأعدّ الشاي. كانتْ الخادمة منهمكةٌ في أعمال التنظيف و الساعة التاسعة و النصف صباحاً. و كان المنزل خالياً مِنْ أي صوتٍ أو حركة عدا ما تصدره هي.
تركتُ الإبريق على الموقد و خرجتُ أتفقَّد ابنَي عمِّي. اليوم يوم الخميس و هو عطلةٌ لدى المصنع، و قبيل الظهيرة سيسافر وليد إلى المزرعة، و قد يعود بالشقراء.
ذهبتُ و تفقّدتُ أولاً غرفة المعيشة، المجاورة لغرفة نومي. طرقتُ الباب و لمْ يرد أحد، ففتحتُها ببطء و أرسلتُ نظراتي للداخل و لمْ أجدْ أحداً. كان سامر ينام هنا على الكنبة الكبيرة في الليالي الماضية و قد طلبتُ منه أنْ يبقى كذلكَ إلى أنْ تُزال الجبيرة عنِّي الأسبوع المقبل و أعود إلى غرفتي العلوية. حتّى مع حضور الخادمة و بياتها على مقربةٍ مِنْ غرفتي الحالية، لمْ أكنْ لأشعر بالاطمئنان في هذا المنزل الكبير الموحش...
سرتُ بعد ذلك في أرجاء المنزل... هنا و هناك، و لمْ أعثر لأيٍ مِنْ ابنَي عمِّي على أثر. عدتُ إلى المطبخ و سألتُ الخادمة عمَّا إذا كانتْ قد رأتْ أياً منهما هذا الصباح فأجابتْ بالنفي. ساورني بعض القلق... فطلبتُ منها أنْ تصعد للطابق العلوي و تتفقَّدهما. و عادتْ بعد قليل يتبعها وليد.
كان وجه وليد ممتقعاً و على خدِّه كدمةٌ مُبهمة اللون. كان يهبط الدرجات ببطء و نظره مركَّز على موضع قدميه... كنتُ أقف أسفل الدَّرَج في انتظار ظهور إيٍ مِنْ وليد و سامر...
ابتعدتْ الخادمة عائدةً إلى الطبخ و بقيتُ أراقب وليد و هو يهبط الدرج درجةً درجة... إلى أنْ توقّف أخيراً بجانبي.
بادرتُ بإلقاء التحية:
" صباح الخير "
فردَّ و هو لا يرفع بصره إليَّ:
" صباح الخير "
ثمّ سار و تخطّاني و توجّه نحو المطبخ. لحقتُ به فوجدتُه يفتح الثلاجة و يستخرج علبة حليب بارد و يهمُّ بفتحها. قلتُ:
" ألا ترغب في بعض الشاي ؟؟ "
فقال و هو يفتح العلبة و يسكب شيئاً منها في أحد الكؤوس:
" كلا شكراً... الجو حار "
و جلس على أحد المقاعد الموزّعة حول الطاولة و أخذ يشرب الحليب البارد دفعة واحدة حتَّى أتى على آخره... يحب ابن عمّي هذا الحليب... ألا تلاحظون ذلك؟؟
حضّرتُ كوب الشاي الخاص بي و وضعتُه على الطاولة و جلستُ على المقعد المقابل لمقعده. بدأتُ بطرف الحديث:
" هل أعدُّ لكَ فطوراً ؟ "
أجابَ:
" لا، شكراً "
" و لو وجبة بسيطة ؟ "
" شكراً يا رغد. لا أرغب بشيءٍ الآن "
احتسيتُ رشفةً مِنْ قدح الشاي ثمَّ قلتُ:
" هل سامر في الأعلى ؟ "
فنظر إليَّ باهتمام أخيراً... ثمَّ أجاب:
" لا "
فتعجَّبتُ و سألتُ:
" أليسَ في المنزل؟؟ "
" أبداً... "
فازداد قلقي... أيمكن أنّه لمْ يبتْ هنا البارحة ؟؟ قلتُ:
" أين هو ؟ "
" خرج باكراً... لمْ يحدِّد وجهته "
و ظهر الانزعاج على وجه وليد. لمْ أقوَ على إطالة المقدِّمات... أنا متلهفةٌ لأعرف ما حصل البارحة. قلتُ مباشرة:
" أرجوكَ أخبرني... أنا أعيش معكما في هذا المنزل و أشارككما في كلِّ شيء "
فأرجع بصره إليَّ... ثمَّ قال:
" نعم... في كلِّ شيء "
و لا أعرف إنْ قالها جاداً أم ساخراً... لأنّ تعبيرات وجهه غامضةٌ جداً. استأتُ مِنْ تهرّبه و قلتُ:
" أرجوكَ وليد... أخبرني و أرحني... أنا لمْ أنمْ جيّداً البارحة مِنْ شدّة القلق، و لمْ أجرؤ على مغادرة غرفتي حتّى لا تغضب منّي. أرجوكَ قلْ لي ماذا هناكَ ؟ "
ظلّ وليد ينظر إليَّ بتركيز ثمَّ سأل:
" أحقاً لا تعرفين؟؟ ألمْ تُخبركِ صديقتكِ بشيء ؟؟ "
أصابتني الدهشة... صديقتي؟؟ تعني مَرَح ؟؟ ما دخل مرح بالأمر؟؟. سألتُه فيما الفضول يكاد يلتهمني:
" تخبرني بماذا؟؟ مَرَح ؟؟ "
فألقى وليد نظرةً سريعةً على الخادمة ثمَّ عاد ينظر إليَّ. خاطبتُ الخادمة و طلبتُ منها الذهاب لتنظيف غرفتي... و لمّا انصرفتْ سألتُ وليد:
" ما علاقة صديقتي بما حصل البارحة؟ وليد أرجوكَ أوضِح لي فأنا لا أفهم شيئاً "
وليد مدَّ يده و أمسكَ بيدي و ضغط عليها بشدّة و تحوّلتْ تعبيرات وجهه إلى الجدِّ المفاجئ الممزوج بالتهديد، و قال:
" اسمعي يا رغد... إيّاكِ أنْ تفتحي الموضوع أمام سامر... لا تسأليهِ عنْ أيِّ شيء، و لا تأتي بذكر شيءٍ عَنْ ليلة أمس لا تصريحاً و لا تلميحاً أمامه... هل تفهمين ؟؟ "
القلق بلغ ذروته عندي... يبدو أنَّ الموضوع أخطر ممَّا كنتُ أعتقد... قلتُ:
" لا.. لمْ أفهم شيئاً! أنتَ غامض "
فأغضب ردّي وليد، فشدّ الضغط على يدي و احتدّ صوته أكثر و هو يكرّر:
" بل تفهمين... اسمعيني جيّداً... لا أريدكِ و لا بحالٍ مِنْ الأحوال أنْ تشيري لليلة البارحة أمامه. تصرَّفي بشكلٍ عادي و كأنَّ البارحة لمْ تكنْ أساساً "
سألتُ:
" لماذا "
فهتف بعصبيّة:
" نفّذي ما أقوله لكِ فقط، فأنا سأسافر اليوم و لنْ أكون موجوداً للتدخُّل و تحويل المواقف. أريد أنْ يمرَّ اليومان بسلامٍ إلى أنْ أعودَ و أجدَ مخرجاً للمأزق الجديد الذي أقحمتِنا فيه "
هتفتُ:
" أنا... !! "
و وجهي يملؤه التعجُّب و عدم الفهم، فأبعد وليد يده عنّي، ثمَّ نهض واقفاً و أراد مغادرة المطبخ. قلتُ محتجّة:
" وليد انتظر أنتَ لمْ توضِّح لي شيئاً "
فأشار بيده لي أنْ أصمت، ثمَّ قال:
" لاحِقاً يا رغد... ليس وقتُه الآن... افعلي فقط ما طلبتُه منكِ "
و انصرف. لمْ أطق صبراً مع كل هذا الغموض... توجّهتُ إلى غرفتي و طلبتُ مِنْ الخادمة المغادرة، و تناولتُ هاتفي المحمول و اتّصلتُ بصديقتي مَرَح...
لكم أنْ تتصوّروا الدهشة التي اجتاحتْني عندما علمتُ مِنْ مَرَح... أنَّ.. أنَّ... إه.. أنَّ والدها و عمَّها... تقدَّما بطلب يدي للزواج مِنْ... مِنْ شقيقها الرسَّام... الأستاذ عارف...!!!
" نعم يا رغد... كنّا سنتقدَّم لخطبتكِ مِنْ قبل، فأمّي و أختاي أُعجِبنَ بكِ عندما زرناكم بعد خروجكِ مِنْ المستشفى... و أيّدتا ترشيحي في الحال "
و عادتْ بي الذكرى بسرعة إلى تلك الليلة... حيثُ دعونا آل المنذر للعشاء عندنا و حضرتْ أم مرح و أختاها. أذكر أنني ليلتها كنتُ منزعجةً لأنهن سلَّطن اهتمامهنَّ على الشقراء التي سرقتْ الأضواء منِّي... و لمْ أكنْ لألحظ أنَّ عيوناً خفيّةً كانتْ تراقبني أنا... !
انتبهتُ مِنْ لحظة الذكرى على صوت مَرَح تقول:
" كنّا نريد زيارتكم لولا أنّكم سافرتم... أمّا عارف فهو يثق في اختيارنا... و هو شخصٌ مهذَّبٌ و خلوقٌ و أهلٌ لتحمّل المسؤوليات، و راغبٌ في الزواج بكل جديّة "
و كانتْ نبرتها تمزج بين الضيق و العتب... فقلتُ مُهدِّئةً إيّاها:
" ليس قصدي عكس ذلكَ لا سمح الله... إنّما... آه... لماذا لم تخبريني عنْ هذا سابقاً ؟ "
فأجابتْ بذات النبرة... و هي نبرة لمْ أعتد سماعها مِنْ مَرَح التي لطالما غلب المزح و المرح على أسلوبها:
" لمّحتُ لكِ تلميحاً... لمْ استطِع التحدُّث معكِ تصريحاً. أنتِ خجولةٌ جداً و خشيتُ أنْ أحرجكِ! "
" لكن يا مَرَح... ... "
فقاطعتْني مرح قائلة:
" لكن ماذا يا رغد ؟؟ أنتم تشعِروننا بأنَّنا ارتكبنا خطيئةً بعرض الزواج هذا ! "
" مرح!! لِمَ تقولين هذا !؟ "
" أنتِ تحقِّقين معي الآن و كأنني مُتّهمة... و أبوك و أخوه لسعا أخي بنظراتهما البارحة و لمْ يتفوَّها بكلمةٍ واحدةٍ و لو مِنْ باب المجاملة تشير إلى أنّهما يرحِّبان بالعرض أو يقدِّران أصحابه. لقد أخبرني عارف بأنهم غادروا و لديهم الانطباع بأنَّ العرضَ مرفوضٌ قبل دراسته... و كأنَّ عائلتكم لا تتشرَّف بالارتباط بعائلتنا ! "
قلتُ بسرعة نافية:
" ما الذي تقولينه يا مرح الأمر ليس كذلك إطلاقاً "
" إذنْ ماذا ؟؟ "
" إنّه أكبر بكثير مما تظنين... !! "
بعد حديثي معها جلستُ أفكِّر طويلاً... لمْ أكنْ أتوقّع أنْ يكون الأمرُ هكذا... ما الذي سأفعله و كيف سأتصرّف الآن ؟؟ بعد حوالي الأربعين دقيقة خرجتُ مِنْ غرفتي قاصدةً الذهاب إلى غرفة المعيشة، و رأيتُ وليد هناك يجلس على طرف أحد المقاعد و يبدو عليه الاضطراب، و لمّا رآني سأل:
" ألمْ يعد سامر ؟ "
" لا أعرف. لا أظنُّ فأنا لمْ أسمع صوت الباب "
و هنا سمعنا صوت الباب الخارجي، فوقف وليد ثمَّ قال بصوتٍ هامس:
" لا تنسي ما قلتُه لكِ "
فأومأتُ برأسي، و خطوتُ خطوة للداخل. وافانا سامر مباشرةً و لمْ يلقِ التحيَّة بل ألقى علينا نظرةً سريعة ثمَّ همَّ بالانصراف. ناداه وليد و قال:
" تأخّرتَ يا سامر... ألا تعلمْ أنَّ لدي رحلة هذه الظهيرة؟؟ بالكاد يتَّسع الوقتُ للوصول للمطار "
فالتفتَ سامر إليه ثمَّ ألقى نظرةً على ساعة يده ثمَّ قال:
" لا يزال الوقتُ كافياً "
ثمَّ استدار إلى الباب ثمَّ توقَّف و استدار نحو وليد و قال:
" على فكرة وليد... لقد حجزتُ مقعداً على نفس الطائرة "
و استدار و ولَّى منصرفا نحو الدَّرَج !
لمْ يعطِ وليد الذهول فرصةً لتملُّكِه، بل أسرع عقب أخيه و هو يناديه إلى أنْ أدركه عند أسفل السلم... و لحقتُ بهما في اندهاش شديد. قال وليد:
" ماذا تقصد ؟؟ "
فأجاب سامر و هو يرفع قدمه إلى الدرجة الأولى:
" أقصد أنني سأسافر أيضاً إلى الشمال الآن "
و واصل خطواته فهتف وليد:
" سامر قِفْ هنا و كلّمني... "
فتوقّف سامر بعد بضع درجات و أرسل نظراته إلى وليد... و تسلَّلتْ إحداها إليَّ فقرصتْني. قال وليد:
" ماذا تعني بتصرّفكَ هذا ؟؟ "
أجاب سامر و صوته يعلو و يحتدّ:
" لا أعني شيئاً. لدي أشياءٌ ضرورية لأحضِرها، و أمورٌ مهمّةٌ لأنجزها في المدينة التجارية. تعرف أنَّ سفري كان مفاجئاً و عاجلاً جداً "
فقال وليد بصبرٍ نافذ:
" و لكنّني سأسافر الآن... فهل تريد أنْ نسافر كلانا و نترك المنزل و مَنْ فيه هكذا ؟؟ "
و أصابتْني الفكرة بالرعب. فقال سامر:
" عُدْ ليلاً فهناك رحلةٌ مناسبةٌ هذا المساء "
ثمّ تابع صعود الدرجات حتى اختفى عنْ أنظارنا. وقف وليد برهةً كمَنْ يحاول استيعاب ما سمع، ثمَّ صعد الدرجات ليلحق بسامر. استوقفتُه و قلتُ مرعوبة مِنْ الفكرة: " أنا لا استطيع البقاء وحدي مُطلقاً "
لحقتُ به إلى غرفته، نفس الغرفة التي كان يقيم فيها في الماضي و التي نظفتْها الخادمة يوم أمس، و وضع فيها حقائبه و باتَ على سريره القديم فيها البارحة. كان يستخرج شيئاً مِنْ إحدى حقائبه... سألتُه:
" ألستَ تمزح يا سامر ؟؟ "
فالتفتَ إليَّ و قال:
" و هل تراني بمزاجٍ جيِّدٍ و مناسبٍ للمزاح ؟ ها هي التذكرة على المنضدة أمامكَ "
" و هذه لمْ تظهر إلا الآن ؟؟ أجِّل سفركَ للأسبوع المقبل أو على الأقل لحين عودتي "
قال:
" مستحيل. سفري ضروريٌ و ملحٌ الآن "
و أخذ يضع أشياء معيّنة في حقيبة يدٍ صغيرة ثمَّ يأتي باتجاه الباب قاصداً المغادرة. حاصرتُ عينيه بنظراتي... كانتا كوردتين ذبلتا فجأةً بعد انقطاع المطر... شعرتُ بألمٍ فظيعٍ في صدري و في معدتي... استوقفتُه و قلتُ بصوتٍ حنون:
" تمهّل يا سامر... حسناً... دعنا نناقش الأمر بعد عودتي مِنْ السفر... أعِدْ حقيبتَك إلى مكانها "
توقّف سامر عن الحركة و صمتَ قليلاً ثمَّ قال:
" نناقش ماذا ؟ "
اجترعتُ المرارة و قلتُ:
" ما كنّا نناقشه البارحة. نبيِّن مواقفنا و وجهات نظرنا... و حقائق الأمور "
قال سامر و الحزم جليٌ على وجهه:
" بالنسبة لي، هناك حقيقةٌ واحدةٌ لا جدوى مِنْ محاولة اللفِّ و الدوران بعيداً عن محورها. إما أنْ تعطيني وعداً صريحاً بإعادتها إليَّ، أو سأخرج مِنْ حياتكما نهائياً "
قلتُ:
" هل أنتَ مجنون ؟ "
فتجاهل سامر تعقيبي و سار مغادراً الغرفة. لحقتُ به و ناديتُه مراراً و لكنّه واصل طريقه. و عند أعلى الدرج التفتَ نحوي و نظر إليَّ نظرةً عميقةً مؤلمةً غامضة المعاني، و أشار بسبَّابته نحوي و قال:
" أنتَ السبب يا وليد... تذكَّر هذا "
و هبط الدرجات و اختفى مِنْ المنزل. قرب أسفل العتبات، كانتْ تقف الفتاة التي تعاركنا بسببها. سامر خرج مسرعاً و لمْ يلتفتْ إليها. استندتُ إلى السياج و سبحتُ في بحرٍ مِنْ الضياع...
لماذا وقع شقيقي الوحيد... في حبِّ الفتاة التي هي حبيبتي أنا... فتاتي أنا... التي لنْ أتنازل عنها لأجل أي مخلوق... حتى و إنْ... كنتَ أنتَ يا سامر... ؟؟
و بسبب سفره اضطررتُ لأنْ ألغيَ رحلتي و أبقى مع رغد، فيما النار مشتعلةٌ في المزرعة... تنتظر عودتي كي أخمدها.
مع بداية الأسبوع الجديد... عادتْ رغد إلى جامعتها. كانتْ لا تزال بالجبيرة و العكاز... و لكن ذهابها إلى جامعتها كان الحلُّ الأمثل للوضع الحالي المضطرب. و لأنها لا تزال بحاجة للمساعدة، فقد وجدنا الحلَّ في أنْ ترافقها صديقتها المقرّبة ذهاباً و عودةً في الفترة الراهنة، على أنْ أتولَّى بنفسي إيصالهما.
و في إحدى المرَّات، و فيما كنتُ في اجتماعٍ مهمٍ في مكتبي في مبنى إدارة المصنع، وردتْني مكالمة مِنْرغد. كانتْ الساعة الثانية عشر و النصف ظهراً، و رغد لمْ تكن تتصل إلا للضرورة. و لمّا أجبتُها أخبرتْني بأنها أنهتْ محاضراتها لهذا اليوم و تريد العودة للمنزل. لمْ يكن التوقيت مناسباً فطلبتُ منها أنْ تنتظر اتصالي لاحقاً. و بعد نحو أربعين دقيقة، اتّصلتُ بها كي أخبرها بأنني مشغولٌ و لنْ أوافيها قبل ساعة، ففوجئتُ بها تخبرني بأنها و صديقتها الآن في طريق العودة إلى المنزل، في سيارة شقيقها.
هذا الشقيق لمْ يكنْ إلا... الأستاذ عارف!
تمالكتُ نفسي، و أنهيتُ المكالمة بهدوء ظاهري، و تابعتُ عملي دون تركيز حقيقي، و عندما عدتُ إلى المنزل، حاملاً طعام الغذاء كالعادة،كانتْ الساعة تقترب مِنْ الرابعة عصراً. توجّهتُ إلى غرفة رغد، لا أطيق صبراً... و لما اقتربتُ مِنْ الباب سمعتُ صوت ضحكات... كانتْ ضحكات رغد ممزوجةٌ مع ضحكات فتاةٍ أخرى...
ذهبتُ إلى المطبخ و سألتُ الخادمة، فأخبرتْني أنَّ لدى رغد ضيفةٌ تناولتْ معها غذاءاً أحضرتاه معهما ظهراً مِنْ أحد المطاعم،... و هما تجلسان في الغرفة منذ فترة.
انزويتُ على نفسي في غرفة المعيشة. بعد ساعة و نصف الساعة، سمعتُ صوت حركة في الممرِّ... و معها صوت الفتاتين تودّعان بعضهما البعض، ثمَّ صوت الباب الرئيسي يُغلق.
هببتُ واقفاً و سرتُ نحو الباب و أنا أتنحنح لألفت الانتباه. و في الممرِّ رأيتُ رغد تسير باتجاه غرفتها فناديتُ:
" رغد "
التفتتْ إليَّ، و سرعان ما لمحتُ البهجة على وجهها... كان واضحاً أنها مسرورة... سألتْني:
" أنتَ هنا ؟ متى عدتَ ؟ "
سرتُ نحوها و أنا أجيب:
" قبل ساعة و نصف تقريباً "
و أضفتُ:
" آسف. لقد كنتُ في اجتماع مهم "
" لا بأس "
ثمّ استدارتْ تريد متابعة السير إلى غرفتها. انتظري ! إلى أين تذهبين... ؟؟ قلتُ:
" إذن... عدتُما مع... الأستاذ عارف ؟ "
فالتفتتْ إليَّ و لا تزال تعبيرات السرور باديةً على وجهها و قالتْ:
" أجل، فقد انهينا محاضرات اليوم باكراً و لمْ نشأ تضييع الوقت في الانتظار. عدنا و دعوتُ مَرَح للغذاء و المذاكرة معي "
كتمتُ ما في نفسي و ترتُكها تعود إلى غرفتها بسلام، و عدتُ إلى غرفة المعيشة. كرَّرتُ الاتصال بشقيقي عدَّة مرَّات بلا جدوى. إنني لمْ أتمكَّن مِنْ محادثته منذ سافر. اتصلتُ بالمزرعة و كالعادة رفضتْ أروىالتحدث معي. و أعاد العم إلياس تأكيده بأنَّ الوضع حرج و أنَّ عليَّ الحضور فوراً.
شعرتُ بالضيق... أردتُ أنْ أشتّتْ انتباهي في أمورٍ أخرى، تشغلني عن التفكير المستمر في رغد و سامر وأروى... أشغلتُ التلفاز و جعلتُ أتصفّح قنواته حتى استقر انتباهي على الأنباء. المزيد مِنْ أعمال الشغب... الاغتيالات... المنظمات السريّة... الاعتقالات... الحرب... الدمار... الخراب... الموت...
ازداد ضيقي فأوقفتُ التلفاز، و خرجتُ مِنْ غرفة المعيشة و توجَّهتُ إلى غرفة مكتبي، و بقيتُ فيها زمناً لا بأس به، أحاول شغل نفسي بإنجاز بعض الأعمال على الحاسوب، بيد أنَّ حاسوبي لمْ يفلح في إلهائي عن التفكير بما و مَنْ كنتُ أفكر فيهم...
غادرتُ مكتبي ناشداً بعض الشاي، لتصفية ذهني... و في الواقع... باحثاً عن رغد... كانتْ في غرفتها. لمْ نكنْ نلتقي إلاَّ على مائدة العشاء التي نتناول طعامنا حولها شبه أخرسين.
" هل كنتِ تدرسين ؟ "
أجابتْ و هي تفتح الباب و تشير إلى مجموعة مِنْ كراسات الرسم الموضوعة على سريرها:
" كنتُ أتصفَّح رسماتي "
قلتُ محاولاً إذابة بعض الجليد مِنْ حولنا:
" ألديكِ الجديد ؟ أيمكنني التفرُّج ؟؟ "
ظهر على وجه رغد تعبير لمْ أفهمه... ثمَّ توهَّج... ثمَّ قالتْ:
" نعم، بالطبع... تفضَّل "
آذنة لي بدخول الغرفة، فقلتُ مُفضِّلاً:
" دعينا نذهب إلى المطبخ... سأعدُّ بعض الشاي "
و سبقتُها إلى المطبخ و بدأتُ بالتحضير للشاي. وافتْني بعد قليل تحمل إحدى كراساتها. وضعتْها على الطاولة و جلستْ و هي تقول:
" لا أظنّكَ شاهدتَ هذه "
و قد كنتُ فيما مضى أتفرَّج على لوحاتها الجديدة مِنْ حين لآخر... و كانتْ تُسرُّ بذلك. أقبلتُ نحوها و جلستُ على المقعد المجاور لها، و تناولتُ الكراسة و شرعتُ في تصفِّحها. سمعنا صوت فقاعات الماء المغلي... فوقفتْ رغد قائلة:
" سأعدّه أنا "
و أمسكتْ بعكّازها. قلتُ و أنا أنظر إلى العكّاز و أتذكَّر موعد الطبيب:
" غداً نذهب إلى الطبيب و ينزع جبيرتك و تستغنين عن هذا أخيراً "
فابتسمتْ ابتسامةً مشرقةً و واصلتْ طريقها.
كنا جالسين على مقعدين متجاورين، كما لمْ نفعل منذ زمن... نحتسي الشاي الدافئ... أنا أقلِّب صفحات الكراسة، و هي تلقي بتعليقٍ بسيط على الصفحات مِنْ حين لآخر... لا شيء غير ذلك... لا شيء أقرب مِنْ ذلك... أُخفِي ما يدور في رأسي خلف صفحات الكراسة... أحاول أنْ أتحدَّث عنْ شيءٍ خارج حدود الصفحة، و لا أجرؤ... يا ترى... ما الذي تفكِّرين به الآن أنتِ يا رغد ؟؟
على الورقة التالية، وجدتُ ورقة ملاحظات صغيرة، مُلصقة على الصفحة المقابلة للرسمة... و كان مكتوباً عليها و بخطٍ صغير و مرتَّب كلمات مختصرة، فهمتُ منها أنّها تعليق على الرسمة المقابلة. كانتْ الرسمة بالفعل خلابة... تفوق ما سبقها روعةً... أخذتُ أتأمّلها مطوّلاً... و رغم أنّني لا أفهمْ في فنِّ الرسم شيئاً... إلا أنَّني انبهرتُ بها تماماً... قلتُ:
" بالفعل رائعة ! ما شاء الله "
ابتسمتْ رغد و تورَّد خداها، ثمَّ قالتْ:
" هذه الأجمل بين المجموعة... حسب شهادة الخبراء "
التفتُ إليها و سألتُ:
" الخبراء ؟ "
فقالتْ و هي تشير إلى ورقة الملاحظات الملصقة على الصفحة المقابلة:
" هل قرأتَ هذا ؟ "
" نعم. أهي مِنْ إحدى مدرِّساتكِ في الجامعة ؟ "
ابتسمتْ رغد و قالتْ:
" لا ! إنّه رأي الرسّام عارف... فقد اطَّلع على رسمي في هذه الكراسة و أبدى ملاحظاته "
كدتُ أوقع قدح الشاي مِنْ يدي و أسكبه على هذه الصفحة بالذات... فوجئتُ... و تسمَّرتْ عيناي على ورقة الملاحظات... و عبثاً حاولتُ إبعادهما عنها...
ماذا تعنين يا رغد ؟؟ تعنين أنَّ عارف... عارف هو الذي كتب هذا ؟؟ عارف أمسك بكراستكِ هذهِ... و تأمّل رسماتكِ ؟؟ كيف تجرّأتِ على اقتراف هذا يا رغد ؟؟
التفتُّ إليها... و أخذ الشرر يتطاير مِنْ عينيَّ... لكن عينيها كانتا تحملقان في ورقة الملاحظات... و البهجة مشعَّةٌ على وجهها... وضعتُ كوب الشاي جانباً... و شددتُ على قبضتي غيظاً... ثمَّ سألتُ:
" و... و كيف شاهد الأستاذ كرّاستكِ ؟؟ "
فأجابتْ:
" أعطيتُها لِمَرَح قبل يومين و أعادتْها إليَّ اليوم "
ازدرتُ ريقي و ابتلعتُ حنقي معه و تظاهرتُ بالتماسك و قلتُ:
" لكنْ... لماذا ؟؟ أهي فكرتكِ ؟ "
أجابتْ رغد:
" فكرة مرح ! إنها كانتْ تصرُّ عليَّ بأنْ تعرض لوحاتي على شقيقها الفنان منذ مدّة. تقول أنها واثقةٌ مِنْ أنها ستعجبه و سيرحِّب بعرضها في معرضه التالي. و أخذتْ كرّاستي كعيّنة "
عضضتُ على شفتيَّ و قلتُ:
" و... ما رأيكِ أنتِ ؟؟ "
فقالتْ بسرور واضح:
" إذا رسمتُ لوحةً مميّزةً فلا أحبّ إليَّ مِنْ أنْ تُعرض ضمن مجموعةٍ لفنانٍ مبدع و معروف ! سيكون هذا نجاحاً كبيراً لي ! "
و كانت عيناها تبرقان سروراً. قلتُ غير قادرٍ على تحمُّل المزيد:
و انتظرتُ إجابتها و أعصابي تحترق مِنْ الغيظ... رغد رفعتْ بصرها مِنْ الكراسة و نظرتْ إليَّ... ثمَّ طأطأتْ رأسها و توهّجتْ وجنتاها و اضطربتْ تعبيراتها.
ماذا تعنين بربّكِ يا رغد ؟؟ كيف تجرُئين؟؟ تباً ! أيُّ مصيبة ألقتْ بكَ علينا أيها العارف ؟؟ و مِنْ أين خرجتَ ؟؟ أنا لا اسمح لكِ بهذا يا رغد...
أغلقتُ الكرّاسة لأنني لمْ أستطع تحمُّل شيءٍ بعد... و بدا الاضطراب على أصابع يدي... لمْ أقوَ على كبتِ مشاعري أكثر... كيف... و أنا أقرأ الإعجاب في عين فتاتي برجلٍ ما... أيٍ كان ؟؟
مددتُ يدي حتَّى أمسكتُ بيدها... و شددتُ عليها... رغد حملقتْ بي... و كسا الجدُّ وجهها... رمقتُها بنظرات مزجتْ الغيظ و العتاب و الرفض و التوسُّل... لا أدري إنْ كانتْ رغد فهمتْ أياً منها... تجرّأتُ أخيراً و قلتُ:
و تفحّصتُ تعبيراتها بالتفصيل... هربتْ بناظرها عنِّي... و علاها الارتباك... و حاولتْ سحب يدها منِّي... فشددتُ عليها أكثر... و قلتُ:
" إذنْ... ؟؟ "
و تأمَّلتُها بتركيز شديد... لمْ تقلْ شيئاً... و لمْ تحرِّك ساكناً... غير أنَّ توهُّج وجهها تفاقم... ما أشعرني بالألم أكثر فأكثر... فشددتُ على يدها بقوّة أكبر فأكبر... علَّها تحسُّ بما أعانيه... هذه الحبيبة الخائنة...
قلتُ:
" ما هو موقفكِ يا رغد... أخبريني ؟؟ "
لكنّها لمْ تتفوّه بكلمة، و لمْ تنظر إليَّ... أجيبيني يا رغد أرجوكِ... قولي أنّكِ لا تفكِّرين في شيءٍ كهذا... و أنّكِ لا ترين في العالم رجلاً غيري أنا... أريحيني أرجوكِ ! و لمّا لم تجبْ... أرسلتْني الأفكار إلى الجنون... قلتُ بنبرة عنيفة و قد تفجَّر الغضب في صوتي:
" تكلّمي يا رغد... أطلعيني على ما تفكِّرين به الآن "
نبرتي القوية أخافتْ رغد... فألقتْ عليَّ نظرة وجِلة ثمَّ حاولتْ تحرير يدها مِنْ قبضتي و قالتْ بتوسُّل:
" أرجوكَ... أتركني "
و أرادتْ الوقوف و الهرب بعيداً... غير أنَّني لمْ أُطلِق صراح يدها و وقفنا معاً... هي تحاول الابتعاد و أنا أعيق تحرّكها...
" أرجوكَ وليد... "
قلتُ مباشرة:
" أرجوكِ أنتِ... أطلعيني على ما يدورُ في رأسكِ "
قفزتْ دمعةٌ فجأة مِنْ عين الصغيرة و اجتاحها الحزن. حرتُ في تفسير موقفها. قلتُ:
" لا أحد... لا شيء... أنا لا أريد أنْ أتزوّج أصلاً... أبداً... أنتَ لنْ تفهمني... "
و سحبتْ يدها... و سارعتْ بالتقاط عكّازها و مغادرة المطبخ.
رميتُ بثقل جسمي على الكرسي... و أسندتُ رأسي إلى الطاولة... و زفرتُ زفرةً طويلة...
و هذا الموقف العصيب... لمْ يزدْ العلاقةَ بيننا إلا بروداً و تباعداً. و بعد أنْ كنّا نلتقي على الأقل على مائدة الطعام، صرنا لا نلتقي إلا في السيّارة، و أنا أقلُّها ذهاباً و عودةً إلى و مِنْ الجامعة. أما الأحاديث التي بيننا فقد تضاءلتْ لحد التلاشي. و لمْ نعدْ نكلِّم بعضنا البعض غير كلمة أو اثنتين في اليوم الواحد.
كان مأزقاً مُربِكاً شديداً... أثقل كاهلي و أحنى ظهري... إلاَّ أنَّ الورطة التي تلتْه... المصيبة التي تبعتْه... تخطّتْ كل شدّة و فاقتْ كل حدّة... إنها الكارثة التي قصمتْ ظهري و فلقتْ رأسي و قصفتْ عمري...
كانتْ ليلة أربعاء... و كنتُ مستلقٍ في غرفة المعيشة، على وشك النوم، حين وردتْني مكالمةٌ هاتفيةٌ هيَّجتْ كل خلايا اليقظة في دماغي، و غيَّرتْ مجرى حياتي مائةً و ثمانين درجة... على الفور...
كان المتّصلُ أبا حسام... و هو لمْ يتَّصل بي منذ زمن. في البداية تجاهلتُ اتصاله، فقد كنتُ أريد الاسترخاء بعيداً عن أي مؤثِّرٍ خارجي... غير أنَّ إلحاح المتّصل... أثارَ فضولي.
" مرحباً..."
أجبتُ فتحدَّث أبو حسام مباشرةً:
" مرحباً يا وليد. كيف حالكَ ؟ أين أنتَ "
أقلقتْني نبرته و سؤاله... فقلتُ:
" خيراً ؟؟ "
و فوجئتُ به يقول:
" هل أنتَ في المنزل الآن ؟؟ أنا عند الباب "
ماذا؟؟ !!
" عند الباب ؟؟ "
سألتُ مندهشاً فأجاب:
" نعم. فإذا كنتَ موجوداً فافتحْ لي فهناك ما جئتُ أخبركَ عنه "
هببتُ جالساً بهلع... و سألتُ:
" ما الأمر ؟؟ "
" دعني أدخل أولاً "
و بسرعة ذهبتُ إلى الفناء و فتحتُ الباب فوجدتُ أبا حسام يقف أمام مرآي. انتابني الهلع... وجوده بحدِّ ذاته و في مثل هذا الوقت و بهذه الحال ينذر بالخطر... قدتُ الرجل إلى الداخل... و كان يسير بحذر. ذهبنا إلى المجلس الرئيسي و أنا بالكاد أسيطر على ذهولي. بمجرّد أنْ جلس على المقعد و قبل أي كلام آخر سألتُه:
" ماذا هناك ؟؟ "
أبو حسام تلفَّتَ يُمنةً و يسرةً، و كأنّه يريد أنْ يستوثق مِنْ أنَّ أحداً لا يسمعنا. و كان الجدُّ مجتاحاً قسمات وجهه بشكل مخيف... لطفك يا رب... !! تحدّث أخيراً و قال:
" هناك أمرٌ خطير يجب أنْ تعرفه و تتصرّف حياله فوراً يا وليد "
أفزعتْني الجملة، فحملقتُ به بأوسع عيني، و قلتُ:
" أي أمر ؟؟ "
قال و هو يخفتْ صوته:
" المصادر التي حصلتُ منها على المعلومات موثوقةٌ مائة بالمائة. و أنا أخاطر بإفشائها لكَ... و قد أتيتُ سراً لإبلاغكَ... يجب أنْ تعيها جيّداً و تتصرّفَ حيالها بمنتهى الحذر... و بمنتهى السرعة "
قلتُ مضطرباً و ريقي جفَّ في حلقي:
" جفّفتَ حلقي يا عم... أخبرني ماذا هناك ؟؟ "
و هنا قرّب أبو حسام رأسه منّي و قال بصوتٍ حذر:
" يتعلّق الأمر... بشقيقكَ "
توقّف قلبي عن النبض فجأة... و صدري عن التنفُّس... و اجتاحني فزعٌ مهول. رفعتُ يدي إلى صدري و قلتُ بفزع:
" ما بهِ شقيقي؟؟ "
أبو حسام ركَّز أنظاره على وجهي و كأنَّه يقيس مدى الفزع فيه، ثمَّ سأل:
" أهو هنا ؟؟ "
فقلتُ باضطراب:
" لا... لكن ما به شقيقي ؟ أرجوكَ أفصِح ؟؟ هل أصابه شيء ؟؟ "
هزّ أبو حسام رأسه بنفيٍ ممزوجٍ بالأسف، ثمَّ قال:
" ليس بعد... لكنّه على حافة الخطر... "
ثمَّ استنشق نفساً قوياً مِنْ فمه و زفره أسفاً ثمَّ قال:
" هل تابعتَ خبر اغتيال الوزير... الذي نفَّذه المشاغبون، أعضاء المنظمة السريّة، قبل أيَّام ؟؟ "
أجبتُ بنظرة مِنْ عينيَّ... أردف أبو حسام قائلاً:
" أخوك... متورِّطٌ مع هذه المنظمة... و شارك في العملية بكل تأكيد "
جفلتُ... تسمّرتُ في وضعي... تصلَّبتْ أطرافي و تيبَّستْ عضلاتي... حتى كلمة ("ماذا ؟؟") لمْ أقوَ على النطق بها... أنا ربَّما... لا أسمع جيِّداً... ربّما أنا نائم ؟؟... ماذا... ماذا قلتَ؟؟ حملقتُ في أبي حسام... غير مصدِّق... مذهولاً لأبعد حد... فرأيتُ الجدّ ينبثق بقوَّة مِنْ عينيه... ثمَّ إذا بي أحسُّ بيده تمسك بكتفي... و بصوته يطنُّ في أذني:
" الخبر أكيدٌ تماماً... طرتُ إليكَ مِنْ فوري لأبلغكَ... أحد الأعضاء وقع في أيدي السلطات و انتزعَتْ منه اعترافات خطيرة... وهي في طريقها للقبض على العناصر جميعاً... "
و صمتَ لحظةً، يراقب ردَّة فعلي و انفعالاتي المذهولة غير المصدّقة، ثمَّ أضاف:
" سامر أحد العناصر. متى ما وقع في قبضتهم، فسيعدمونه لا محالة "
أخيراً استطاع فمي النطق متلعثماً هاتفاً:
" مستحيل!! م.... ما... ما الذي... تقوله ؟؟ "
شدّ أبو حسام الضغط على كتفيَّ و قال:
" أنا واثقٌ مِنْ معلوماتي تماماً... "
شهقتُ و نطقتُ:
" ما الذي تقوله ؟؟ سامر أخي... عضوٌ في... آه... ماذا ؟؟ ما هذا الهراء ؟؟ "
شدَّ أبو حسام على كتفي بحزمٍ أكبر و قال:
" أعرف أنّها صدمة... لكن... هذا ليس وقت المفاجأة يا وليد. شقيقكَ في خطر... يجب أنْ تعمل فوراً و في الحال على إخراجه مِنْ البلد... الآن يا وليد... قبل فوات الأوان "
زفرتُ زفرة قوية، و نظرتُ مِنْ حولي... علِّي أجد ما يؤكِّد لي أنني لستُ في حلم. كنتُ رافضاً تماماً القبول بفكرة أنَّ أخي... أخي أنا... آه كلاَّ... مستحيل...
قلتُ رافضاً و مشكِّكاً:
" ربَّما... ربَّما "
لكن أبا حسام قال بحزمٍ و جدية بالغين:
" أنا لمْ أحضر مِنْ الشمال إلى الجنوب و بهذه السرعة و هذا الشكل و هذا الوقت لمجرّد (ربّما). وليد... أرجوكَ تخطَّ مرحلة الصدمة بسرعة. لا وقت لتضيّعه في الذهول و الرفض. حياةُ شقيقكَ في خطر حقيقي... أنّه متورطٌ مع المنظمة منذ شهور... بعض العناصر هم زملاؤه في العمل في المدينة الصناعية... و العضو المعتقل و تحت وطأة التعذيب أفشى عنْ خطَّتهم التالية و مَنْ سينفِّذها و كيف. سينفّذونها هنا في المدينة الساحلية قريباً. السلطات ستنصب كميناً و تباغتهم و ترسلهم جميعاً إلى الجحيم. لنْ ينجوَ إذا ما وقع في قبضتهم، لا مخرج أبداً "
أمسكتُ برأسي الذي أحسستُ به يتأرجح على عنقي... و أغمضتُ عيني لأحول دون رؤية الأشياء التي أخذتْ تتراقص مِنْ حولي.
أبوحسام و هو يراني هكذا قال حازماً:
" يجب أنْ تتماسك يا وليد... لا وقت للانهيار... يجب أنْ تنقذه قبل أنْ يُقبَض عليه و حينها... لا أمل أبداً في إنقاذه "
حرّكتُ رأسي تأييداً و أنا لا أزال في مرحلة الصدمة، أجبر نفسي على تخطّيها و سباق الزمن. قلتُ:
" ماذا أفعل ؟؟ كيف أتصرَّف ؟؟ "
فقال:
" يجب أنْ نُخرِج الشاب مِنْ البلد بأسرع أسرع ما يمكن. استخدم كل نفوذك و افعل المستحيل لترحليه إلى الخارج. لا أحد يقع في يد السلطات و يعود سالماً، و خصوصاً في قضيَّةٍ بهذه الخطورة. لا تذَّخر وسيلةً مهما كانتْ "
مسحتُ العرق الذي تصبَّب على وجهي كشلال مياهٍ مالحة... و أخذتُ أفتح أزرار قميصي العلوية و كأنَّ ذلك سيساعد في إزاحة الكتم عن صدري... ثمَّ قلتُ:
" أنا... لا أعرف أين هو الآن "
فنظر إليَّ أبو حسام بانزعاج فأوضحتُ:
" سافر إلى الشمال الخميس الماضي، و لمْ يُجِبْ على اتصالاتي "
ثمَّ قلتُ مستنتجاً بذعر:
" أخشى أنّه... ... "
فقاطعني:
" لا يزال طليقاً... و سيشارك في العمليّة التالية. لابد و أنّه في الجوار الآن... "
في تلك الليلة... انحرفتْ الكرة الأرضية عن محور دورانها، و تخبّطتْ و اصطدمتْ في جميع الأجرام السماوية، و لمْ تذر لا نجماً و لا قمراً... إلا و صفعتْه في رأسي...
غادر أبو حسام المنزل... مخلِّفاً إياي وسط كومة ضخمة هائلة... مِنْ حطام الكواكب... بقيتُ على ذات المقعد، أتلقّى الصفعة تلو الأخرى، فاقداً الحواس الخمس. يحسبني الناظر إليَّ... جثّةً متحنِّطةً تنتظر مَنْ يواريها...
بعد حقبةٍ مِنْ الزمن... الله الأعلم بمداها... عادتْ الروح إلى جسدي و استطعتُ التحرّك... وقفتُ و أنا مفلوق الهامة... يأمرني الشقُّ الأيمنُ بالسير يميناً و يأمرني الشقُّ الأيسر بالسير يساراً... حتّى إذا ما سرتُ... ترنّحتُ و كدتُ أختتم صدماتي بارتطام بالجدار...
صعدتُ السلَّم و قادتْني قدماي إلى غرفة سامر، في الطابق العلوي. ربّما خُيَّل إليَّ... أنني سأستيقظ مِنْ الكابوس و أرى أخي ينام بسلام على سريره... لكنّه لمْ يكن على سريره! أشعلتُ المصابيح غير أنَّ النور لمْ يكشف شيئاً مُستتراً... و لا شعوريا أخذتُ أفتِّش بين أغراضه...
مسكينٌ وليد ! هل خيَّل لكَ دماغكَ المفلوق... أنَّكَ ستجد شقيقكَ الغائب... مختبِئاً في أحد الأدراج ؟؟
ما وجدتُه في أحد الأدراج... كان صندوقاً. إنّه ذات الصندوق الذي رأيتُه في شقَّة أخي في المدينة التجارية، و الذي تغلّبتُ على فضولي و لمْ أفتحه ذلك اليوم...!
و لكن لماذا تتحرَّك يداي لفتحه الآن ؟؟ أي مِنْ شِقَّيْ دماغي يأمرها بذلك ؟؟
أخيراً فتحتُه... و وقع بصري مباشرةً على ما فيه !
اشرأبَّ عنقي... جحظتْ عيناي... تصادمتْ قطرات دمي و هي تتدفق بتهوَّر و عشوائيةً مِنْ قلبي...
تقترب الساعة مِنْ السابعة و النصف و وليد لمْ يظهر بعد! سأتأخَّر عن الجامعة. ألا يزال نائماً حتَّى هذه الساعة؟؟
كان لابد لي مِنْ الذهاب إلى غرفة المعيشة - حيث ينام حالياً - و طرْقِ الباب. نحن لا نكالم بعضنا منذ أيام. في الحقيقة العلاقة بيننا شبه منقطعة منذ زمن، و بعد موضوع الفنان عارفهذا الأخير، لمْ نعد نتبادل غير التحية. لكن أنا أرضى مِنْ وليد بأي شيء... حتَّى لو قرّر أنْ يتجاهلني تماماً... سأقبل. أريد فقط أنْ يبقيني تحت جناحه... و أنْ يسمح لي بأنْ أراه و لو مرّة واحدة كل يوم. و اليوم سيأخذني إلى الطبيب حتّى تُنزع جبيرة رجلي، و استعيد كامل حركتي... أخيراً.
طرقتُ الباب مراراً و لمْ يُجبني. كان الوقت يداهمني لذلك لمْ أتردّد قبل فتح الباب، و المفاجأة كانتْ أنّه لمْ يكن في الداخل !
بحثتُ عنه في المطبخ و الغرف المجاورة و لمْ أجده. شعرتُ بالقلق، و رجَّحتُ أنْ يكون في الطابق العلوي. لمْ تكن الخادمة قد استيقظتْ بعد. اتّصلتُ بغرفته العلويّة عبر الهاتف الداخلي و ما مِنْ مجيب. ازداد قلقي، فاتصلتُ بهاتفه المحمول، و أخيرا تلقّيتُ رداً:
" نعم رغد "
قالها بسرعة و كأنّه على عجلة مِنْ أمره أو مشغول. سألته مستغربة:
" أينَ أنتَ ؟؟ "
فأجاب:
" في الجوار... سأصل بعد قليل "
و لكن ! إلى أين ذهبتَ في هذا الصباح الباكر ؟؟ و كيف غادرتَ و تركتني !؟؟
قلتُ:
" حسناً "
و أنهيتُ المكالمة و جلستُ أنتظره في المطبخ. جاء بعد قليل و كان يحمل معه كيساً يحوي أقراص الخبز و فطائر و أطعمة أخرى، فاستنتجتُ أنّه كان في المخبز.
قاد وليد السيارة بسرعة كبيرة نحو الجامعة، على غير العادة... و تلقّى ثلاثة اتصالات هاتفية أثناء الطريق... و كان ظاهراً مِنْ كلامه... أنّ هناك ما يقلقه...
لمْ أجرؤ على سؤاله، فالتواصل بيننا مؤخَّراً كان مُجمَّدا. ذهبتُ إلى جامعتي و قضيتُ نهاري بين زميلاتي بشكل اعتيادي، دون أنْ يخطر ببالي أنّه سيكون... النهار الأخير....!!
بعد انتهاء المحاضرات، جلسنا أنا و مرح عند المواقف ننتظر وصول سيارة وليد كالعادة، فهو مَنْ كان يوصلنا يومياً ذهاباً و إياباً إلى و مِنْ الجامعة. مرّتْ بضع دقائق و لمْ تظهر السيارة. و وجدتْ مَرَح في الانتظار فرصة لتطرح عليَّ السؤال التالي:
" هل مِنْ جديد... عنْ موضوعنا ؟؟ "
تعني موضوع عرض الزواج ! آه يا مرح ! و هل هذا وقته ؟؟ لمْ أشأ أنْ أكون فظّة و أخبرها مباشرةً بأنْ تنسى الموضوع نهائياً، خصوصاً و أنَّ هناك طلبٌ رسمي مِنْ عائلتها مقدَّم رسمياً إلى وليد؛ وليّ أمري، و الذي يجب أنْ يتولَّى بنفسه الردَّ الرسمي على الطلب، لمْ أُرِدْ أنْ أحرجها و أحرج نفسي لذا قلتُ متظاهرة بالمرح:
" انتظروا ردَّ أبي ! "
لكنّني لمْ أتخلّص منْها إذ سألتْ مِنْ جديد:
" ماذا عنْ رأيكِ أنتِ ؟؟ هل توافقين على الفكرة مبدئياً ؟؟ "
و احترتُ بِمَ أجيب ؟! ربّما فسّرتُ مَرَح حيرتي بأنّها قبول و خجل... فها هي تبتسم بسرور !
أظهرتُ الجدّ على ملامح وجهي و قلتُ:
" مَرَح... هناك شيءٌ لمْ أطلعكِ عليه مِنْ قبل "
فاتَّسعتْ ابتسامتها و قالتْ بفضولٍ مندفعٍ ممزوجٍ بالمزح:
" ما هو ؟؟ أخبريني ! سرُّكِ في بئر ! "
آه ! يبدو أنّه مِنْ الصعب أنْ تأخذ مَرَح الأمور بجدٍ حقيقي ! قلتُ و أنا مستمرّة في نبرة الجد:
" لقد... كنتُ مخطوبةً في السابق "
اتّسعتْ حدقتا مََرَح بشدَّة... و حملقتْ بي غير مصدّقة، فقلتُ مؤكِّدةً:
" نعم... و لعدّة سنوات ! "
قالتْ بعد ذلك و فمها مفغورٌ:
" أحقاً !! لا أصدِّق ! كيف !؟؟ متى ؟؟ أين ؟؟ مَنْ ؟؟"
انتظرتُ حتى تستفيق مِن أثر المفاجأة ثمَّ قلتُ:
" بلى صدّقي "
" متى رغد !؟ "
" منذ سنين... كنتُ صغيرةً... و... لقد انفصلتُ عنه... قبل شهور "
لمْ تخفِ مَرَح دهشتها الشديدة. استغرب مِنْ نفسي !! كيف أذكر هذا الموضوع و كأنّه موقفٌ عابر انتهى... بينما كان في الواقع حدثاً استمرَّ لأربع سنين؟؟!! أربع سنين عشتُها مخطوبةً لسامر، و أنا لا أعرف ما هي حقيقة مشاعري نحوه. أصلاً... لمْ أكنْ أعرف أنَّ هناك أنواعٌ مِنْ الشعور، لمْ أذقْ منها سوى طعمٍ واحد... إلى أنْ ظهر وليد في حياتي مِنْ جديد، و أذاقني أصنافاً أخرى...
سألتْ مَرَح:
" مَنْ كان ؟؟ "
فنظرتُ إليها نظرة قويّة، ثمَّ أبعدتُ بصري عنها و طأطأتُ رأسي. و بعد تفكير قصير أجبتُ:
" ابن عمِّي "
حينها هتفتْ مرح بدهشة و هي ترفع يدها إلى فمها:
" المليونير !!! وليد شاكر !!؟؟ "
التفتُّ إليها بسرعة و قد لسعني تعليقها بقوّة فأجبتُ بتوتّر:
" لا.. لا... "
ثمَّ زممتُ شفتيَّ و أضفتُ:
" شقيقه الأصغر "
فقالتْ مرح و قد بدا و كأنها آخذةٌ في الاستيعاب:
" هكذا... إذن ! "
ثمَّ صمتتْ قليلاً...و استطردتْ تسأل:
" و... لماذا انفصلتُما ؟؟ "
و عند هذا الحدِّ كان يجب أنْ نتوقّف. قلتُ و أنا افتح حقيبتي و استخرج هاتفي و أتظاهر بعدم الاكتراث:
" لا نصيب "
و اتصلتُ مباشرة بوليد اسأله عن سبب تأخّره. و أدهشني و حيّرني حين أجاب:
" أنا آسف يا رغد. لا استطيع الحضور الآن. مشغولٌ جداً. عودي مع صديقتكِ "
~~~~~~~~~~~~~~~
-وليد-
كنتُ ساعتها أبذل كلَّ الجهود الممكنة و المستحيلة مِنْ أجل تسهيل أمر ترحيل أخي إلى الخارج في أي لحظة تصل يدي إليه. اتخذّتُ عشرات التدابير... و وضعت عدَّة خطط و بدائل خطط... استعداداً للعمليّة... لمْ يعدْ لديَّ شكٌ في أنَّ أخي بالفعل متورِّط مع تلك المنظَّمة... و لمْ أعد بحاجة إلى دليلٍ إضافي بعد ما وجدتُ في الصندوق.
لا وقت لديَّ كي أستوعب و أحلِّل... أنا هنا فقط لأعمل و أعمل... بشتَّى الطرق... لأعثر عليه و أُخرِجه مِنْ البلد قبل أنْ تسبقني السلطات إليه.
و لشخصٍ مثلي... عاش في السجن تسعة أعوام... و رافق مجرمي أمن البلد... و عاصر مصارعهم أمام عينيه، لستُ بحاجة لأنْ يشرح لي أحد... ما الذي يمكن أنْ يلاقيه أخي... لو تمَّ اعتقاله...
عدتُ إلى المنزل عند الخامسة، في أشدّ أشدِّ حالات الإعياء و التعب. عند وصولي استقبلتني رغد بوجه قلق، و سألتْني مباشرة:
" تأخّرتَ وليد... لماذا؟ "
و سرعان ما لاحظتْ أثر الإعياء صارخاً على وجهي، فسألتْ هلِعة:
و خطوتُ خطوةً باتّجاه غرفة المعيشة، فاستوقفتْني رغد قائلة:
" موعدي مع الطبيب "
فتذكّرتُ... أنَّ اليوم هو موعد نزع جبيرة رغد، و هو أمرٌ ألغاه مِنْ ذاكرتي ما حلَّ مكانه بكل قوة. التفتُّ إليها و قلتُ:
" لا وقت لدينا "
فنظرتْ إليَّ بحيرة و استغراب و حزن، عندها اقتربتُ منها خطوةً و قلتُ:
" رغد... اجمعي أهم أشياءكِ في حقيبة. جهِّزيها في أسرع وقت اليوم "
بدا الذعر على وجه صغيرتي و رفعتْ يدها نحو عنقها و قالتْ متوجِّسةً خيفة:
" ستعيدني إلى خالتي ؟؟... كلاَّ أرجوك!! "
فحملقتُ فيها قارئاً مخاوفها و توسلاتها ثمَّ قلتُ:
" ليس هذا... قد نُضطر إلى سفرٍ طارئٍ و حرجٍ في أيّة لحظة... استعدِّي "
و تابعتُ سيري إلى غرفة المعيشة تاركاً إيّاها في حيرتها... و استلقيتُ على الكنبة و غرقتُ في النوم بسرعة...
" وليد... سامر هنا "
فتحتُ عينيَّ... و استفقتُ لأكتشف أنَّني لازلتُ نائماً على الكنبة، و أرى رغد تقف أمامي. لكن... مهلاً... ماذا كانتْ تقول؟؟ ماذا كنتُ أحلم؟؟ ماذا سمعتُ ؟؟ ماذا هُيّئَ لي ؟؟
استويتُ جالساً و أنا لا أزال بين النوم و الصحوة... و نظرتُ إلى ساعة يدي... فرأيتُها تشير إلى الثامنة مساءاً... أوه... الصلاة...
قلتُ:
" لماذا لمْ توقظيني عند المغرب ؟ "
كان شيئاً مِنْ القلق على وجهها... و سمعتُها تقول:
" لمْ أكنْ أعلم أنَّكَ لا تزال نائماً... أحسستُ بحركةٍ في المنزل فبحثتُ عنكَ... و وجدتُكَ نائماً هنا... سألتُ الخادمة فأخبرتْني بأنّها رأتْ السيِّد الأصغر يصعد السلَّم... أتيتُ لأوقظكَ و أخبركَ بهذا "
لخمس ثوانٍ بقيتُ محملقاً فيها استوعب ما قالتْه... ثمَّ... و بسرعة البرق... قفزتُ مِنْ مكاني و ركضتُ طائراً نحو الطابق العلوي...
أقبلتُ باندفاع نحو غرفة شقيقي و كان الباب مغلقاً... ففتحتُه بسرعة و اقتحمتُ الغرفة... و كم كاد قلبي أنْ ينفجر مِنْ البهجة... حين رأيتُ شقيقي سامر... يقف أمام عينيَّ...
" الحمد لله "
انسكبتْ الجملة مِنْ لساني و طرتُ نحو شقيقي و طوّقتُه بذراعيَّ و ضممتُه إلى صدري...
" حمداً لكَ يا رب... حمداً لكَ يا رب "
ألف حمدٍ لكَ يا رب... فقد رددتَ إليَّ شقيقي سالماً... حياً... معافى... الآن استطيع أنْ أخبِّئه... أنْ أحميه بحفظكَ... و أبعده عن الخطر...
أزحتُ ذراعيَّ عنْ أخي و نظرتُ إلى عينيه... فرأيتُ الشكَّ... و الاتهامَ ينبعثان منهما... و انتبهتُ حينها إلى أنَّ الصندوقَ الذي كان سامر يخبِّئ فيه السلاح... موضوعٌ على السرير... وهو مفتوح...
كلانا نظر إلى الصندوق... ثمَّ إلى بعضنا البعض... و نظرتانا تبلِّغ إحداهما الأخرى... بما استنتجتْ...
أخيراً نطق سامر قائلاً:
" أين هو ؟؟ "
يقصد المسدّس... و الذي أخذتُه أنا مِنْ صندوقه ذلك اليوم، و أخفيتُه. لمْ أجِبْ... فكرَّر سامر و بنبرة أغلظ و أشد:
" أينَ هو ؟؟ "
حدّقتُ به برهة ثمَّ قلتُ:
" تخلّصتُ منه "
بدأ وجه شقيقي يضطرب... تغيّرتْ ألوانه و تبدّلتْ سحنته... و زفر بنفاذ صبر و عاد يكرَّر:
" وليد... أخبرني أين وضعتَه ؟؟ و لماذا سمحتَ لنفسكَ باقتحام غرفتي و العبث بأشيائي ؟؟ "
قلتُ محاولاً امتصاص غضبه و أنا أمسِك بذراعه:
" دعنا نجلس و نتحدَّث "
غير أنَّ أخي سحب ذراعه مِنْ يدي و هتف بعصبيّة:
" أعده إليَّ يا وليد الآن... لا وقتَ عندي "
فنظرتُ إليه بعطف و قلتُ:
" لا وقتَ... لماذا؟؟ ما أنتَ فاعلٌ ؟؟ "
فردّ باقتضاب:
" ليس مِنْ شأنكَ... و لا تُقحِم نفسكَ في ما لا يخصُّكَ "
فرددتُ مباشرة ًمعترضاً:
" لا يخصُّني ؟؟ أنتَ شقيقي يا سامر... شقيقي الوحيد و كل ما يتعلَّق بكَ يخصُّني و يعنيني "
قال سامر بعصبيةٍ و صبرٍ نافذ:
" وليد لو سمحتَ... لا داعي لتضييع الوقت في الكلام... أعد السلاح إليَّ في الحال و دعني أذهب "
و كلمة ("أذهب") هذه هزّتْ جسدي مِنْ شعر رأسه إلى أظافر قدميه... ثمَّ هززتُ رأسي بـ (كلاّ) فما كان مِنْ أخي إلا أنْ تجاوزني و سار مندفعاً نحو الباب و هو يقول:
" سأفتِّش عنه بنفسي "
و انطلق نحو غرفة نومي... دخلها و باشر بتقليب الأشياء و بعثرة كل ما تقع يده عليه، بحثاً عن المسدَّس. وقفتُ عند الباب أراقبه... و أنا لا أصدِّق أنّها الحقيقة... أخي أنا... عضوٌ مشاغب في منظَّمة للمتمرِّدين... يشارك في تنفيذ عمليات إجرامية ؟؟ أخي أنا... يملك سلاحاً... و يغتال البشر...!!؟؟
" أين َ أخفيتَه يا وليد تبّاً لكَ ! "
قال ذلك بعد أنْ اشتطَّ بهِ الغضب و يأس مِنْ العثور على ضالَّته، فقلتُ:
" لا تتعبْ نفسكَ... إنّه ليس هنا "
التفتَ إليَّ و الشرر يتطاير مِنْ عينيه و زمجر:
" إذن... لنْ تدلَّني على مكانه ؟؟ "
فأجبتُ بحزم مع مرارة:
" أبداً "
و ما كان مِنْ شقيقي إلا أنْ ألقى ما كان في يده و سار منطلقاً إلى خارج الغرفة و باتجاه السلَّم. تبعتُه و أنا أقول:
" إلى أين ستذهب ؟؟ إنَّه ليس في المنزل "
فسمعتُه يرد:
" أنا تاركٌ لكَ المنزل و ما فيه "
انفجرتْ القنابل في رأسي... ركضتُ خلفه و أنا أهتف:
" انتظر... انتظر "
قفزتُ الدرجات قفزاً حتّى أدركتُه عند أواخرها و أطبقتُ بيديَّ على ذراعه...
قلتُ:
" لنْ أدعكَ تخرج "
سامر حاول تحرير ذراعه مِنْ قبضتي فشددتُ أكثر... فصرخ في وجهي:
" أتركني "
غير أنَّني شددتُه أكثر و أعقتُه عن التقدُّم. حينها سدَّد ركلةً بركبته إلى معدتي مباشرة... و فرطُ الألم أصابني بشللٍ مفاجئ... فتمكَّن مِنْ الإفلات مِنْ قبضتي و هرول مبتعداً... لحقتُ به بسرعة و أنا أتلوى وجعاً، و أدركتُه عند الممر فأمسكتُ به و جذبتُه و أنا أهتف:
" لنْ أدعكَ تذهب يا سامر... لنْ أدعكَ "
و دارتْ بيننا معركةٌ عنيفة... أشدّ شراسةً و ضراوةً مِنْ تلك التي أشعلناها ليلة زيارة (عارف المنذر) لنا... كنتُ أضربه و أنا أتألّم... أمزِّق ملابسه و أنا أتمزَّق... أُدميه و أنا أنزف... يستحيل أنْ أترككَ تخرج يا سامر... و إنْ اضطررتُ لكسر ساقيك فسأفعل... لكنَّني لنْ أدعكَ تقع في أيدي السلطات... لنْ أدعهم يلمسوا مِنْكَ و لا شعرة واحدة....
وقفتُ أشاهد عراك ابنَي عمِّي الجنوني مذعورةً... أُلصِق جسدي بالجدار خشيةَ أنْ تنالني صفعةٌ طائشةٌ مِنْ أيٍّ مِنْ قبضتيهما ! كلّما ضرب أحدهما الآخر أطلقتُ صيحةَ ذعرٍ و أخفيتُ عينيَّ خلف راحة يدي... و انتفض جسمي. كانسامر يحاول التوجُّه إلى المدخل... إلى الباب... و وليد كان يجرُّه في الاتجاه المعاكس و هو يصرخ:
" سيقبضون عليكَ ألا تفهم ؟؟ سيلقون بكَ في السجن إلى أنْ يعدموكَ بأبشع وسيلة... أنا لنْ أسمح لهم بالوصول إليكَ "
و يحتدم العراك بين الشقيقين و أرى اللون الأحمر يشقُّ جداولَ و بركاً على جسديهما... يضرب سامر ساق وليد بقوة فيجثو أرضاً... و يحاول سامر الفرار فتقبض يدا وليد على رجله و يشدُّه بعنفٍ فيفقد توازنه و يقع أرضاً... يطبق وليد على رجلَي سامر و يجرُّه في الممرِّ عنوةً... يحاول سامرالنهوض و يفشل... يصرخ:
" اُتركني... ابتعِد "
و يوجّه ركلةً بقدمه نحو وليد فتصيب أنفه مباشرةً... لكنَّ وليد لا يُطلق صراح سامر مِنْ قبضته بل يجرَّه و هو يحكُّ جسده بالأرض... و يحاول سامر غرس أظافره في الرخام الأملس دون جدوى... فيصرخ بصوت أقوى و أعنف:
" اُتركني أيّها الوحش "
و وليد مستمرٌ في جرّ أخيه إلى أنْ أدخله مجلس الضيوف... لمْ أعد مِن مكاني أستطيع رؤيتهما، لكنَّ صراخهما كان يدوي في كل المنزل... و سمعتُ أيضاً صوت المزيد مِنْ الركلات و الضربات و الآهات المتوجّعة القوية... و التي جعلتْني أرجِّح أنَّ كسراً ما قد أصاب عظام أحدٍ منهما...
لمْ أشعر إلاَّ و دموع الرعب تنسكب فائضةً مِنْ عينيَّ... لقد... سبق و أنْ عاصرتُ عراكاً بينهما، و لكن... ما يحدث الآن... يفوق حد الجنون....
" رغـــــــــد "
فجأةً انتفض جسمي على صرخة أحدٍ يهتف منادٍ باسمي...
" رغـــــــد... تعالي بسرعة "
حتّى أنني لقوَّة الزمجرة لمْ أعرف صاحبها...
" رغـــــــد أسرعي "
أمسكتُ بعكازي و هرولتُ نحو المجلس تاركةً قلبي معلَّقا على الجدار الذي كنتُ استند إليه... فور وصولي إلى فتحة الباب وقع بصري على وليد يلوي ذراع سامر و هو يلصقه بالجدار بينما يحاول سامر التملُّص و يسدِّد رفسات عشوائية نحو رِجْلَي وليد....
" أغلقي الباب بالمفتاح "
قال ذلك وليد، فنظرتُ إليه غير مستوعبة... ماذا يقول..؟؟
فصرخ:
" هيّا بسرعة... "
ارتجفتُ مِنْ صرخته و نظرتُ إلى الباب و رأيتُ المفتاح مغروساً في ثقبه، مِن الخارج...
صرخ وليد:
" اقفليه بسرعة هيّا "
و في نفس الوقت صرخ سامر:
" إياكِ يا رغد "
فصرخ وليد صرخةً مجلجلة:
" تحرَّكي "
انصعتُ بعدها لأمره بلا إدراك، و أغلقتُ الباب و أقفلتُه... وقفتُ خلف الباب المقفل واضعةً يديَّ على صدري... و أنا أحملق في المفتاح... و لمْ يفسح العراكُ الذي هزَّ الباب أمام مرآي، لي المجالَ للتفكير و استيعاب ما يجري...
ابتعدتُ عن الباب و أنا أتوقَّع أنْ يُقلع في أية لحظة... كان جسد أيٍ منهما يرتطم به المرَّة بعد الأخرى... ثمَّ أخذتْ قبضتا أحدهما تدكُّه دكاً...
" افتـحـي يـا رغـــد "
لقد كان سامر...
" لا تفتـحي يـا رغـــد... ابقي مكانكِ "
صوت وليد... و تداخلتْ الأصوات الصارخة الثائرة المجنونة... افتحي لا تفتحي... حتَّى شعرتُ بالدوار و خررتُ على الأرض... انطلق البكاء المكبوت مِنْ صدري أخيراً و أخذتُ أصرخ:
" ماذا يحدث... ما الذي تفعلانه ؟؟ ماذا حلَّ بكما ؟؟ "
و أنا لا أفهم شيئاً... ثمَّ سمعتُ ضربات قوية على الباب أوشكتْ على اختراقه مِنْ شدّتها... و صراخ سامر يهتف:
" افتـحـي البـــاب "
يليه صوت وليد:
" لا تستمعي إليه يا رغد... إذا خرج فسوف يقتلونه... إياكِ يا رغد... "
التفتُ إلى الباب و هتفتُ:
" مَنْ يقتلون مَنْ ؟؟ "
فجاءني ردُّ وليد:
" الشرطة تطارده... سيجدونه حتماً... أنا سأنقذه قبل أنْ يصلوا إليه... "
أنا... لا أفهم شيئاً... لا أفهم شيئاً...
" رغــد "
ناداني وليد....
" رغد أتسمعين ؟؟ "
أجبتُ:
" نعم "
" احضري هاتفي المحمول بسرعة "
لمْ أعقِّب... فقال:
" هل تسمعينني يا رغد ؟؟ "
قلتُ:
" ما الذي يجري ؟؟ أنا لا أفهم "
فقال:
" احضري هاتفي... و لا تفتحي الباب إلا حين أطلبُ أنا ذلك... بسرعة يا رغد "
و نهضتُ، و امتثلتُ لأمر وليد و جلبتُ هاتفه مِنْ غرفة المعيشة. وقفتُ عند الباب و قلتُ:
" الهاتف "
فسمعتُه يخاطب سامر:
" دعني أنقذكَ يا سامر... أنا أعرف سبيلاً لذلك... لا تعترضني أرجوكَ "
لكن الظاهر أنَّ سامر انكبَّ مجدَّدا على وليد و تعاركا ثانيةً...
" ما الذي تريده منِّي؟؟ لماذا لا تتركني و شأني ؟؟ "
قال سامر، فأجاب وليد:
" لنْ أترككَ و شأنكَ يا سامر... إنّهم سيقبضون عليكَ و يقتلونك ألا تفهم ؟؟ "
فقال سامر:
" و ما الذي يهمُّكَ أنتَ ؟؟ هذه حياتيِ أنا "
فيرد وليد بصوتٍ شجي متألِّم:
" كيف تقول ذلك ؟؟ إنّكَ أخي الوحيد... كل مَنْ تبقَّى لي مِنْ عائلتي... أنا لا أقبل أنْ يصيبكَ أي ضرر "
فردّ سامر:
" مـنـــافـِــق "
فجاء صوت وليد يردُّ بألمٍ أشدّ:
" أنا يا سامر ؟؟ "
فيقول سامر:
" أنتَ أصلاً لمْ تكترث لي و لمشاعري يوماً... أي أخوَّة و أي نفاق "
و حلّ صمتٌ مفاجئ... بعد طول جلبة و ضجيج... ثمَّ سمعتُ وليد يقول:
" اكترثُ لكَ و لكلِّ ما يعنيكَ يا سامر... ألا ترى ما أنا فيه ؟؟ ألا ترى ؟؟ ألا تعرف ما حلَّ بي منذُ عرفتُ؟؟ "
ثمَّ أضاف:
" أنتَ جزءٌ منِّي... لا أسمح بأنْ يطالكَ الأذى. دعني أجري اتصالاتي و أتصرَّف بسرعة قبل فوات الأوان "
فقال سامر:
" وفِّر جهودكَ... لقد فات الأوان... أنا لا يهمُّني أي شيء... لا الحياة و لا الموت "
فردّ وليد:
" لمْ يفتْ الأوان... سأعمل على إخراجكَ مِنْ البلد و مِنْ كل بُد "
ثمَّ تغيّرتْ نبرته إلى الرجاء و قال:
" ابقَ مكانكَ... أرجوكَ أنا مرهق... لا طاقة لي بالمزيد "
ثمَّ اقترب صوته... صار عند الباب مباشرة... خاطبني أنا قائلاً:
" رغد افتحي الباب "
و بقيتُ لثوانٍ متردِّدة... و سألتُ:
" هل أفتح ؟؟ "
فأجاب:
" نعم افتحي "
بحذر أدرتُ المفتاح في ثقبه... ثمَّ رأيتُ قبضة الباب تدور... و الباب ينفتح... و يظهر منه وليد... بمظهرٍ فظيعٍ و مرعب... تحرّك وليد بسرعة إلى الخارج و صدَّ محاولة سامر للحاق به و أغلق الباب و أقفله فوراً... أخذ سامر يضرب على الباب بيديه و برجليه ضرباً مسترسلاً و هو يصرخ طالباً منَّا فتحه، و وليد واقفٌ على الناحية الأخرى يقول:
" لنْ أفتحه يا سامر... أرجوكَ لا تعقِّد عليَّ الأمر... انتظر حتَّى أؤمِّن فراركَ... أرجوكَ ثِق بي "
صرخ سامر:
" جبان... ستدفع ثمن هذا... "
و لم يُجبْ وليد... رأيتُه يطأطئ رأسه... ثمَّ يمسح براحته على وجهه ثمَّ يرفع رأسه متأوِّها و يمسِّد على ذراعه... ثمَّ يستدير إليَّ... هل أصف لكم كيف كان ؟؟ يفوق الوصف...
الملابس... ممزَّقة... ملطَّخة بالدماء... العنق... مخطَّط بالخدوش الدامية... الشعر مبعثر في كل الاتجاهات... كعُشٍ هجره عصفوره قبل أن يُكمل بناءه... الوجه متورِّم شديد الاحمرار... متغيِّر الملامح... يحملق الناظر فيه بضع دقائق... ليعرف صاحبه... و شارعان متوازيان مِنْ الرواسب المالحة... يمتدَّان مِنْ المقلتين شاقَّيْن الوجنتين... ينتهي أحدهما إلى غابة مِنْ الشعر الأسود... و الآخر يصبُّ كنهرٍ ناضبٍ في بركة مِنْ الدماء الغزيرة... تنبع مِنْ أنفه...
وليد... قلبي !!!
مدَّ وليد يده باتجاهي... و مِنْ فرط ذهولي بفظاعة منظره... لمْ أفهم ما يعني... هل... هل يريد أنْ... أشدَّ على يده و أربِّت عليه؟؟ أمْ... يريد أنْ... أنظِّف جراحه و أضمِّدها ؟؟ أمْ... يريد إنْ يستند إليَّ... نعم... فهو في حالةٍ فظيعة... و ربّما لا يستطيع السير بمفرده... و يريد منِّي أنا المستندة إلى العكّاز، أنْ أسنده !!
حين أحسَّ وليد ضياعي، قال:
" الهاتف "
هنا ضرب سامر الباب و صرخ:
" افتحوا الباب... دعوني أخرج مِنْ هنا "
تناول وليد الهاتف مِنْ يدي، ثمَّ نزع المفتاح مِنْ ثقبه، و نظر إليَّ و قال:
" إياكِ يا رغد... أنْ تفتحي له... إيّاكِ "
و ربّما لاحظ تيهي... و عدم استيعابي لشيء... فقال محذِّراً:
" حياته بين أيدينا... إيّاكِ و فتح الباب مهما حصل... أتفهمين ؟؟ "
أفهم ؟؟ أفهم ماذا يا وليد ؟؟!!
هززتُ رأسي كيفما اتفق... و حاولتُ أنْ أنطق بسؤال، غير أنَّ وليد كان قد باشر بالاتصال الهاتفي... و ابتعد عنّي... و اختفى... بعد ذلك بأربعين دقيقة و فيما كنتُ أجلس في غرفتي في حيرتي و هلعي، أتاني و ظاهرٌ عليه أنّه استحمَّ و نظَّف جروحه و بدَّل ملابسه، و أخبرني بأنّه سيخرج في مشاوير مهمّة و سيعيد الخادمة إلى مكتب التخديم... و سألني إنْ كنتُ قد جهّزتُ حقيبة السفر و انزعج عندما أجبتُه بالنفي...
" لا وقتَ أمامنا يا رغد... اجمعي أهمّ أشياءكِ و استعدِّي للسفر الطارئ خلال يومين أو ثلاثة "
تفاقم القلق على وجهي و سألتُ:
" ألنْ توضِّحَ لي ما يحصل ؟؟ "
فأجاب إجابة مقتضبة و هو يستدير ليغادر:
" تورَّط في عمليات شغب خطيرة... السلطات ستقبض عليه... أريد أنْ أهرِّبه مِنْ البلد و بعدها نوضِّح الأمور "
توقَّف وليد و استدار إليَّ و نظر إليَّ نظرة جدٍ و تحذير:
" لا تفتحي الباب يا رغد... إيّاك "
أطال النظرة إليَّ، ثمَّ غادر.... تاركاً إيّاي في ذهولٍ ما مثله ذهول...
بعد ذلك بفترةٍ قصيرة... خرجتُ مِنْ غرفتي و تسلَّلتُ بحذر نحو غرفة المجلس... اقتربتُ مِنْ الباب، و ألصقتُ أذني به مسترقّة السمع لأي حركة أو صوت يصدران مِنْ الداخل... كان الهدوء التام يغمر الغرفة بحيث لا تصدِّق أنها كانتْ تعجُّ بالصراخ كالبركان قبل قليل... همستُ بصوتٍ خفيف:
" سامر "
و لمْ أجدْ جواباً، فطرقتُ على الباب طرقاً خفيفاً و أنا أنادي:
" سامر... هل تسمعني ؟؟ "
جاء صوتُ سامر يجيب:
" رغد "
ثمَّ أحسستُ بحركة... سمعتُ سامر بعدها يقول و قد اقترب صوته مِنْ الباب:
" أين وليد يا رغد ؟؟ "
أجبتُ:
" خرج مِنْ المنزل "
فسأل:
" إلى أين ذهب ؟؟ "
" قال أنَّ لديه مشاوير ضرورية ليقطعها "
صمتَ سامر... فقلتُ:
" كيف إصاباتكَ ؟؟ "
فأنا لا أستبعد أنْ يكون عظمٌ منه قد كُسِر... بعد العراك الوحشي مع وليد. لمْ يجبْ سامر فالتزمتُ الصمتَ قليلاً ثمَّ سألتُ:
" ماذا يحدث يا سامر؟؟ أخبرني "
و لكنّه لمْ يُجِب. فواصلتُ:
" أرجوكَ قُلْ لي... ما الذي فعلتَه و يعرِّض حياتكَ للخطر ؟؟ و لماذا ؟؟ أنا لا أصدِّق... "
قال سامر فجأةً:
" رغد افتحي الباب "
ابتعدتُ عنْ الباب، و كأنني أخشى أنْ أنصاع للأمر بمجرَّد قربي منه... و لمْ أعقِّب... فقال سامر بنبرة رجاءٍ شديد:
" أرجوكِ يا رغد... افتحي الباب... هناك مَنْ ينتظرني... الأمر مهمٌ جداً "
فتشجّعتً و سألتُ:
" أي أمر ؟؟ "
فسكتَ سامر برهة ثمَّ أجاب:
" لا استطيع إخباركِ... لكنه أمرٌ مهمٌ للغاية... افتحي الباب و دعيني أخرج قبل عودة وليد... إنّه لا يعرف شيئاً و لا يفهم الحقيقة "
أعدتُ ذات السؤال:
" أي حقيقة ؟؟ "
فقال بنفاذ صبر:
" لا استطيع أنْ أشرح لكِ الآن... يجب أنْ أخرج و إلا فإنَّ كارثةً ستحلُّ بأصدقائي... أرجوكِ يا رغد... افتحيه و دعيني ألحق بالأوان قبل فواته "
تراجعتُ خطوةً للوراء و أنا أهزُّ رأسي رفضاً... و كأنني أحذِّر نفسي و أنذرها مِنْ مغبَّة الانصياع... سمعتُ سامر يطرق الباب و هو يقول:
" أينَ أنتِ يا رغد... أرجوكِ... افتحيه "
فقلتُ:
" لا استطيع "
" لماذا ؟؟ "
" وليد... "
و قبل أنْ أتمَّ الجملة قاطعني قائلاً بحنق:
" وليد لا يعرف الحقيقة... إنّه سيندم كثيراً حينما يكتشفها.... لا وقت لأوضِّح لكِ... أرجوكِ افتحيه و خلّصيني"
قلتُ:
" انتظر حتّى يأتي وليد و بيِّن له الحقيقة... ثمَّ... ثمَّ إنَّ المفتاح معه هو "
فقال:
" ستجدين مجموعة المفاتيح الاحتياطية في درج مكتبه كما يتركها عادةً... هاتي المجموعة و فتّشي عن المفتاح المناسب. بسرعة يا رغد... أرجوكِ "
قلتُ و أنا أبعد يدي خلف ظهري:
" لا استطيع يا سامر... وليد حذَّرني "
فإذا به يقول فجأة:
" طبعاً ستطيعينه هو "
فوجئتُ مِنْ كلامه، و سحبتُ يدي نحو صدري ثمَّ قلتُ مبرّرة:
" لأنّه... قال... أنَّ هذا خطرٌ على حياتكَ "
فردّ سامر بعصبيّة:
" غير صحيح... إنّه مُخطئ... بقائي هنا خطر على حياتي و حياة أصدقائي "
و ايتطرد:
" تصدِّقينه هو و تكذّبينني أنا ؟؟ ألا تعرفينني جيداً يا رغد؟؟ هل نسيتِ مَنْ أكون؟ "
أثّرتْ بي لكماته، فقلتُ مترددة:
" لكن... "
فقاطعني و قال:
أنتِ تشاركين في تعريض حياتنا للخطر... هل هذا يرضيكِ ؟؟ "
" لا "
" إذن افتحي الباب... و أنا أضمن لكِ بأننا سنكون بخير و ممتنِّين لكِ على إنقاذنا "
" أحقّاً ؟؟ "
" أجل يا رغد... هيّا الآن افتحيه... و أنا سأتَّصل بوليد و أشرح له كل شيء... عجِّلي أرجوكِ "
احترتُ في أمري... فسامر يبدو صادقاً جداً فيما يقول... إنه لم يكذب عليَّ قط... كاد يقنعني بأنّني أُعرِّضُ حياته للخطر بإبقائه حبيساً... لكنّ نظرات وليد المهدّدة... و هو يخاطبني قبل خروجه مباشرةً تجعلني أتردَّد... و ابتعد عن الباب...
" رغد... الآن "
قال سامر... غير أنّني أجبتُ حاسمة الأمر:
" لا استطيع يا سامر... سامحني "
و سمعتُ على إثرها ضربةً قويّةً تصدَّع لها الباب...
عدتُ إلى غرفتي و بدأتُ أحاول جمع أهم حاجيّاتي في حقيبة صغيرة... و بعد نصف ساعة سمعتُ ضرباً على باب غرفة المجلس، و صوت سامر يناديني...
توجّهتُ إليه مسرعة و قلتُ:
" نعم سامر "
فقال:
" رغد هل لي ببعض الماء مِنْ فضلكِ ؟؟ "
و لمّا لاحظ صمتي قال بنبرة رجاء:
" أكاد أموت عطشاً... اجلبي لي قارورةً كبيرة رجاءاً "
قلتُ بتردُّد:
" لكن... "
فقال بنبرة أشد رجاءاً... تذوب لها الصخور الصلبة:
" لكن ماذا يا رغد ؟؟ سألتُكِ بالله... حلقي تجرَّح مِنْ شدّة الجفاف... تكاد دمائي تتخثّر في عروقها... أرجوكِ و لو كأساً واحداً "
انفطر قلبي لكلامه... لمْ أتحمَّل... ألقيتُ بثقل جسدي على الباب و قلتُ بنبرة توشِك على البكاء:
" لا تخدعني يا سامر... أرجوكَ "
فقال:
" أخدعكِ ؟؟ أقول لكِ أنني أكاد أموت عطشاً... تبخَّرتْ سوائل جسمي في العراك مع ابن عمِّك... ألا ترحمين بحالي؟؟"
و للألم المرير الذي أحسستُه، عزمتُ على أنْ أقدِّم له الماء... و لكنّني ما كدتُ ابتعد بضع خطوات حتّى سمعتُ صوت جرس المنزل يُقرع...
كان قرعاً متواصلاً مُربِكاً... شعرتُ بالخوف، و عدتُ أدراجي إلى الباب أخاطب سامر:
" جرس الباب يُقرَع "
قال:
" أسمعه"
قلتُ:
" منْ يكون ؟؟ و لماذا يُقرع بهذا الشكل ؟؟ "
فقال سامر:
" تجاهليه... إياكِ و أنْ تجيبيه "
و زادتْ الجملة فزعي... فقلتُ:
" مَنْ هذا؟؟ لا أشعر بالطمأنينة... أنا خائفة "
فقال:
" اسمعي رغد... اتَّصلي بوليد و أخبريه عن هذا و قولي له أنْ يتوخَّى الحذر "
فقلتُ و قلقي يتفاقم:
" هل تعرف مَنْ يكون؟؟ "
فأجاب:
" لا، و لكن الحذر واجب "
توقّف القرع و أنا أتّصل بوليد... أخبرتُه فحذَّرني مِنْ الإجابة على أي طارق و أمرني بأنْ أبقى ساكنة لحين عودته. سألني عنْ سامر فأخبرتُه بأنّه يشعر بالعطش و يطلب الماء فنهاني عنْ تصديقه و أكَّد عليَّ بألاَّ أقترب مِنْ الباب نهائياً، و أخبرني بأنّه سيعود بعد قليل...
و هذا القليل استمرَّ قرابة الساعتين... و لمْ تكونا كأي ساعتين... جلستُ قرب عتبات متصلةٍ بالممرِّ المؤدِّي إلى غرفة المجلس... في منتصف المسافة ما بين باب المدخل الرئيسي للمنزل و باب المجلس... و ألصقتُ أذناً على كلا البابين... الأذن اليمنى كانتْ تسمع سامر و هو يسأل بمرارة:
" أين الماء يا رغد ؟؟ سأموت عطشاً "
و الأذن اليسرى تترقَّب عودة وليد... و أخيراً التقطتْ هذه الأذن صوت باب المدخل يُفتح... هببتُ واقفةً و يمَّمتُ أنظاري شطر المدخل... متلهِّفةً لرؤية وليد يدخل... فيسكن قلبي... إنَّ مجرَّد الإحساس بوجوده فيما حولي... يُشعرني بالطمأنينة و الأمان...
" لِمَ تقفين هنا ؟؟ "
سألني بقلق و هو ربَّما يلحظ التعبيرات المتلهفة على وجهي، قلتُ:
" تأخّرتَ "
فقال:
" توخّيتُ المزيد مِنْ الحذر..."
فقلتُ مندفعةً:
" سامر عطشان... عجِّل إليه بالماءِ أرجوكَ "
و رأيتُ عضلات فكِّه تنقبض ثمَّ عقَّب:
" لعنَ الله الظالمين "
و سار مباشرةً إلى المطبخ، و حمل قارورة ماء و كأساً فارغاً و اتَّجه بهما إلى غرفة المجلس...
" سامر... جلبتُ لكَ الماء "
قال وليد بعد أنْ طرقَ الباب و استخرج المفتاح مِنْ جيبه... ثمَّ أضاف:
رأيتُ شقيقي جالساً على أحد المقاعد... مبعثر الشعر و الملابس، و عليه أمارات الإعياء... و تصبغ ألوان الطيف وجهه المجروح... اقتربتُ منه و أنا أحمل قارورة ماء و كأساً... ملأتَه بالماء ثمَّ قرَّبتُه إليه و قلتُ:
" تفضَّل "
رمقني أخي بنظرةٍ حادَّة... و بدا و كأنّه متردِّد... ثمَّ حرَّك يده باتجاه الكأس. تناول الكأس منِّي، وألقى عليه نظرة، ثمّ... إذا به يرش محتواه فجأةً على وجهي... وقف بسرعة و ألقى بالكأس و هرول نحو الباب. وضعتُ القارورة جانباً ركضتُ خلفه مسرعاً و أمسكتُ به و جررتُه إلى الداخل، ثمَّ دفعتُ به بقوة نحو المقعد و جريتُ نحو الباب و خرجتُ و أقفلته على الفور. سمعتُ صوتَ أخي يصرخ:
" افتح يا وليد... أنا لستُ حيواناً لتحبسني هكذا "
فرددتُ بانفعال:
" ستبقى حبيساً هنا يا سامر إلى حين موعد السفر. لنْ أسمحَ لأي مخلوقٍ بأنْ يصل إليكَ. أتسمعني؟؟ سأخرجكَ مِنْ البلد بعد الغد "
فصرخ سامر:
" و مَنْ قال لكَ أنني أريد أنْ أخرج؟؟ "
فقلتُ بعصبيّة:
" ستخرج يا سامر. ستفعل ما أطلبه منكَ حرفياً... أفهمتَ ؟؟ أنا دبَّرتُ كلَّ شيء... لا فكرة لديكَ عمَّا فعلتُه و ما بذلتُه لأجل ترحيلكَ... مهما صرختَ و مهما قاومتَ و مهما تعاركتَ... ستفعل ما أريده أنا... شِئتَ أمْ أبيتَ ستنفِّذ خطَّتي "
هاج سامر مِنْ جديد، و أخذ يضرب الباب حتَّى خشيتُ أنْ ينجح في اقتلاعه... التفتُّ إلى رغد فرأيتُها تنظر إليَّ نظرات ذعرٍ و اتِّهام... لا أنقصكِ الآن يا رغد... أرجوكِ... ابتعدتُ عنْ الممرِّ و قلبي يعتصر لحالة شقيقي... ذهبتُ إلى مكتبي لأخذ بعض الأشياء ثمَّ صعدتُ إلى الطابق العلوي لأعدَّ حقيبة سفري... كانتْ الأشياء مبعثرةً في غرفة نومي... فقد قلبها أخي رأساً على عقب و هو يفتِّش عن السلاح... استخرجتُ حقيبة سفر صغيرة و بدأتُ أجمع فيها أهم الحاجيات... و في ذات الوقتُ أحاول إعادة النظام إلى الغرفة و لو قليلاً... فجأة... انتبهتُ لشيءٍ لمْ أكنْ أتمنّى أنْ أراه آنذاك... شيءٍ أسطواني الشكل... مرمي مع مجموعة مِنْ الأشياء المبعثرة على الأرض... صندوق أماني رغد !
و صدّقوني... لمْ أنتبهْ ليدي و هي تضعه في الحقيبة لا شعورياً... كنتُ شارد الفكر... و لمْ أكتشف ذلك إلاَّ لاحقاً...
بعد أنْ انتهيتُ مِنْ إعداد تلك الحقيبة، أقفلتُ باب غرفتي ثمَّ ذهبتُ لتفقِّد غرفة سامر... وأخذتُ منها هاتفه و حقيبته اليدوية و التي كانتْ تحوي وثائق هامَّة، و أشياء أخرى... ثمَّ أقفلتُها و بقية الغُرف، و حملتُ الحقيبتين إلى الطابق السفلي، ثمَّ ذهبتُ إلى رغد و استلمتُ منها حقيبتها، و نقلتُ الحقائب الثلاث إلى السيارة المركونة في المرآب... عندما عدتُ للداخل وجدتُ رغد تقف في انتظاري، و طبعاً ألف علامة استفهام تدور حول رأسها... لكنَّها لمْ تسألني عنْ شيء... ربّما مِنْ هول الموقف... ألقتْ عليَّ نظرةً... و عادتْ أدراجها إلى غرفتها.
يدرك كلانا أنَّ المأزق خطير و أنّه ليس بالوقت المناسب للكلام...
اقتربتُ مِنْ باب غرفة المجلس، تحسّستُه... و داهمني ألمٌ فظيع في معدتي... فانسحبتُ إلى غرفة المعيشة و ابتلعتُ قرصين مِنْ دوائي لمْ يأتِيا بمفعولً يُذكر، و بقيتُ أتلوّى على المقعد لوقتٍ طويل...
الساعة الرابعة فجراً يرنُّ منبِّه هاتفي المحمول، يوقظني لتأدية الصلاة... أنهيتُ صلاتي و تلاوتي لآيات الذكر الحكيم و دعائي للرب الرحيم... ثمَّ ذهبتُ إلى المطبخ و لا شيء يشغل تفكيري غير أخي... وضعتُ بعض الطعام و الماء على صينية، و توجّهتُ بها إلى غرفة المجلس...
كان نائماً بكل هدوء على الأرض، و قد توسَّد إحدى الوسائد التابعة للمقعد... و تلحَّف بأخرى. رقَّ قلبي له... أردتُ أنْ أُربِّتَ عليه بحنان... لكنّي ربَّتُ بقوة أشدّ قليلاً لأوقظه للصلاة...
استيقظ سامر و أخذ ينظر إلى ما حوله بهلع... يبدو أنَّ تربيتي كان أقوى ممَّا تصوَّرتُ... قلتُ مطمئِناً إياه:
" بسم الله... لا تفزعْ... إنّه وقت الصلاة "
نظر إليَّ أخي و لمْ يكلِّمني... ثمَّ نهض و جعل يمدِّد أطرافه بإعياء... و توجَّه إلى دورة المياه التابعة للغرفة. أسرعتُ و جلبتُ سجَّادة الصلاة و فرشتُها على الأرض... خرج أخي بعد قليل و قال:
" أريد أنْ أستحم "
تردّدتُ قليلاً... ثمَّ خرجتُ و أقفلتُ الباب و عدتُ بعد قليل أحمل إليه ملابس نظيفة... و بقيتُ في الغرفة إلى أنْ أنهى حمَّامه و أدَّى صلاته... و عيني ترقبه مِنْ كل الزوايا...
قلتُ:
" تقبّل الله "
فأجاب دون أنْ ينظر إليَّ:
" منَّا و منكم "
ثمَّ رأيتُه يضطجع على المقعد. قلتُ:
" جلبتُ لكَ بعض الطعام... أرجوكَ تناول شيئاً "
و لمْ يلتفتْ إليَّ. قلتُ:
" سننطلق قبل طلوع فجر الغد... أخبرني إنْ كنتَ تحتاج شيئاً لنأخذه معنا "
و لمْ يتكلَّم. اقتربتُ منه و تحدَّثتُ إليه بكل عطف... بقلبٍ يحمل كل الحبِّ و القلق... إذ قلتُ:
" أخي... يا نور عيني... أنا لنْ أسألكَ لماذا فعلتَ هذا... و لا يهمُّني أنْ أعرفَ أي تفاصيل... إنّني فقط أريد أنْ تنجوَ بحياتكَ و تبتعد عنْ الخطر بأسرع ما يمكن "
و استطردتُ:
" إنّني عشتُ تجربة السجن... و قد كان معي في زنزانتي سجناء مجرمون مدانون في قضايا سياسة و أمن بلد... و رأيتُ كيف عاملتهم السلطات و كيف عذَّبتهم أشد التعذيب و قتلتهم أمام ناظري "
قال أخي أخيراً:
" نحن لسنا مجرمين "
تفحّصتُ ردَّه ثمَّ عقَّبتُ:
" السلطات تعتبركم مُجرمين. تصنِّف كلَّ مَنْ يعارضها علناً و يثير الشغب و الفوضى بأي شكلٍ مِنْ الأشكال تحت اسم مجرمي أمن "
التفتَ إليِّ أخي و كأنّه يبدي شيئاً مِنْ الاهتمام لكلامي، فأردفتُ قائلاً:
" كانوا يعذِّبوننا أشد التعذيب... حتَّى أنا و رغم أنني لا أنتمي لتلك المجموعة، نلتُ نصيبي مِنْ الضرب المبرح المتوحِّش... جرّاء حبسي في الزنزانة الخطأ "
و أضفتُ و أنا أكشف عن صدري و ظهري:
" انظر... كلَّ هذا... و أكثر... "
مشيراً إلى الندب التي خلَّفتْها يد التعذيب على جسدي... ثمَّ أشرتُ إلى أنفي و تابعتُ:
" حتَّى أنفي كسروه كما ترى..."
و تابعتُ:
" و صديقي... والد أروى... عذّبوه شرَّ تعذيب، و هو متّهم ظلماً، حتَّى قضى نحبه و هو على ذراعي... "
و تخيّلتُ صورة نديم... في آخر لقطة له قبل أنْ يسلِّم الروح... و انتفض جسدي و امتقع وجهي و عصرتُ عينيّ لأمحو الصورة الفظيعة... قلتُ:
" بعد هذا... كيف تظن بأنّني سأسمح لهم بأنْ يقبضوا عليكَ ؟؟ أبداً... أبدا "
هنا جلس أخي و ردًّ منفعلاً:
" أنا لا يهمُّني الموت و لا التعذيب... "
ارتعتُ مِنْ ردِّه... و سألتُ:
" ما الذي يهمُّك إذن ؟؟ "
فقال:
" لا شيء... لا شيء يهمُّني في هذه الدنيا التعيسة... لا شيء "
و صمتَ قليلاً ثمَّ أضاف:
" لا شيء... بعد كلِّ مَنْ رحلوا... انتهى كل معنى للحياة في نظري... فأهلاً بالموت... "
و جذب نفساً ثمَّ تابع:
" لكنّني لنْ أموتَ قبل أنْ أنتقم منهم "
تضاعف هلعي و سألتُ:
" ممَّنْ ؟؟ "
فأجاب بعصبيّة:
" مِنْ الأوغاد الخونة الغدّارين... الذين قتلوا والديَّ..."
فحملقتُ به مندهشاً، فإذا به يقول:
" هل تظنّ أنهما قُتِلا برصاص العدو ؟؟ "
تفاقم تحديقي به، و أضاف:
" بل هي السلطات الخائنة... التي لمْ تبذل جهداً لتحمي مواطنيها... و سمحتْ للمعركة أنْ تنشبَ عند الحدود و بالتحديد عند الشارع الذي كانتْ تعبره حوافل المدنيين الأبرياء العُزّل... "
و وقف أخي مِنْ شدَّة انفعاله و هتف و هو يضغط على قبضته:
ثمَّ رأيتُه يحني رأسه و يخفي عينيه خلف يده... و يصمت برهة... ثمَّ يبكي...
" سامر... "
ناديتُه بنبرة ضعيفة حانية... فأزاح يده عن عينيه و قال يخاطبني وسط الدموع:
" أنتَ لمْ ترَ كيف كان جسداهما... لمْ ترَ شيئاً... الجبين الذي كنتُ أعكف عليه تقبيلاً و إجلالاً... مثقوب برصاصة اخترقتْ رأس أبي... و الصدر الذي لطالما احتضننا... و فيه تربَّينا و منه تغذَّينا... صدر أُمِّي... منبع العواطف و المحبة و الأمان... مُمزّق إلى أشلاء... حتَّى قلبها كان يتدلَّى خارجاً منه... آآآآآآآآآه... كيف لي أنْ أنسى هذا آآآآآآآآآآه..... "
و جثا أخي على الأرض و هوى بجبينه عليها و راح يبكي بصوتٍ عالٍ منفلت متألِّم... و يضربُ الأرض بقبضتيه منهاراً... لمْ أقوَ على تحمّل ما سمعتُ... أطلقتُ آهة ألمْ مِن صدري و سالتْ دموعي أنا الآخر... كان سامر يضرب الأرض و هو يهتف:
" يا أبي... يا أُمِّي "
و مع هتافه يتشقَّق قلبي و ينطحن... كنتُ ألاحظ منذ وفاتهما رحمهما الله، أنَّ سامر كان أطولنا حزناً... و أكثرنا تذكُّراً لهما و تألمّاً على الذكرى... لقد كانا أقرب إليه منِّي و كان أقرب إليهما منّي... بحكم الفترة الزمنية الطويلة التي قضيتُها في السجن بعيداً عنهما و محروماً منهما...
مددتُ يديَّ إلى كتِفَيْ أخي و شددتُ عليهما... إلى أنْ توقَّف عن البكاء و التفتَ إليَّ... ثمَّ بدأ الشرر يتطاير مِنْ عينيه و قال:
" أَوَ تظنُّ أنّني سأهربُ... دون أنْ أنتقم ؟؟ "
قلتُ:
" تنتقم مِمَّنْ ؟؟ "
" مِنْ أي شيء يتعلَّق بالسلطات... إنّهم هم المسؤولون عنْ مقتل والديَّ... و بهذه الطريقة البشعة "
و هبَّ واقف فشددتُ عليه أكثر فقال:
" دعني أطفئ النار المتأجِّجة في صدري "
فقلتُ:
" و هل سيعيدهما للحياة... أنْ ترتكِب أي عملٍ جنوني ؟؟ "
" غليلي سيُشفى قليلاً "
" و تدفع حياتكَ أو حرِّيتكَ ثمناً ؟؟ سامر إنّهم لنْ يعتقوكَ "
" لا أهاب الموت.. لا يهمُّني... و ليس في حياتي ما يستحقُّ العيش مِنْ أجله "
شعرتُ بالمرارة مِنْ جملته... فقلتُ مستدرّاً عطفه:
" كيف تقول هذا ؟؟ سامر أنتَ لا تزال شاباً صغيراً... لديك شبابكَ و صحَّتكَ... و عملكَ و مستقبلكَ... و عائلتكَ... كيف تضحِّي بكل هذا ؟؟ "
فأجاب و هو يرمقني بنظرةٍ حادَّة...
" أي عائلة ؟؟ الوالدان... قُتِلا... الشقيقة الوحيدة... رحلتْ بعيداً... الخطيبة... هجرتْني... و الشقيق الوحيد... "
و أمال زاوية فمه بسخرية و أضاف:
" منافق... متبلِّد... لا يشعر... لا يفهم... و لا يكترث "
و أضاف:
" مَنْ بعد ؟؟ "
جرحني ما قاله عنِّي... أبعدتُ يدي عنه و نظرتُ إلى الأرض برهة... ثمَّ أعدتُ بصري إليه و قلتُ:
" بل أنا أحسُّ بكَ يا سامر... أنتَ أخي... دماؤك هي دمائي... أكترثُ لكَ كثيراً... و إلاّ لما حبستُك هنا و فعلتُ المستحيل مِنْ أجل تسفيركَ "
قال سامر:
" ثمَّ ماذا ؟؟ "
فقلتُ:
" ثمَّ ماذا ؟؟ "
و أجبتُ على السؤال:
" ثمَّ تبدأ حياتكَ مِنْ جديد في الخارج... المهم أنْ تخرج مِنْ الخطر الآن... و بعدها سأفعل مِنْ أجلكَ أي شيء "
فنظر إليَّ نظرة تشكُّك و ريبة... ثمَّ إذا به يسأل:
" هل ستعيد إليَّ والديَّ ؟؟ "
و انتظر ردّة فعلي التي لمْ تكنْ أكثر مِنْ النظرات الحائرة... ثمَّ تابع:
" أم... هل ستعيد إليَّ خطيبتي ؟؟ "
هنا تصلَّب جسمي... و تجمَّدتْ نظراتي و فقدتُ القدرة على تحريكها... ظلّ أخي يحملق بي و كأنّه ينتظر جوابي... و طال الانتظار...
ابتسم أخي ابتسامة ساخرة واهية بالكاد لامستْ طرف شفتيه... ثمَّ أولاني ظهره و جلس على المقعد مُعلناً انتهاء الحوار... انسحبتُ مِنْ الغرفة و أقفلتُ الباب... و استندتُ عليه و أغمضتُ عينيّ بمرارة... فهمتُ... أنَّ موضوععارف المنذر... هو الشرارة التي فجَّرتْ برميل الوقود... هي... رغد هل هذا هو الثمن الذي تطلبه لقاء حياتكَ يا سامر...؟؟ أتريد أنْ تخطف قلبي منِّي مِنْ جديد ؟؟ أتريد أنْ أتنازل لكَ عن... أوَّل و أكبر و أهم و أعظم حلم في حياتي؟؟ المخلوقة التي هي جزءٌ لا يتجزَّأ منِّي... التي هي أنا... بروحي بقلبي بتفكيري بمشاعري بكياني بماضيَّ بحاضري بكل معاني الأنا فيَّ... إنّها ذاتي... كيف أكون... بدون ذات ؟؟!! آه... يا رب...
عندما فتحتُ عينيَّ... خُيِّل إليَّ أنني رأيتُ شبح رغد يقف في نهاية الممرِّ... هل الإضاءة ليستْ كافية... أمْ أنَّ غشاوةً علتْ عينيَّ مِنْ هول ما أنا فيه ؟؟ أمْ... أمْ أنها خرجتْ مِنْ شريط أحلامي و ظهرتْ أمامي كالطيف العابر... ؟؟
أغمضتُ عينيّ مجدداً... محاولاً ابتلاع جرعة الشبح القويّة هذه... التي ظهرتْ لي في أتعس لحظات حياتي... و عندما فتحتُ عيني مِنْ جديد... لمْ أرَ شيئاً...
الحادية عشرة صباحاً... استيقظتُ على رنين هاتفي المحمول الموضوع على المنضدة إلى جانبي... في غرفة المعيشة... مددتُ يدي و التقطتُ الهاتف و أجبتُ مباشرة:
" نعم ؟ "
فسمعتُ صوت الطرف الآخر... و الذي لمْ يكنْ سوى أبي حسام، و الذي كنتُ على اتصال به أولاً بأوَّل أبلِغه و يبلغني بكل جديد... و كنتُ قد أبلغته عن عودة أخي و حبسي له في المنزل...
" مرحباً وليد... اسمعني جيّداً... "
و بدا مِنْ نبرة صوته أهميّة و خطورة ما سيقوله، و سرعان ما أفصح:
" الشرطة في طريقها لتفتيش منزلكم... تصرَّف بسرعة "
نهضتُ فجأة... فتبعثرتْ قصاصات صورة رغد التي كانتْ نائمة على صدري منذُ الفجر... سألتُ و قد اجتاحني الفزع و القلق فجأة:
" ماذا ؟؟ "
فكرّر أبو حسام:
" الآن وليد... أنا أراهم أمامي في الطريق المؤدِّي إلى منزلكم. اخفِ الأمانةَ بسرعة داخل المنزل... في الحال... في الحال "
قفزتُ بسرعة مِنْ مقعدي و ركضتُ نحو غرفة المجلس... فتحتُ الباب و ولجتُها باندفاع و أنا أهتفُ:
" سامر بسرعة... الشرطة قادمة "
كان أخي نائماً و لكنَّه سرعان ما انتبه على صوتي... أمسكتُ بذراعه و أنا أشدّه و أقول:
" تعال... يجب أنْ تختبئ في مكانٍ آخر "
سامر سحب ذراعه مِنْ بين يدي و هو يقول:
" حُلّ عنّي "
فهتفتُ بانفعال:
" أقول لكَ الشرطة قادمة... ألا تفهم ؟؟ "
فأجاب ببرود:
" لا يهمّني ذلك. سأسلِّم نفسي و ننتهي مِنْ هذه المهزلة "
قلتُ صارخاً:
" يبدو أنّك لا تريد أنْ تفهم "
ثمّ أطبقتُ على ذراعه و جررتُه معي إلى خارج الغرفة أسير متخبِّطاً لا أعرف أين أخبئه. ظهرتْ رغد في الصورة أمام باب المطبخ و رأتْ المنظر فهلعتْ و سألتْ:
" ماذا هناك ؟؟ "
فقلتُ و أنا أجرُّ أخي رغما ًعنه نحو المطبخ:
" الشرطة... يجب أنْ نخبِّئه... لنْ أسمح لهم بأخذه و لو اضطررتُ لقتلهم جميعاً "
سرتُ على غير هدى... مرسلاً نظراتي لكل ما حولي... مفتّشاً عنْ مخبأ...
خرجتُ مِن الباب الخلفي للمطبخ... و سحبتُ أخي رغم مقاومته إلى الحديقة الخلفية المهجورة... نظرتُ يمنةً و يُسرة... و لمْ أجد أمامي سوى قطعٍ مِنْ الأثاث القديم الذي أخرجناه للفناء عندما أتينا للعيش في المنزل، أنا و رغد و أروى و الخالة، رحمها الله... و هناك... على مقربة مِنْ أدوات الشواء القديمة... التي أحرقتْ أخي ذات مرَّة... كانتْ مجموعة مِنْ قطع السجَّاد الملفوفة و المكوَّمة على بعضها... كنا قد سحبناها إلى هذا المكان ذلك الوقت...
لمْ تخطر أي فكرةٍ في بالي... أصلاً كان دماغي مشلولاً عنْ التفكير... أريد فقط أنْ أخفي هذا الشقيق عنْ أعين الشرطة إلى أنْ أسفِّره للخارج...
دفعتُه حتَّى وقع أرضاً... و جلستُ عليه لأعيقه عنْ الحركة و مددتُ يدي إلى إحدى قطع السجاد الملفوفة و دفعتُها لتنفتح... سحبتُ أخي إلى طرف السجادة و جعلتُ ألفّه بها كما تُلف الحشوة بالورق... و هو يصرخ:
" ما الذي تفعله يا مجنون ؟؟ "
إلى أنْ أخفيته تماماً في جوف اللفافة. سحبتُها بعد ذلك بكل طاقات عضلات جسمي... و ركنتُها إلى جانب كومة اللفائف الأخرى... ثمَّ أهلتُ عليها التراب لتبدو و كأنّها مركونة هنا منذ سنين...
" إيّاكَ أنْ تُصِدرَ أيَّ صوتٍ يا سامر... لا تُضِع جهودي هباءاً... إذا حاولتَ شيئاً فسأستخدم سلاحكَ و أقتلهم... هل تسمع ؟؟ لنْ أسمحَ لهم بأنْ يصلوا إليكَ أبداً "
و عمدتُ إلى الرمال أخفي أثار أقدامنا عنها... ثمَّ قرَّبتُ وجهي مِنْ فتحة اللفافة و قلتُ:
" تحمَّل قليلاً... سأخرجكَ فور ذهابهم... أرجوكَ اُصمدْ و أنا سأحقِّق كل ما تتمنَّاه... دعنا نسافر و افعل بعدها ما تريد... أرجوكَ يا سامر... أنا أرجوكَ "
و قمتُ مُهرولاً إلى الداخل...
كانتْ رغد واقفةً عند باب المطبخ الخارجي تراقبنا مفزوعةً، و كان جرس المنزل يقرع قرعاً متواصلاً. سحبتُ الفتاة إلى الداخل و أقفلتُ باب المطبخ و قلتُ:
" إياكِ و فعل أيِّ شيءٍ يكشفنا يا رغد... أرجوكِ... حياة أخي رهن تصرُّفنا "
أسرعتُ إلى غرفة مكتبي... و التقطتُ سلاح أخي الذي كنتُ أخبِّئه هناك، و أخفيتُه في ملابسي... جذبتُ نفساً عميقاً ثمَّ توجهتُ إلى باب المنزل الرئيسي ثمَّ إلى الفناء الخارجي ثمَّ إلى البوابة الرئيسية و فتحتُها...
كنتُ في المطبخ أتناول وجبة فطوري المتأخّرة بهدوء... إلى أنْ سمعتُ صوت بابٍ يُفتح و وقع خطوات تجري بارتباك على الأرض. قفز إلى ذهني الظنُّ بأنَّ سامر قد خرج مِنْ الغرفة بطريقة ما و يحاول الفرار... و سمعتُ صوت وليد بعدها يهتف:
" سامر بسرعة... الشرطة قادمة "
انتفضتُ ذعراً و وقفتُ متَّكئةً كليَّا على عكازي كعجوز طاعنٍ في السن... ثمَّ جررتُ رجلي جراً نحو الباب... و رأيتُ وليد يقبل باتجاهي و هو يجرُّ سامر قسراً... فسألتُ بفزع:
" ماذا هناك ؟؟ "
فردّ باضطراب شديد:
" الشرطة... يجب أنْ نخبّئه... لنْ أسمحَ لهم بأخذه و لو اضطررتُ لقتلهم جميعا ً "
أخرج وليدُ سامر إلى الفناء الخلفي و دفنه في جوف قطعة سجَّاد قديمة ملفوفة... مغمورة بالرمال و الغبار... في عز الظهيرة و عز الحر... إنّه سيختنق إنْ بقى هكذا لبضع دقائق... بدون أدنى شك...
كانتْ عيناي معلَّقتين على لفافة السجاد و فوهي مفغورٌ مِنْ الخوف و الفزع... و لمْ أشعر إلا و يد وليدتسحبني إلى داخل المطبخ... ثمَّ إذا به يختفي... لبضع ثوان... ثمَّ يعود و معه رفقة...
رأيتُ وليد يقبِل نحو فتحة باب المطبخ و يطرقه بيده، و يتحدَّث إليَّ بينما عيناه تراقبان شخصاً أخر:
" بعد إذنكِ يا ابنة عمّي... لدينا زوّار "
ثمّ يدخل إلى المطبخ و يتبعه شرطي يرتدي الزي العسكري... شعرتُ بالقشعريرة تهزُّ بدني، و لمحتُ نظرةً خاطفةً أرسلها وليد إليَّ مليئة بالتحذير...
عبر الشرطي في المطبخ و هو يدوس بحذائه على الأرضية... و سار نحو المخزن و تفقَّده... ثمَّ اتّجه نحو الباب الخارجي و أمسك بمقبضه و أداره... كنتُ حينها أتصبَّب عرقاً و أكتم أنفاسي... و أقف مختبئة خلف وليد... سمعتُ الشرطي يسأل:
" أين المفتاح ؟؟ "
فأجاب وليد:
" مفقودٌ منذ زمن "
فسأل الشرطي:
" ماذا يوجد خلف الباب ؟ "
فأجاب وليد:
" الفناء الخلفي للمنزل "
فسار الشرطي متراجعاً نحو باب المطبخ الداخلي... و غادره...
استدار وليد إليَّ و لمْ ينبسْ ببنت شفه... و بقينا نركِّز سمعنا على حركة رجال الشرطة و هم يفتشون في أرجاء المنزل... أقبل أحدهم بعد ذلك إلينا و سأل:
" الغرف في الطابق العلوي مقفلة... أين المفاتيح ؟؟ "
فردَّ وليد:
" أجل... إننا لا نستخدم معظمها لذلك نبقيها مقفلة "
فكرَّر الشرطي:
" أينَ المفاتيح ؟؟ "
فقال وليد:
" سأجلبها لكم "
ثمَّ التفتَ إليَّ و قال:
" تعالي معي "
و سرنا جنباً إلى جنب إلى غرفة مكتب وليد، حيث استخرج المفاتيح و سلَّمها للشرطي، فقال الأخير:
" رافقنا للأعلى "
فقال وليد:
" الفتاةُ مصابةٌ كما ترى... "
مشيراً إلى عكَّازي. فسلَّم الشرطي المفاتيح لرفقائه و أمرهم بتفتيش جميع الغرف... و بقى هو و اثنان مِنْ أتباعه معنا في المكتب. قال الشرطي:
" إذنْ... هل تقيمان بمفردكما هنا ؟؟ "
فأجاب وليد:
" تقيم معنا خادمة بشكلٍ متقطِّع. و زوجتي مسافرةٌ للحداد على والدتها المتوفاة مؤخراً "
سأل الشرطي:
" لمَنْ ملكيَّة هذا المنزل ؟؟ "
فقال وليد:
" ملكية مشتركة بيني و بين أخوتي "
فقال الشرطي:
" و السيد سامر آل شاكر... ألا يقيم هنا ؟؟ "
فأجابَ وليد:
" كلاَّ.. إنه يقطن الشمال منذ سنين "
و استمرَّ الشرطي بطرح عدّة أسئلة، أجاب عليها وليد بتماسك مُصطنع... إلى أنْ أقبل رجال الشرطة و قالوا:
" لا أحد في الطابق العلوي "
فقال الشرطي القائد:
" فتّشوا الفناء "
و هنا أحسستُ بيد وليد تنتفض... و لو لمْ يكن الشرطي ينظر نحو أتباعه لحظتها للاحظ ما لاحظتُ... و اكتشف سرّنا...
أخذتُ أبتهل إلى الله في أعماقي أنْ يعميَ أبصارهم عنْ مكان سامر... دعوتُه بكل جوارحي، و أنا متأكِّدة مِنْ أنَّ وليد يلهج بالدعاء مثلي...
يا رب إننا لا نملكُ إلا قلوبنا لتتضرَّع إليكَ... لا تخيِّب رجاءنا المتعلِّق بوجهكَ الكريم....
غادر الشرطي القائد المكتب لاحقاً بأتباعه... التفتُ إلى وليد و الذعر يملأ وجهي فنظر إليَّ نظرةً حمراء مُرعبة... و قد تحوَّل بياض عينيه إلى بحر مِنْ الدماء المغلية... ثمَّ رأيتُ يده تتحرَّك نحو أحد جيوبه... و يُخرِج منه... مسدَّساً!!!
شهقتُ فزعاً فوضع وليد يده الأخرى على فمي يكتم شهقتي... و قال:
" سأقتلهم إنْ لمسوه يا رغد "
حاولتُ أنْ أتنفَّس و لمْ أستطع... احتقنتْ الدماء في وجهي و احتبس الهواء في صدري... كدتُ أقع مغشية مِنْ الذهول و الفزع... سمعنا وقع أقدام تقترب... فخبَّأ وليد المسدَّس خلف ظهره و اقترب مِنْ باب المكتب... و وقف على أهبَّة الاستعداد لأنْ يصوِّب المسدَّس نحو رجال الشرطة...
أقبل الشرطي القائد و خلفه بعضٌ مِنْ أتباعه، و وقف إزاء وليد ثمَّ قال:
" إذا جاء إلى هنا أو عرفتم له طريقاً فمِنْ الخير له و لكم أنْ تبلغونا. إنّه مجرّد مشتبهٍ به و ليس متَّهم. سنطلق صراحه بعد استجوابٍ دقيق و ينتهي كل شيء "
ثمَّ أشار إلى جنوده بالانصراف، و غادروا المنزل....
التفتُّ إلى رغد غير مصدِّق بأنَّ الشرطة قد غادرتْ بالفعل... دون أخي... كنتُ أريد أنْ أسمع منها تأكيداً للأمر حتَّى أصدّقه، غير أنّي رأيتُها فجأة تنحني على المقعد و تتنفَّس بقوَّة و تئنُّ...
أعدتُ المسدَّس إلى جيبي و أسرعتُ إليها و انحنيتُ إلى جانبها بقلقٍ مضاعف و سألتُ:
" أأنتِ بخير ؟؟ "
فقالتْ و هي تلتهم الهواء التهاماً:
" سأختنق... أكاد أختنق "
و كان جسدها يرتعش مِنْ الذعر و وجهها يسبح في بحيرة مِنْ العرق. شددتُ على يديها و أنا أقول:
" أرجوكِ تشجَّعي... بسم الله عليكِ... تماسكي صغيرتي "
و إذا بيديها تطبقان على ذراعي و وجهها يندفن في ثنايا كُمِّ قميصي و هي تصيح منهارة:
" لا أتحمَّل هذا... سأموت مِنْ الخوف... "
حاولتُ أنْ أهدّئها قليلاً ثمَّ نهضتُ واقفاً و ابتعدتُ فصرختْ:
" إلى أينَ تذهب ؟؟ "
فأجبتُ:
" إلى سامر "
و هرولتُ مسرعاً تتبعني نداءاتها:
" لا تتركني وحدي...! "
مِنْ بين كومة قطع السجَّاد... حرَّكتُ اللفافة التي تغلِّف شقيقي... فتحتُها بسرعة و استخرجتُ أخي مِنْ جوفها... أمسكتُ بكتفيه... ثمَّ جعلتُ أنفض التراب عن وجهه و شعره و أنا أخاطبه:
" نجونا يا عزيزي... لقد رحلوا "
نظر إليَّ سامر نظرةً حزينةً موجعةً... فقلتُ:
" سامحني يا شقيقي... لمْ أكنْ أريد أنْ أفعلَ هذا بكَ... سامحني! "
ثمَّ طوّقتُه بذراعيَّ و جذبتُه إلى صدري و عانقتُه عناقاً حميماً... بعد ذلك أخذتُه إلى داخل المطبخ و قدّمتُ إليه الماء فشرب كميَّة كبيرة... لا تقل عن الكميَّة التي أفرغتُها في جوفي بسرعة... قلتُ بعدها:
" لمْ يعدْ المنزل آمناً لكَ... سآخذكَ إلى مكانٍ آخر حتَّى يحين موعد الرحيل "
جلس أخي على أحد المقاعد الموزَّعة حول الطاولة، و وضع رأسه على الطاولة باستسلام، و تأوَّه... قلتُ و أنا أتحرَّك نحو الباب الداخلي للمطبخ:
" سأرى كيف يمكنني إخراجكَ الآن و إلى أين آخذكَ "
و قبل أنْ أخرج مِنْ المطبخ سمعتُه يناديني:
" وليد "
التفتُّ إليه فرأيتُه ينظر إليَّ و قد علتْ قسمات وجهه شتَّى التعبيرات...
" لماذا... تفعل هذا لي ؟؟ "
سألني و عيناه تكادان تنزفان دمعاً مِنْ فرط ما هو فيه... فقلتُ:
" كيف تسألُ يا سامر ؟؟ إنّكَ أخي الوحيد... ليسَ لي في الدنيا شقيقٌ و قريبٌ غيركَ... "
فقال سامر:
" لكنَّني... "
و لمْ تسعفه الكلمات... فقلتُ:
" أنا... لنْ أرى شقيقي الوحيد... ما تبقَّى لي مِنْ أبويَّ... و مِنْ الدنيا... يتعرَّض للخطر و أقف متفرِّجاً. مهما كان حجم ما اقترفتَه... أنا لنْ أسمح لمخلوقٍ بإيذائكَ يا سامر... أرجوكَ... دعني أنفِّذ خطَّتي... ثِقْ بي... "
و ذهبتُ مسرعاً إلى غرفة المعيشة، حيث كنتُ قد تركتُ هاتفي المحمول...
اتَّصلتُ بأبي حسام، فأخبرني بأنّه لا يزال يحوم على مقربة مِنْ المنزل، و أنَّ الشرطة قد غادرتْ و لا شيء يثير الشبهات حول المنزل... فطلبتُ مِنْه المجيء و فور وصوله أدخلتُه إلى داخل المنزل فسألني:
" أين سامر؟؟ "
فأخذتُه إلى المطبخ، حيث كان سامر يجلس، و كذلك كانتْ رغد. الدهشةُ علتْ وجهَي سامر و رغد لدى رؤيةأبي حسام، و الأخير توجَّه مباشرةً نحو سامر و شدَّ على كتفه و هو يقول:
" الحمد لله... إنّكَ لا تزال بخير "
سامر نظر إليَّ بحيرة، فقلتُ:
" إنّه يعرف كلَّ شيء... و هو هنا لمساعدتنا "
و أبو حسام للعلم يعمل في إحدى الدوائر العسكرية، عملاً مكتبيّاً. التفتُّ إليه و قلتُ:
" سآخذ سامر إلى مكانٍ آخر... أرجوكَ ابقَ مع رغد حتَّى أعود... و لا تفتح الباب لأيِّ طارق... سأعود بأقصى سرعة "
" ماذا ؟؟ "
كان هذا صوت رغد تهتف بفزع و هي تهبُّ واقفةً و أمارات الخوف جاثمةٌ على وجهها، ثمَّ تقول:
" لنْ تتركني وحدي هنا "
فقلتُ:
" أبو حسام سيكون معكِ "
فهتفتْ:
" لنْ تتركني في هذا المكان... لا يمكنني البقاء هنا أكاد أموتُ ذعراً... أرجوكَ وليد خذني معكَ "
قلتُ محاولاً طمأنتها و تهدئتها قدر الإمكان:
" يا رغد... المشوار الذي سنقطعه أكثر خطورةً... أنتِ هنا بأمان أكثر... قد يداهمنا رجال الشرطة أو قد يحصل أي شيء في طريقنا. كيف تريدين منِّي أنْ أصطحبكِ ؟ "
تحدَّث أبو حسام موجِّها الخطاب لرغد:
" لا وقتَ لنضيِّعه في الكلام. يجب أنْ نُخرِج سامر مِنْ هنا فوراً "
ثمَّ التفتَ إليَّ و قال:
" هيَّا يا وليد... عجِّل... "
تبادلتُ النظرات مع أخي و أبي حسام ثمَّ عدتُ إلى رغد... و حال منظرها الفظيع دون نطقي بأي تعليق. فقال أبو حسام مستعجلاً:
" الآن وليد "
مسحتُ قطيرات العرق المتجمِّعة على وجهي و عنقي ثمَّ قلتُ موجِّها خطابي إلى رغد:
" ابقي متماسكةً لحين عودتي... لنْ أتأخَّر "
أغمضتْ رغد عينيها ذعراً، لكنّني لمْ استطِع غير المضي قُدماً... التفتُّ إلى شقيقي الجالس على المقعد و قلتُ:
" هيا بنا... توكَّلنا على الله "
لمْ يتحرَّك سامر بادئ ذي بدء... ظهر هادئاً مستسلماً يائساً... و كأنَّ الأمر لا يعنيه أو أنَّه فاقدٌ الأمل في النجاة... نظر أبو حسام إلى سامر و قال مُحثّاً إيَّاه على النهوض:
" هيا يا بُنَي"
و هو يشد على كتفيه. وقف سامر و عيناه تدوران فيما بيننا و أعيننا معلَّقة عليه... ثمَّ نطق أخيراً:
" إلى أينَ ؟؟ "
يسأل عنْ المخبأ الذي خططتُ لنقله إليه، فأجبتُ:
" مصنع والدي "
حملق الجميع بي لبرهة... تعلوهم الدهشة.
مصنع والدي، دُمِّرَ أثناء غزو العدو على المدينة قبل سنوات... و هو الآن مهجورٌ و خرِبٌ و لا تتنازل حتى وحوش البرية للإقامة فيه. يقع المصنع عند أطراف المدينة في مكان ناءٍ، يستغرق الوصول إليه زمناً، خصوصاً و أنَّ الشوارع بقيتْ على حالها مدمَّرة و متقطّعة... أخيراً التفتَ أبو حسام إلى سامر و قال:
" توكَّلا على الله "
و سار أخي و هو يقترب منِّي... حيث كنتُ الأقرب إلى الباب. و عندما صار أمامي... مددتُ يدي إلى ذراعه و قلتُ:
" سامِر... ثِق بي... اِعتمد عليَّ... أعدكَ بأنْ تغادر البلد سالماً بإذن الله... لقد رتّبتُ لكل شيء... النقود تسهِّل كل صعب... "
نظر إليَّ أخي و الهم يعشِّشُ على عينيه... نظرةً هزّتني مِنْ الأعماق... فشددتُ على ذراعه بقوّة و قلتُ:
" أرجوكَ... تشجَّع... و عِدني بأنّك لنْ تضيِّع جهودي عبثاً... عدني بأنْ تلتزم بما أقوله لكَ... و لا تحاول شيئاً أخر... أرجوكَ عِدني "
أحسَّ أخي الرجاء الشديد في نبرة صوتي، و أخيراً نطق:
" أعدكَ... وليد "
فابتسمتُ مشجِّعاً... و شددتُ على ذراعه أكثر، ثمَّ استخرجتُ مِنْ أحد جيوبي... السلاح الذي كنتُ أخفيه... قدّمتُه نحو أخي، و هو ينظر إليِّ مندهشاً... فقلتُ:
" استخدمه إذا اضطررتَ... "
أخذ سامر مسدَّسه مِنْ يدي... و هو يحملق بي غير مصدِّق، ثمَّ خبّأه في أحد جيوبه، ثمَّ عانقني عناقاً أخوياً حميماً. حملنا معنا هاتفي و هاتف سامر، و الذي كنتُ قد احتفظتُ به عندي، و قبل المغادرة التفتُ إلى رغد و العمِّأبي حسام، و قلتُ:
" أمانتكَ لحين عودتي... "
و أشحتُ بوجهي قبل أنْ يحدِثَ منظر رغد في قلبي ثقباً جديداً...
وصلنا إلى المصنع أخيراً. دخلنا أحد المباني؛ المبنى الذي كان يحوي مقصفاً للعمَّال و غرفةَ استراحة. كان المبنى الأقل تضرُّراً و الذي لا يزال سقفه يقف على جدرانه. المكان كان موحشاً جداً... لا يثير في النفس إلا الذعر... لمْ تكنْ هناك أي إنارة عدا بصيصٍ بسيطٍ يتسلَّل عبر نافذةٍ صغيرةٍ قرب السقف...
" سيكون هذا جيداً "
قلتُ ذلك و أنا أنفضُ الغبار و الأتربة عن أريكةٍ مجاورة، و أدعو أخي للجلوس، فردَّ:
" ما هو الجيِّد ؟؟ "
و قد غمره الاستياءُ و النفور الشديدين مِنْ المكان. بقي أخي واقفاً ينظر إلى ما حوله بازدراء. جلتُ ببصري في الغرفة و لمْ استطِع إقناع نفسي بغير شعور أخي... الازدراء... قلتُ مشجِّعاً:
" لبضع ساعات... تُحتَمل "
و أشرتُ إليه أنْ يجلس، لكنّه لمْ يفعل...
أخي منذ صغره، اعتاد العيش في النعيم. منزلنا الكبير في الجنوب... و منزلنا الراقي في الشمال... و شقَّته الفاخرة... أذكر أنّه عندما زارني في المزرعة و رأى الغرفة المتواضعة التي كنتُ أقيم فيها و المنزل البسيط، شعر بالنفور و الازدراء... قلتُ:
" هذا لا شيء... مقارنة بالزنزانة "
و أنا أتذكَّر الزنزانة الفظيعة التي أضعتُ خلف قضبانها القذرة تسع سنوات مِنْ عمري... نظر سامر إليَّ باستسلام، ثمَّ جلس على الأريكة كارهاً. لو لمْ يكن لديَّ ما أُنجزه للضرورة القصوى، لكنتُ بقيتُ برفقته. كيف لي أنْ أترك أخي في مكان مهجورٍ و مرعبٍ و قذرٍ كهذا ؟؟ قلتُ و أنا استعدُّ للمغادرة:
" سأنهي ما لديَّ و أعود إليكَ... "
و أصفتُ:
" كنْ حذراً... ابقِ عينيكَ و أذنيكَ يقظتين و هاتِفْني إنْ حصل شيءٌ على الفور "
أرسل إليَّ أخي نظرةً قرأتُ فيها توسُّلاً... بألاَّ أغيب عنه... فرددتُ على رسالته بنظرة تقول: ("انتظرني")
و هكذا، غادرتُ مصنع أبي المهجور... تاركاً في قلبه شقيقي الوحيد... وحيداً...
اتصلتُ بعد ذلك بالمنزل أطمئنُّ على رغد و أبي حسام و أطمئنهما علينا... و توجَّهتُ بعدها لاستلام الوثائق الضرورية التي تلزمنا للسفر... و أنجزتُ مهاماً أخرى، استغرق منِّي إنجازها وقتاً و جهداً مضاعفين. لنْ تصدّقوا ما اضطررتُ لفعله مِنْ أجل إنقاذ أخي... لمْ أكنْ لأتصوَّر نفسي سألجأ إلى هذا... يوماً مِنْ الأيّام...
عدتُ بعد ساعات إلى المنزل. بمجرَّد دخولي إلى الردهة، وقع بصري على رغد... كانتْ تجلس في الممرِّ... على الأرضية الرخامية... مستندةً إلى الجدار... و مادَّةً رجليها إلى الأمام... و عكازها مرمي إلى جانبها الأيسر و هاتفها إلى جانبها الأيمن... و وجهها مغمور في سحابة داكنة مِن الهلع و الاضطراب...
حينما رأتْني مدّتْ يدها نحوي و نادتني بلهفة:
" و.....ليد "
كان صوتها ضعيفا واهناً... سلبه الخوفُ و الفزع المقدرةَ على التماسك... تقدّمتُ نحوها و جلستُ إلى جانبها... أسندتُ رأسي إلى الجدار... و مددتُ رجليَّ إلى الأمام... مثل وضعها... و أغمضتُ عينيَّ... كنتُ أريد أنْ التقط بعض الأنفاس... أحسستُ بيدها تتشبَّث بذراعي... التفتُّ إليها... و غاصتْ عيناي في بحر خوفها... قلتُ:
" قبل بزوغ الفجر... تبدأ رحلتنا يا رغد "
رغد تحدّثتْ ببقايا صوتها سائلة:
" إلى.... أين ؟ "
فأجبتُ:
" براً إلى البلدة المجاورة... ثمَّ جواً إلى الخارج... إلى دانة "
و شعرتُ بيدها ترتجف... فقلتُ:
" فقط... لنعبر الحدود بسلام... ادعي يا رغد... ادعي مِنْ أعماق قلبكِ... "
أغمضتْ رغد عينيها و كأنّها تلح بدعواتها القلبية... إلى الله... فأعدتُ رأسي إلى الجدار و أغمضتُ عينيّ و لهج قلبي بالدعاء و التوسُّل...
بعد قليل تحدّثتْ رغد قائلة:
" لا أكاد أصدِّق شيئاً يا وليد... لا استطيع أنْ أستوعب ما يجري... أهو كابوس...؟؟ أرجوك قُل لي أنَّه كابوس "
فتحتُ عينيَّ و التفتُ إليها... ثمَّ قلتُ:
" أتمنّى لو أنّه كان كابوساً... ليته كان كابوساً... آه... "
سألتْ و هي غير مصدِّقة:
" لماذا...؟ سامر !! أنا لا أصدِّق... إنّه لا يمكن أنْ يفعل شيئاً... إنّه هادئٌ و مسالمٌ جداً... ماذا فعل؟ و لماذا؟ "
حملقتُ في رغد... و تأوّهتُ بمرارة... و كان صدري على وشك أنْ ينفث أدخنة كثيفة مِنْ الآهات المتألِّمة... لا بداية لها و لا نهاية، غير أنَّ أبا حسام أقبل نحونا قادماً مِنْ مجلس الضيوف... ثمَّ سألني:
" كيف سارتْ الأمور ؟؟ "
فالتفتُّ إليه و أجبتُه:
" كما ينبغي حتَّى الآن... المهم الحدود... "
سمعتُ رغد تقول بقلق:
" ماذا إنْ أمسكتْ بنا الشرطة ؟؟ ماذا سيفعلون بنا ؟؟ "
عضضتُ على أسناني توتّراً... و نظرتُ إليها و أنا لا أجد جواباً... إلا أنْ أقول:
" لا سمح الله... سنكون في مأزقٍ كبيرٍ جداً... "
و جوابي زاد مِنْ ارتجاف يدها حتَّى انتقلتْ خلجاتها إلى ذراعي و هزَّتني... تقدّم أبو حسام، و جلس على عتبات السلّم المجاورة لنا... ثمَّ قال:
" هل يجب أنْ... تأخذها معكما ؟؟ "
فجأة انفلتتْ أصابع رغد و انفتحتْ قبضتها عن ذراعي... و ما كدتُ ألتفت إليها حتَّى انطلقتْ قائلةً بانفعال:
" طبعاً سأذهب معكما "
و كأنها تخشى أنني سأقول غير ذلك. أبو حسام قال:
" تعرف يا وليد أنَّ في الأمر مخاطرة كبيرة... أخرِجْه أوَّلاً... ثمَّ عُد و خُذها أو افعل ما تشاء "
كنتُ لا أزال أحدِّق في رغد... و التي ما كاد أبو حسام يُنهي جملته حتَّى هتفتْ و عيناها تكادان تقفزان مِنْ محجريها مِنْ شدَّة تحديقها بي:
" سأذهب معكما "
فقلتُ مطمئناً و أنا أرى الهلع يجتاح وجه الفتاة:
" لا تقلقي. فأنا لا أفكِّر في ترككِ و السفر إلى خارج البلد "
و سمعتُ أبا حسام يقول:
" و لكن يا وليد... أليس مِنْ الآمن لها أنْ تبقى عند خالتها؟؟ فقط اضمن خروج سامر بالسلامة و اطمئن على نجاته ثمَّ تعال و فكِّر فيما ستفعله "
زفرتُ زفرة طويلة ثمَّ ضغطتُ بيدي على جبيني و سحبتها على شعري و قلتُ:
" لنْ استطيع... لنْ يرتاح لي بال..."
و التفتُ إلى رغد... فإذا ببعض الارتياح يمحو آثار الهلع الأخيرة... لكنَّه كان ارتياحاً قصيراً سرعان ما أربكه كما أربكني رنين هاتفي...
حبستُ نفساً طويلاً و حبسته في صدري، و نظرتُ إلى شاشة الهاتف بهلع... متوقّعاً أنْ يكون هذا سامر... أو أحد الأشخاص الذين أتعامل معهم لتهريبه... أو حتَّى الشرطة... و عندما رأيتُ اسم (المزرعة) يظهر على الشاشة أطلقتُ نفَسِي المحبوس بقوّة... تلحقه أنفاسٌ قصيرة متعثّرة...
" نعم مرحباً "
" مرحبا يا وليد يا بُنيَّ... كيف حالكَ؟ "
لقد كان عمّي إلياس. أجبتُ بعجل دون أنْ ألقي بالاً عليه:
" بخير "
فسألني عنْ أحوال ابنة عمِّي و أحوال العمل و حتَّى أحوال الطقس، فرددتُ مقتضباً:
" بخير، أهناك شيء ؟؟ "
و أحسَّ عمِّي مِن ردِّي و نبرتي أنَّ لديَّ مُشكلة. فسألني:
" ما الأمر يا بنيَّ ؟؟ "
فأجبتُ بضيق:
" آسف. أنا مشغولٌ الآن "
فقال:
" حسناً. هل لا اتَّصلتَ بي بعدها ؟؟ "
فجذبتُ نفساً و رددتُ:
" أنا مشغولٌ جداً يا عم "
امتزج القلق بنبرة عمِّي و هو يسأل:
" أأنتَ على ما يُرام ؟؟ "
فأجبتُ:
" أجل و لكن لدي مشاكل حرجة "
" إذن... لنْ تأتيَ اليوم أيضاً ؟؟ "
لقد كان يوم الخميس... و كان يُفترض بي السفر إلى المزرعة لحل مشكلتي مع أروى الأسبوع الماضي، و أجّلتُ السفر بسبب سفر أخي المفاجئ، و اضطراري للبقاء مع رغد... و الآن أرجئه إلى أجلٍ غير مسمى بسبب الورطة الحرجة التي نمر بها...
قلتُ:
" لا يمكن... "
و أضفتُ:
" عمِّي... سأغيب لفترةٍ غير محدَّدة "
صمتَ عمِّي برهة، لابد و أنّه تضايق مِن ردِّي... في حين أنّه ما فتئ يتَّصل بي و يطلب حضوري مِنْ أجلأروى... سمعتُه بعد البرهة يقول:
" و لكن أروى.... "
و لمْ أسمع ما قال بعدها... إذ أنَّ هاتفي قد استقبل اتصالاً آخر... و فور إلقائي بنظرةٍ سريعة على الشاشة أجبتُ المكالمة الثانية بلهفة:
" نعم سامر هل أنتَ بخير ؟؟ "
و قلبي ينزلق مِنْ صدري كما تنزلق قطرات العرق مِنْ جبيني...
ردّ سامر قائلاً:
" نعم وليد... ألنْ تأتي ؟ المكان موحشٌ هنا جداً "
ازدردتُ ريقي ثمَّ قلتُ:
" هل سمعتَ شيئاً ؟؟ هل حدث شيءٌ ؟؟ "
فقال:
" رأيتُ أفعى مِنْ حولي... الشمس توشِك على المغيب و لنْ استطيع رؤية حتَّى يدي... اجلبْ لي مصباحاً "
علّقتُ:
" تقول أفعى ؟؟ "
فقال:
" نعم. و مَنْ يدري ؟ ربَّما يوجد عقارب أو ما شابه... و الجو حارٌ و خانقٌ جداً "
" إذن الزم الطابق العلوي. و لو فوق السطح... أنا قادمٌ إليكَ الآن "
" نعم أرجوكَ "
" توخَّ الحذر... يحفظكَ الله "
و أنهيتُ المكالمة و هببتُ واقفاً فهبّتْ رغد مستندة إلى عكّازها و وقف أبو حسام تباعاً... قلتُ:
" سأعود إليه "
فهفتْ رغد:
" لا تتركني مجدداً أرجوك! "
فقلتُ مخاطباً إياها:
" سآخذ إليه بعض الطعام و الماء و مصباحاً يدوياً... و أبقى لمؤانسته بعض الوقت فالمكان هناك شديد الوحشة "
قالتْ رغد:
" و أنا ؟؟ "
نقلتُ بصري بين رغد و أبي حسام و كدتُ أنطق بجملتي التالية إلا أنَّ أبا حسام سبقني قائلاً:
" دعني أذهب أنا هذه المرَّة، و ابق أنتَ مع ابنة عمّك و نل قسطاً مِنْ الراحة. لا يزال أمامكَ الكثير "
ركّزتُ نظري عليه يعلوني التردُّد... فقال:
" هاتْ ما يحتاجه... سأبقى برفقته حتى تأتياننا فجراً "
استدركتُ:
" و... لكن... يا عم... "
و لمْ أكنْ أعرف ما أريد قوله... و تولَّى أبو حسام دفَّة الكلام و قال:
" قضاء ليلةٍ كاملة وحيداً في مكان مهجورٍ و منقطعٍ عن العالم، فيما الشرطة تبحث عنكَ و الخطر يحيط بكَ هو ليس بالأمر المتحمَّل... لا يجب أنْ نتركه بلا رفيق. سأبقى معه في انتظار مجيئكما صباحاً "
و هكذا اتفقنا على أنْ يذهب أبو حسام حاملاً الحاجيات إلى سامر و يبقى برفقته تلك الليلة...
كنتُ أعرف حتَّى الآن... أنّها لنْ تكون مجرَّد ليلة عادية... بل ستكون... ليلة رعبٍ و قلق و أرقٍ متواصل... و أنني و إنْ كنتُ سأقضيها في منزلي جسدياً، فسأقضيها مع سامر روحياً و قلبياً... و أنَّني لنْ أعرف للنوم طعماً و لا للبال راحةً و سأبقى أترقَّب ساعةً بعد ساعة... أذان الفجر... الذي ستعقبه رحلة الفرار...
هكذا كنتُ أتوقَّع لتلك الليلة أنْ تكون... مِنْ أسوأ ليالي عمري... لكنِّي، و رغم كل توقُّعاتي و توجّساتي... وجدتُها قد اجتاحتْ كل الحدود... و أتتْ أشدّ و أقسى مِنْ أنْ تخطر لي على بال... على الإطلاق...
ليلة الرعب الأعظم في حياتي تلك... الأفظع و الأبشع و الأشنع على الإطلاق... قضيتُها... مع... و فقط مع... صغيرتي البريئة... شريكة المواقف الفظيعة... و الحوادث المريعة... فتاتي الحبيبة... رغد...